هل تنجح وساطة الجزائر في حلحلة أزمة سد النهضة؟
انخفضت حدة التوتر المرتبطة بأزمة ملف سد النهضة الإثيوبي نسبياً خلال الفترة الأخيرة، وذلك بعدما فشلت أديس أبابا في إتمام عملية الملء الثاني للسد بالكمية التي كانت تخطط لها مسبقاً والمقدرة بحوالي 13.5 مليار متر مكعب، إذ لم تتمكن حكومة “آبي أحمد” من تخزين سوى أقل من ربع هذه الكمية، مع انشغال الحكومة بالصراعات الداخلية المتفاقمة التي يتسع نطاقها بشكل مستمر، والتي باتت تهدد وحدة وتماسك الدولة الإثيوبية، مع تصاعد مؤشرات اقتراب نهاية حقبة “آبي” في الحكم بعد تصاعد نسب الرفض له في الأقاليم المختلفة، ومن ثم باتت الحكومة الإثيوبية غير قادرة على فتح باب جديد من الصراعات الخارجية، حتى لاستخدامها كورقة تعزز من خلالها موقفها الداخلي.
من ناحية أخرى، شهدت الجزائر نهاية الأسبوع الأول من يوليو الماضي الإعلان عن تشكيل أول حكومة جديدة برئاسة “أيمن بن عبد الرحمن” والتي تمخضت عن الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أفرزت أغلبية رئاسية مهدت الطريق أمام الرئيس “عبد المجيد تبون” لتسمية رئيس جديد للحكومة، وقد مثلت أبرز ملامح التغيير في الحكومة الجديدة في استبعاد وزير الشئون الخارجية “صبري بوقادوم” وإعادة “رمضان العمامرة” (رمطان لعمامرة) الدبلوماسي المخضرم إلى منصبه السابق والذي يتولاه للمرة الثالثة، حيث سبق أن شغل “لعمامرة” هذا المنصب مرتين في عهد الرئيس السابق “عبد العزيز بوتفليقة”، وهو ما عكس العديد من الدلالات بشأن توجه السياسة الخارجية الجزائرية خلال المرحلة المقبلة، والتي انعكست أحد ملامحها سريعاً بعد أسبوعين فقط من عودة “رمطان لعمامرة” لمنصبه من خلال انخراط الجزائر في ملف سد النهضة، في محاولة للعب دور الوسيط بين الدول الثلاثة لحلحلة هذه الأزمة. وفي هذا السياق يسعى هذا التحليل إلى قراءة دلالات وأبعاد هذه التحركات من قبل الجزائر، واحتمالات نجاحها.
تجربة سابقة:
نجحت الجزائر مطلع الألفية الجديدة في الوساطة بين إثيوبيا وإريتريا وإنهاء الحرب التي اندلعت بينهما في عام 1998م، وهو ما تحتج به بعض التقارير للإشارة بأن الجزائر تمتلك خبرة سابقة في الوساطة في أزمة تكون أديس أبابا أحد أطرافها، بيد أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن اعتبارات الزمان والمكان، فضلاً عن اختلاف الأطراف الأخرى وطبيعة الأزمة ذاتها يمثل تحدياً كبيراً أمام إمكانية تحقيق الجزائر نجاحاً مماثلاً في هذا الملف.
لكن، ثمة ضرورة لفهم العلاقات المتشابكة التي يتمتع بها وزير الخارجية الجزائري “رمطان لعمامرة” بالعديد من دول القارة الإفريقية، خاصةً وأنه شغل منصب مفوض الأمن والسلم في الإتحاد الإفريقي لفترة طويلة، ومن ثم ربما يمث ذلك أحد الأوراق الهامة التي تراهن عليها الجزائر في هذا الشأن، خاصةً وأن إثيوبيا تتمتع بعلاقات جيدة مع الجزائر منذ سنوات طويلة، ربما تعود إلى نهاية ستينيات القرن الماضي عندما بدأت العلاقات الدبلوماسية بينهما، خاصةً بعدما افتتحت الجزائر سفارتها في أديس أبابا، بينما افتتحت الأخيرة سفارتها في الجزائر في عام 2016م.
جولة جزائرية:
وفي هذا الإطار، جاءت الزيارة الثانية لوزير الخارجية الجديد “رمطان لعمامرة” إلى إثيوبيا – بعد زيارته الأولى إلى تونس- حيث تم بحث سبل تعزيز العلاقات بين الجانبين من خلال توسيع التعاون في التجارة والاستثمارات والسياحة، كما تم الاتفاق مبدئياً على فتح الخطوط الجوية المباشرة بين الجانبين، وقد عقد الوزير الجزائري لقاءات مع رئيسة إثيوبيا و”آبي أحمد” رئيس الحكومة، و”ديميكي ميكونين” وزير الخارجية، كما تضمنت الزيارة تقدم إثيوبيا بطلب رسمي إلى الجزائر للعب دور الوسيط في أزمة سد النهضة، مُدعية نية أديس أبابا في الاستخدام المنصف والعادلة، كما أعلن وزير الخارجية الإثيوبي “ديميكي ميكونين” استعداد بلاده لاستئناف المفاوضات الثلاثية بشأن سد النهضة برعاية الإتحاد الإفريقي، كذا طلب الوزير الإثيوبي تدخل الجزائر أيضاً للوساطة بين بلاده والسودان لحلحلة الأزمة الحدودية بينهما.
أيضاً، عقد “لعمامرة” لقاءات في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بعدد من المسئولين في مفوضية الإتحاد الإفريقي على رأسهم مفوض الإتحاد الإفريقي للشئون السياسية وقضايا السلم والأمن “بانكولي أديوي”، ونائبة رئيس المفوضية “مونيك نسانزاباجانوا”، حيث أكد “رمطان لعمامرة” على دعم بلاده للجهود الرامية إلى تعزيز فاعلية الإتحاد الإفريقي، مع ضرورة الالتزام بالمبادئ والأهداف الحاكمة له، واستعداد الجزائر على الانخراط في حلحلة الأزمات والنزاعات في القارة الإفريقية.
وقد جاءت زيارة وزير الشئون الخارجية الجزائري لإثيوبيا في إطار جولة خارجية له، ففي أعقاب هذه الزيارة توجه الدبلوماسي الجزائري إلى السودان حيث التقى هناك بالفريق أول “عبد الفتاح البرهان” رئيس مجلس السيادة الانتقالي، و”عبد الله حمدوك” رئيس الوزراء، و”مريم صادق المهدي” وزيرة الخارجية، ويعد “لعمامرة” هو أول مسئول جزائري يزور الخرطوم منذ سقوط نظام “عمر البشير”، وربما تمثل هذه الزيارة مقدمة لتعاون أوسع بين الخرطوم والجزائر في عدة مجالات.
وقد أختتم “لعمامرة” جولته بزيارة إلى مصر، تعد هي الأولى لوزير خارجية جزائري لمصر منذ تولي الرئيس “عبد المجيد تبون” السلطة نهاية عام 2019م، بيد أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن وزير الخارجية الجزائري عمد إلى التواصل مع نظيره المصري “سامح شكري” في وقت مبكر بعد عودة الأول لتولي حقيبة الخارجية مرة أخرى في الجزائر، وقد التقى “رمطان لعمامرة” خلال زيارته بمصر بالرئيس “عبد الفتاح السيسي” في حضور وزير الخارجية المصري والسفير الجزائري في مصر “محمد لعجوزي”، حيث شهد اللقاء بحث تعزيز التعاون بين الدولتين في عدة مجالات ثنائية، فضلا عن بحث التنسيق والتوافق في عدة ملفات إقليمية لعل أبرزها الملف الليبي، والتطورات في تونس، ومكافحة الإرهاب، كما التقى “لعمامرة بالأمين العام لجامعة الدول العربية ” أحمد أبو الغيط” وذلك للتحضير للقمة العربية القادمة والتي تستعد الجزائر لاستضافتها.
لماذا الآن؟:
في إطار المعطيات الإقليمية والدولية الراهنة، يمكن الإشارة إلى جملة من المحددات التي ربما تفسر التحرك الجزائري الراهن، تتمثل فيما يلي:
(*) البحث عن دور إقليمي: فقد عانت الجزائر خلال السنوات الأخيرة – حتى قبل سقوط نظام بوتفليقة- من تراجع ملحوظ في دورها الإقليمي، في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجهها الجزائر، بيد أن عودة الدبلوماسي الجزائري المخضرم “رمطان لعمامرة” يعكس عن وجود توجهات جديدة لدى السلطة الجزائرية الراهنة للعمل على تكثيف تحركاتها الخارجية لمحاولة استعادة دورها الإقليمي، وذلك من خلال الاعتماد على سياسة الانخراط في الأزمات الإقليمية ولعب دور الوسيط الفعال في حلحلتها، وفي هذا الإطار لا يمكن تجاهل التغييرات التي طرأت على الدستور الجزائري والتي بموجبها تستطيع الجزائر المشاركة عسكرياً لأول مرة في تاريخها في مهام حفظ السلم والأمن الإقليمي، وهو ما يعكس تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية الجزائرية تصب في مجملها في دعم الطرح الخاص بتعزيز دورها الإقليمي.
وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن الجزائر تبحث عن تنمية دورها الإقليمي لمحاولة الاستناد إليه في مواجهة الملفات الإقليمية الشائكة التي تواجهها، خاصةً فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية وعلاقتها مع المغرب، ويمكن قراءة ذلك في اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الجزائري بمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأوسط “جوي هود”، لتعزيز الحوار الاستراتيجي بين البلدين، والذي ربما يكون قد تضمن الحديث عن دور جزائري في محاولة الوساطة في ملف سد النهضة، والعمل على إيجاد حلول توافقية له.
(*) التنافس على القارة الإفريقية: حيث تسعى الجزائر لتعزيز علاقاتها بالدول الإفريقية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، للاستفادة من ذلك في تنمية اقتصادها الذي يعاني كثيراً منذ تراجع أسعار النفط منذ عدة سنوات، وبالتالي تسعى الجزائر لفتح مزيد من الأسواق الإفريقية أمام منتجاتها، ونسج شبكة واسعة من العلاقات بالدول الإفريقية، ولا يمكن اقتطاع هذا الأمر عن السياق العام الخاص بالتنافس الجزائري- المغربي والذي يعد أحد ملامحه هو محاولة تعزيز علاقة كل منهما بأكبر عدد من الدول الإفريقية، ولعل هذا ما يفسر بدرجة كبيرة عودة وزير الخارجية “لعمامرة” ليتولى وزارة الخارجية.
(*) انزعاج الجزائر من موافقة الإتحاد الإفريقي منح إسرائيل صفة المراقب في الإتحاد، وثمة اعتقاد لدى الجزائر بأن أديس أبابا (التي تضم مقر الإتحاد الإفريقي) تقف وراء هذا الأمر لمحاولة الحصول على دعم تل أبيب لها في قضايا الإقليمية ومنها أزمة سد النهضة، ومن ثم تسعى الجزائر لمحاولة التواصل مع مختلف الأطراف للحيلولة دون إتمام هذا الأمر، لتخوفها من تداعياته على تصاعد مستوى التنافس على القارة الإفريقية والتأثير على محاولاتها تعزيز دورها في القارة، فضلا عن تخوفها من تأثير ذلك على تنافسها مع المغرب، خاصةً في ظل العلاقات المتنامية بين الأخيرة وتل أبيب.
(*) استعداد الجزائر لتولي رئاسة الإتحاد الإفريقي خلفاً للرئيس الحالي للدورة الراهنة جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث تسعى الجزائر للانخراط بشكل سريع واستباقي في الملفات الإفريقية لتهيئة علاقاتها بالدول الإفريقية بدرجة تمكنها من تعزيز التعاون في مختلف المجالات عبر اتفاقيات متعددة.
(*) تعزيز علاقاتها مع القاهرة، للاستفادة من التجربة المصرية في مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار والتنمية، وهو ما أشار إليه الوزير الجزائري في زيارته الأخيرة لمصر، إلى جانب العمل على تنسيق المواقف مع القاهرة في عدة ملفات مشتركة في مقدمتها الملف الليبي والتطورات في تونس إلى جانب التوترات الراهنة في منطقة الساحل والصحراء، كما لا يستبعد أن تسعى الجزائر لدور مصري كوسيط لحلحلة أزمتها المتفاقمة مع المغرب.
احتمالات النجاح؟:
تشير غالبية التقديرات إلى أن ثمة شكوك في قدرة الجزائر على لعب دور الوسيط الفعال في حلحلة أزمة سد النهضة، وذلك نظراً لمدة تعقيد هذا الملف بسبب التعنت الإثيوبي، والتي تجعل هذا الملف مغايراً بدرجة كبيرة عن الملفات التي نجحت الدبلوماسية الجزائرية في اختراقها وتحقيق تقدماً فيها، وربما تمثل الخبرات السابقة في هذا الملف خير دليل على ذلك، فقد سبقت الولايات المتحدة الانخراط كوسيط في هذه الأزمة فترة ولاية الرئيس السابق “دونالد ترامب” وبعد التوصل إلى اتفاقا مقبولاً من قبل كافة الأطراف، فوجئ الجميع بانسحاب أديس أبابا ورفضها التوقيع، ومن ثم لا يمكن التعويل كثيراً على الجانب الإثيوبي، وأي إخفاق محتمل للوساطة الجزائرية سيعزى بالأساس إلى الموقف الإثيوبي المتعنت.
من ناحية أخرى، يشير البعض بأن هناك اختلافا في هذه الوساطة عن المحاولات السابقة، تتمثل في كون إثيوبيا هي التي تقدمت بطلب الوساطة إلى الجزائر، وهو ما فسره البعض بأنها محاولة من قبل أديس أبابا لتفكيك وحدة الموقف العربي الداعم للحقوق المشروعة لكل من مصر والسودان، والذي تجلى بوضوح في موقف الجامعة العربية، ويستند أنصار هذا الرأي إلى إشارة وزير الخارجية الإثيوبي إلى رغبته في قيام الجزائر بدور الوساطة لمحاولة “تصحيح التصورات الخاطئة للجامعة العربية” على حد تعبيره.
كذلك، يرى فريق آخر بأن إثيوبيا طلبت هذه الوساطة كنوع من المناورة لقطع الطريق أمام مطالبات مصر والسودان بوساطة دولية إلى جانب الإتحاد الإفريقي، ومن ثم التعويل على وسيط عربي لا يتوقع أن ترفضه دولتي المصب لمحاولة كسب مزيد من الوقت، يساعدها على تخفيف حدة التوتر في أحد الجبهات الداخلية، والتركيز على الجبهات الداخلية المتفاقمة، خاصة بعدما اتسعت رقعة الصراعات الداخلية ولم تعد تقتصر على إقليم التيجراي، بل باتت تشمل العفر وغامبيلا وبني شنقول، وتحركات إقليم الأورومو لاستغلال حالة السيولة والتقدم نحو العاصمة أديس أبابا لتوسيع رقعة سيطرتهم، كما وصلت مستوى الخلافات حتى بين حكومة “آبي أحمد” وحلفائه من الأمهرا، وقد باتت السيناريوهات المطروحة تتراوح بين إمكانية تحالف التيجراي والأورومو ضد حكومة “آبي”، أو توسع المليشيات المسلحة مع احتمالات دخول العاصمة أديس أبابا، فيما يرجح سيناريو آخر احتمالات تدخل الجيش الإثيوبي واستبعاد “آبي أحمد” كمحاولة لوقف الصراعات المتفاقمة والحيلولة دون تشرذم وحدة الدولة، وفي جميع الأحوال تنذر المعطيات بأن الحكومة الإثيوبية تواجه تحديات وجودية في الوقت الراهن، ربما يكون هذا هو الدافع وراء محاولة تخفيف حدة التصعيد في ملف سد النهضة، لعدم قدرتها على التعامل مع أكثر من جبهة، وهو ما يعزز من احتمالات أن يكون طلب إثيوبيا من الجزائر للوساطة محاولة فقط للمناورة وكسب الوقت.
في النهاية، على الرغم من وجود رأي يدعم احتمالية تحقيق الجزائر نجاحاً في الوساطة لحلحلة أزمة سد النهضة، إلا أن حتى هذا الرأي يتوقع أن يقتصر الدور الجزائري في إعادة أطراف الأزمة الثلاثة إلى طاولة المفاوضات فقط، وليس تحقيق حسم لهذه الأزمة والتوصل إلى اتفاق بشأن نقاط الخلاف المرتبطة بها، فعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط الجزائر وإثيوبيا – والتي يتوقع أن تشهد مزيداً من التنامي خلال الفترة المقبلة- فضلاً عن خبرات الدبلوماسية الجزائرية الطويلة في لعب دور الوساطة في الأزمات الإفريقية، إلا أن العقبة الرئيسة تتمثل في الموقف الإثيوبي المتعنت، والتي يدركها صانع القرار المصري بشكل جيد.