التخادم الاستراتيجي.. لماذا تتقارب العلاقات السودانية التجراوية؟
إبراهيم ناصر- باحث سوداني متخصص في الشأن الإثيوبي.
كان قد استخدم مصطلح “التخادم الاستراتيجي” في العديد من المرات لتفسير طبيعة العلاقات الإيرانية – الإسرائيلية الأمريكية، والتي دائما ما اتسمت بالمتعارضة والمتصادمة في أحيان والمتهادنة في بعضها، ولكن بناء على معطيات الأوضاع ومؤشرات ميزان القوى في الإقليم فضلاً عن تعاظم نفوذ نظام الملالي في فضاء الشرق الأوسط وإفريقيا توصل بعض المحللين والمهتمين إلى قناعة مفادها أن العلاقات الإيرانية الإسرائيلية الأمريكية ليست كما تتضح للمتابع، بل هي علاقة تنافع تضبطها روح التخادم الاستراتيجي بعكس مسلسل التشاكس الذي يجذب شعوب المنطقة ويشد انتباهها.
بالطبع إن إثبات حقائق العلاقات السودانية – التجراوية هذه الأيام كالبحث عن إبرة في كومة قش It is like looking” for a needle in a haystack” لأن القيادة الحالية في الخرطوم تريد النأي بنفسها عن كل الصراعات الخارجية الجانبية، وصب تركيزها على معالجة حالة السيولة الأمنية والسياسية والاقتصادية التي لازمة البلاد عقب سقوط نظام الإنقاذ المباد. تأسيساً على ما سبق، ووفقاً للمشاهد التالية، يمكن أن نتلمس خيوط نسيج هذه العلاقة:
مشهد الانفتاح:
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يقصد بمشهد الانفتاح، هو توقيت انفتاح الجيش السوداني على أراضي الفشقة السودانية، حيث فسر الجانب السوداني أن قرار استعادة أراضي الفشقة في هذا التوقيت، يؤكد على حسن نية السودان تجاه إثيوبيا، خاصة وأنه كان يخطط لاستعادتها دون أن يدخل في صدام مسلح مع الجارة الشقيقة إثيوبيا، وأنه بعد أن انشغل جيشها في قتال شعب التجراي عجل من فرص الاستعادة – هذا التبرير ينم عن ذكاء وتعافي العقل السياسي والعسكري السوداني – ولكن بعيدا عن التبريرات السودانية، يعتبر قرار الانفتاح كما فسرته أديس أبابا، بمثابة ضربة موجعة في خاصرة نظام أبي أحمد وتشتيت لجهوده العسكرية واللوجستية، وفي الوقت ذاته كان يصب في مصلحة شعب التجراي، وكانت النتيجة هي إقاع الهزائم الموجعة بحق جيش أبي أحمد.
مشهد الاستقبال:
لقد رسم الشعب السوداني وجيشه العظيم لوحة إنسانية عظيمة ستخلد في ذهن الإنسان التجراوي إلى أجيال مديدة قادمة، إذ أنه بالرغم من الضائقة الاقتصادية في السودان إلا أن استقبال اللاجئين كان لائقا وجميلا ومزينا بطيبة الإنسان السوداني. ورغم تلك الصورة لقيت ترحيباً من القوى الإثيوبية المعارضة لآبي أحمد، إلا أنها في الوقت ذاته أغاظت نظام رئيس الحكومة الإثيوبية وسفيره بالخرطوم، حتى سعيا إلى تشويه صورة هذه المجاميع الهاربة من نيران مليشياتهم.
وبأسلوب خارج عن الدبلوماسية، حاول السفير الإثيوبي ربط مساعي السودان بمساندة المجرمين وحاول ممارسة الضغط السياسي على القيادة في الخرطوم، ولكن بالمحصلة كان الرد إنسانيا يناسب نبالة الإنسان السوداني، حيث رفض الخرطوم طلبات استعادة الأبرياء إلى جحيم نظام آبي أحمد الفاشي. وبالتالي إن حسن استقبال السودان للاجئين التجراي خدم الشعب التجراوي وخفف من معاناته وأثلج صدور نخبه.
مشهد التصعيد:
تعمد السودان مع مصر تشتيت جهود الدبلوماسية الإثيوبية من خلال فتح حرب دبلوماسية حول ملف سد النهضة الخلافي، حيث أدى إلى حالة انكشاف استراتيجي لنظام آبي أحمد في وقت تتالت عليه الانتقادات الأممية بسبب المجازر والفظائع التي ارتكبت بحق شعب التجراي.
كما أن حالة التيه الدبلوماسي لنظام أبي أحمد فسحت المجال لشعب التجراي في توصيل صوته للعالم، وهو ما أدى إلى تحرك أممي يطلب من أبي أحمد سحب جنوده من أراضي التجراي، وهذا التحرك الدولي خدم التجراي بصورة جليلة حتى استعادوا أراضيهم ودفعوا الغزاة وهزموهم شر هزيمة.
في النهاية، يمكن القو إنه من الواضح أن السودان يرى في إثيوبيا عنصر توازن في علاقاته الخارجية وبوابة انفتاحه على القارة الإفريقية، وأن أي حالة إرباك قد تشهدها هذه الدولة ربما التبعات ستكون عليه كبيرة وأن المنطقة بأكملها ستأخذ نصيبها من تداعيات الانهيار، ويرى أيضاً في نظام أبي أحمد مهدداً وجودياً لكيان الدولة الإثيوبية، لذلك قرر التحرك مع المكونات الإثيوبية التي تعتبرها دعائم استقرار في البلاد، لذلك يرى أن التعامل مع التجراي، وبقية الشعوب الإثيوبية ربما ينشل إثيوبيا من الانهيار والتفكك الكبير فضلاً عن تخوفاته من تسلط مجموعة الأمهرا، التي لا تعترف بعائدية اراضي الفشقة له.