هل تنجح خطة “الكاظمى” فى إنقاذ الاقتصاد العراقى؟
تتجه الأنظار إلى المشهد السياسى والاقتصادى فى العراق بعد انعقاد مؤتمر “بغداد للتعاون والشراكة” الذي انتهت فعالياته أمس في الثامن والعشرين من أغسطس 2021، بحضور تسع دول من دول الجوار الإقليمي وأوروبا، بهدف استعادة الدور الإقليمي للعراق بما يؤمن استقراره وازدهاره الاقتصادي وبناء شراكات اقتصادية مع دول المنطقة، والذى سبقه إعلان رئيس الوزراء العراقى “مصطفى الكاظمى” فى الثانى من أغسطس 2021، عن إطلاق خطة الإصلاح الاقتصادى بالبلاد ضمن مشروع الورقة البيضاء التى تم إطلاقها نهاية العام الماضى 2020، مما يثير العديد من التساؤلات حول مدى نجاح الجهود الحكومية الحثيثة لمعالجة الأزمة الاقتصادية العراقية وخطة الإصلاح الاقتصادية التى أعلنها “الكاظمى” وقبول القوى والأحزاب السياسية لها ومستقبل الاقتصاد العراقى للخروج من أزمته الممتدة منذ سنوات.
واقع الاقتصاد العراقى:
يواجه الاقتصاد العراقي في السنوات الأخيرة العديد من التحديات، التى عكست كافة الأوضاع السياسية السيئة التى مرت بها العراق خلال العقود الماضية، والمتمثلة فيما خاضته من حروب دموية (الحرب مع إيران 1980-1988، وغزو العراق للكويت 1990) وسنين طويلة من الحصار الاقتصادى لمدة ثلاثة عشر عاما ( 1991- 2003)، وتلاها الغزو الأمريكى للعراق (2003-2011)، والصراع مع تنظيم داعش الإرهابى، وما سببه من تدمير جزء كبير من البنى التحتية بالمدن التى كانت تحت سيطرة التنظيم بلغ أكثر من 45 مليار دولار.
بالإضافة إلى طبيعة الاقتصاد العراقى، والذى يعتبر اقتصاد أحادى لاعتماده على النفط للحصول على أكثر من 90% كمصدر للدخل، وهو ما جعله أكثر عرضة للتقلبات فى أسعار النفط والأسواق العالمية إلى جانب التداعيات السلبية لجائحة كورونا من ضغط على النفقات العامة وتأثرا بإجراءات الغلق لمواجهة تفشى الجائحة والتراجع الكبير فى أسعار النفط العالمية خلال الفترة (مارس إلى بداية ديسمبر 2020) والذى وصلت فيه أسعار العقود الآجلة إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2002 عند 23 دولار للبرميل خام برنت فى 27 أبريل 2020، بما أدى إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية، وتعميق الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، حتى بات الاقتصاد العراقى حاليًا يمر بأسوء انكماش اقتصادى منذ سقوط نظام “صدام حسين” على يد الاحتلال الأمريكى عام 2003، حيث حقق الناتج المحلى الإجمالى نمواً سالبا بلغ 10% عام 2020، بعد نموه الإيجابي بنسبة 4.4% عام 2019، بسبب انخفاض الطلب العالمي على النفط والتزام العراق بخفض الإنتاج بموجب اتفاقية أوبك بلس وانكماش الاقتصاد غير النفطى بنسبة 9%.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات البنك الدولى
كما تعانى العراق على مدى تاريخها من مشكلة ارتفاع الدين العام، نتيجة الاقتراض للتمويل العسكري ضد حربي إيران والكويت وتوالت بالعقوبات التى فرضها مجلس الأمن الدولي على العراق، بالإضافة إلى تعويضات للدول والهيئات والشركات والأفراد الذين تضرروا من أعمال التدمير والسلب التي قامت بها القوات العسكرية العراقية خلال اجتياحها للكويت. ورغم ديون الدول الدائنة من أعضاء النادي بنسبة ۸۰ % من مجموع المديونية بعد مفاوضات أجرتها الحكومة العراقية مع النادى عام 2004، إلا أن الدين العام فى العراق مازال فى ارتفاع مستمر ليبلغ 160 مليار دولار فى فبراير 2021، وبلغت نسبة الدين الحكومى من الناتح 83%، مقارنة بـ 48.8% عام 2019، خارجًا بذلك عن الحدود الآمنة لنسبة الدين من الناتج (40-50%) وهو بما يدلل على عدم ملائمة الالتزامات المتمثلة فى فوائد وأقساط مستحقة للديون للوضع الاقتصادى الراهن، ويعوق تحويل النفقات العامة لمساراتها الصحيحة وفق احتياجات الدولة من تطوير للبنى التحتية والخدمات الأساسية (كهرباء ومياه) والتعليم والصحة.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات صندوق النقد الدولى
وبالوقوف على مدى هشاشة دولة العراق وفقا لمؤشر الدولة الهشة، والذى يُعد من أهم المؤشرات التى تشير إلى حدة التهديدات الداخلية والخارجية التى تواجه الدولة، والذى يصدره صندوق السلام ومجلة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة منذ عام 2005، باعتماده على 12 مؤشرًا فرعيًّا لقياس درجة حدة التهديدات السياسية والأمنية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية التي تواجهها الدول، والتي تتسبب في تصدعها وإخفاقها في أداء وظائفها الأساسية، تقع العراق من بين أعلى 20 دولة هشة فى العالم، حيث احتلت الترتيب الـ 17 من بين 178 دولة 2020، مقابل الترتيب الـ 13 عام 2019، والثانى عام 2007، وإذا كان يشير هذا التقدم فى الترتيب العالمى إلى التحسن فى وضع العراق، ولكنه مازال مؤشر سيئ عن خطورة تلك التهديدات.
خطة الإصلاح الاقتصادى:
فى محاولة من الحكومة العراقية برئاسية “مصطفى الكاظمى” لوضع حلولا تساعد على خروج الاقتصاد العراقى من أزمته وتعيد له دوره الإقليمي وتغير من طبيعته الأحادية ويحسن من إدارة الوضع المالى، تم إطلاق برنامجاً وطنياً عُرف باسم الورقة البيضاء فى أكتوبر 2020، يهدف إلى تحقيق النمو المستدام على المدى المتوسط، من خلال تطبيق مجموعة من الإصلاحات قائمة على خمسة محاور تشمل: تحقيق الاستقرار المالي المستدام، وتحقيق إصلاحات اقتصادية كلية، وتوفير الخدمات الأساسية وتطوير الحوكمة والبيئة القانونية، وتحسين البنى التحتية الأساسية، وتوفير الخدمات الأساسية.
ويقوم هذا البرنامج على مجموعة من الإجراءات بهدف خفض النفقات العامة للدولة، من ضمنها تخفيض الأجور والرواتب من الناتج المحلى الإجمالى من 25% إلى 12.5% وإعادة هيكلة سلم الرواتب العامة وإيقاف تمويل صندوق التقاعد من الموازنة بشكل تدريجى، وخفض الدعم للشركات المملوكة للدولة بنسبة 30% كل عام لمدة 3 سنوات، تخفيض إجمالى الدعم الحكومى كنسبة من الناتج من 13% إلى 5% خلال 3 سنوات وإعادة هيكلة الدين الحكومى المحلى والخارجى، بالإضافة إلى زيادة الإيرادات العامة من خلال مجموعة قرارات وإجراءات من بينها مواصلة محاربة الفساد بتفعيل برنامج استرداد الأموال المهربة والمسروقة وإصدار سندات وصكوك وطنية وعرضها للتداول العام بسوق الأوراق المالية، وزيادة إيرادات الجمارك والضرائب بتحسين الإدارة والتحصيل وتطوير نظام ضريبى جديد، وتحديث الإدارة المالية العامة.
وفى خطة التحول إلى اقتصاد متنوع يستهدف البرنامج العمل على تأهيل القطاعات المالية وتفعيل القطاعات المحركة للاقتصاد بما فى ذلك الزراعة والنفط والغاز، وتوفير البيئة الملائمة لتحقيق زيادة فاعلية مساهمة القطاع الخاص فى النشاط الاقتصادى، وهيكلة الشركات العامة الممولة ذاتيا.
وعلى الجانب الأخر فلم يغفل البرنامج ضرورة الاهتمام بقطاعى التعليم والصحة اللذان شهدا الكثير من الإهمال على مدار العقود الماضية، حيث يعانى تلك القطاعين من ضعف الميزانية بشكل لا يسمح بتطويرها وأدى إلى ظاهرة تكدس الطلاب بالمدارس فضلا عن وجود 96% من الجامعات العراقية غير معترف بها دولياً، كما تتسم العراق بارتفاع نسبة الأمية بها بين البالغين (15 عام فأكثر) والتى بلغت نحو 79.72% لعام 2015 فضلا عن تردى مستوى الخدمات الصحية، ولهذا يستهدف برنامج الورقة البيضاء تبنى استراتيجية وطنية للتعليم والتدريب تربط مخرجات التعليم بالحاجة المستقبلية لسوق العمل، واستكمال تشريع قانون الضمان الصحى وتطبيقه ليكون الممول الاساسى للقطاع الصحى لكافة المواطنين.
وتحسين البنى التحتية الأساسية بتطوير قطاع الكهرباء والتوجه للاعتماد على الطاقة الشمسية وترشيد الاستهلاك والتوسع فى الإنتاج، إلى جانب توفير المياه الصالحة للشرب والزراعة واستكمال شبكات الصرف الصحى؛ وذك فى ظل ما تعانيه العراق من أزمات قلة مياه الشرب والجفاف الناتج عن قيام إيران بتحويل مجرى الأنهار وإطلاق مياه البزل المالحة إلى شط العرب وبدء تركيا ملء سد إليسو، مما أدى إلى زيادة ملوحة ماء شط العرب وانخفاض المياه الصالحة للشرب، وتُعد محافظة البصرة والسليمانية من اكثر المحافظات تأثراً بتلك الأزمة، فوفقاً لمؤشر نسبة السكان الذين يستخدمون مياه شرب مدارة بشكل آمن تبلغ تلك النسبة 58.8% من إجمالى السكان و64.1% من إجمالى السكان فى الحضر و46.5% من إجمالى السكان فى الريف للعام 2017، ولم تشهد تلك النسب أى تغير ملحوظ منذ العام 2000 سوى فى الريف؛ حيث زادت بنحو 19.4 نقطة مئوية. ووفقاً للبرنامج الإنمائى للأمم المتحدة، يتوافر لدى 30% فقط من إجمالى الأسر فى العراق شبكات صرف صحي.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على قاعدة بيانات البنك الدولى
وفى مواكبة للاتجاهات العالمية لتبنى مجتمعات رقمية، يستهدف البرنامج تحويل الاقتصاد إلى مجتمع رقمى عبر إدخال تكنولوجيا الجيل الرابع وإدخال الخدمات المالية الرقمية والمنصات الرقمية.
كما لم يغفل البرنامج ضرورة مساندة محدودي الدخل لدعم قدرتهم على تحمل عملية الإصلاح فى ظل وجود 40% من السكان العراقيين يعانون من الفقر، خاصة وأن البرنامج استهداف خفض الدعم الحكومى والرواتب وإصلاح الخلل فى نظام البطاقة التموينية وتطبيق جدولة زمنية للخروج التدريجى من نظام البطاقة التموينية وذلك من خلال تبنى نظام موحد وفعال لمحدودى الدخل، وتعويض المشمولين بالنظام بشبكة الحماية الاجتماعية بمبالغ شهرية.
سيناريوهات محتملة:
على الرغم من أن خطة الإصلاح الاقتصادي التى تسعى الحكومة العراقية إلى تطبيقها بهدف وضع حل جذرى للأزمة الاقتصادية التى أصبحت تتفاقم يومًا بعد يوم وزيادة المديونية المستمرة، إلا أن نجاح هذه الإصلاحات يواجه ثلاث من السيناريوهات المحتملة والتى تعتمد على توافر الإرادة السياسية والدعم الشعبي للخروج من الوضع الهش الذي تمر به البلاد، وتتمثل هذه الإصلاحات فيما يلى:
(*) السيناريو الأول: نجاح التنفيذ والخروج بالاقتصاد العراقى من أزمته: وذلك فى حالة توافر الإرادة السياسية والدعم الشعبي للخروج من الوضع الهش الذي تمر به العراق، واستكمال العراق لمفاوضتها مع صندوق النقد الدولى التى بدأت فى العام الماضى وتم استئنافها فى 5 أغسطس 2021 للحصول على قرض تتراوح قيمته بين 3 أو 4 مليار دولار، والحصول على دعم من المجتمع الدولى ودور الجوار فى مؤتمر “بداد للتعاون والشراكة”، مما سيساهم فى تعزيز السيولة وزيادة قدرة الاقتصاد العراقى على مواجهة التزاماته قصيرة الأجل وتطبيق الإصلاحات الاقتصادية وتمويل تطوير للبنى التحتية والخدمات الأساسية.
(*) السيناريو الثانى: تعطل تنفيذ خطة الإصلاح: وهو سيناريو متوقع نظرًا لاعتراض بعض القوى السياسية الكبيرة داخل العراق على برنامج الورقة البيضاء كتحالف الفتح، وائتلاف المالكي، والقوى الحليفة لها، واقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة فى 10 أكتوبر 2021 وإعلان بعض القوى السياسية نيتها بمقاطعة الانتخابات من بينهم التيار الصدرى والحزب الشيوعى العراقى، بما قد يجعل الحكومة العراقية تواجه صعوبة فى تنفيذها، هذا إلى جانب فشل الحكومات العراقية السابقة فى تنفيذ العديد من الإصلاحات التى انطوى عليها برنامج الورقة البيضاء.
(*) السيناريو الثالث: تنفيذ الخطة مع مواجهة صعوبات واضطرابات داخلية: وهو سيناريو متوقع أيضًا فى ظل الطبيعة التى اتسم بها الشارع العراقى منذ عام 2011، بالاحتجاجات التى تصعد بين الحين والأخر وتمكن الحكومة العراقية من احتوائها، وكان أخرها احتجاجات عام 2018 و2019 والتى كانت بسبب تردى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وسوء الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء، لاسيما وأن برنامج الورقة البيضاء يهدف إلى تطبيق بعض الإجراءات التى من شأنها التأثير على المستويات المعيشية للمواطنين من خفض للرواتب والدعم الحكومى.
إجمالا يمكن القول، بأن خطة “الكاظمى” وما اشتملت عليه من محاور تتسم بالتخطيط المدروس والملائم لوضع الاقتصاد العراقى، ولكن يظل تنفيذها يظل مرهونًا بوجود حكومة قادرة على تطبيقها وعلى استعداد للتغلب على أية صعوبات قد تواجه تنفيذها ودعم من المجتمع الدولى، ومرونة فى التعديل استجابة لأية تغيرات قد تطرأ، كما أنها مرهونة أيَا وبكل كبير بوجود حاضنة سياسية داعمة لإجراء إصلاحات الحكومة، مع تقبل شعبي لها، وقدرة الدولة بالحفاظ على الاستقرار السياسى والقضاء على الإرهاب.