بعد قرارات” قيس سعيد”.. إلى أين تتجه الأوضاع في تونس؟
ثمة حالة من الغموض واللبس باتت تهيمن على الوضع الراهن في تونس، ففي ظل حالة التناحر والجمود السياسي التي هيمنت على الوضع خلال الأشهر الماضية، في ظل محاولات حركة النهضة الإخوانية بسط هيمنتها على كافة مفاصل الدولة التونسية، والتحكم في مجريات الأمور وفرض أجندتها على البلاد، وهو ما أدخل البلاد في براثن أزمات سياسية واقتصادية حادة جعلت تونس على حافة الانهيار والدخول في ثورة جياع، وقد ازدادت حدة هذه الأزمات في ظل أزمة كورونا وفشل حكومة “هشام المشيشي” المدعوم من حركة النهضة في التعامل مع تداعيات الأزمة، والانشغال عنها بمحاولة تحجيم دور رئيس الدولة “قيس سعيد”، الذي أعلن الاحتكام إلى المادة 80 من الدستور والخاصة بالحالة الاستثنائية التي يتطلب فيها تدخل الرئيس لحماية الدولة من خطر داهم، حيث قرر “سعيد” إقالة الحكومة وتجميد البرلمان لمدة 30 يوماً، وفي هذا الإطار تسعى هذه الورقة إلى قراءة دلالات وتداعيات هذه القرارات على المشهد السياسي التونسي.
ماذا حدث؟:
أعلن الرئيس التونسي ” قيس سعيد” في الـ 25 من يوليو الجاري إقالة رئيس الحكومة “هشام المشيشي” وتجميد البرلمان وتعليق الحصانة البرلمانية لأعضائه، لمدة 30 يوماً، وأن الرئيس سوف يتولي – ومعه رئيس حكومة جديد سوف يتم تسميته خلال الساعات المقبلة- السلطة التنفيذية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدستور التونسي لعام 2014م ينص على أن ثمة تقاسم ثلاثي للسلطة التنفيذية في البلاد بين الرئيس ورئيس الحكومة والبرلمان، بيد أن هذا الأمر قد تمخض عنه إدخال تونس في ركود سياسي خانق، أفرز تداعيات سلبية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد.
في المقابل، أعلنت حركة النهضة عبر رئيسها “راشد الغنوشي” اعتراضها على هذه التحركات من قبل الرئيس، واصفاً إياها بالانقلاب على الديمقراطية، ودعا أنصار النهضة للنزول إلى الشوارع ورفض هذه التحركات، كما عمد “الغنوشي” في صباح 26 يوليو الجاري إلى محولة الوصول إلى مقر البرلمان لتصوير المشهد للرأي العام العالمي بأنه انقلابا دستورياً من قبل الرئيس “قيس سعيد”، بيد أن الاحتجاجات الشعبية والتواجد الأمني المكثف أعاق وصول “الغنوشي” إلى مقر البرلمان، مما أدى إلى اشتباكات بين المحتجين المتواجدين في الشوارع وأنصار حركة النهضة الذين جاءوا برفقة رئيس الحركة بالقرب من مبنى البرلمان.
لماذا الآن؟:
تأتي هذه الخطوة في سياق أزمات سياسية واقتصادية متفاقمة تعاني منها الدولة التونسية منذ عدة أشهر، ويمكن تلخيصها في عدة نقاط على النحو التالي:
(*) اقتصاد متعثر: فقد تفاقمت الأوضاع الاقتصادية في تونس خلال السنوات الماضية التي شهدت هيمنة حركة النهضة (الإخوانية) على المشهد، فقد تراجع النمو الاقتصادي في البلاد إلى 1.3% في عام 2019م قبل أن ينكمش بنحو 8% في 2020م، مقابل متوسط نمو بلغ حوالي 5% في السنوات العشر التي سبقت 2011م، فيما ارتفعت نسبة البطالة لتبلغ حوالي 16.7% في 2020 مقابل 12% قبل 2011م، فضلاً عن تصاعد نسب التضخم لتبلغ حوالي 5.7% في 2020م، بينما أقترب الدين العام في العام نفسه نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 55% فقط في 2010م، وقد انعكست الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد في تخفيض الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني “فيتش راتنج” التصنيف الائتماني طويل الأجل لتونس لمصادر العملة الأجنبية من “ب” إلى “-ب”، وهو ما يعكس مؤشرات خطيرة بشأن توفير السيولة المالية داخلياً وخارجياً فضلاً عن صعوبات تتعلق بقدرة تونس على سداد ديونها، إضافة إلى عجزها على الوفاء بالتزامات صندوق النقد الدولي كي تتمكن من الحصول على قروض جديدة، وقد أفرزت هذه المعطيات ضغوطاً هائلة على المواطنين والذين بات كثير منهم يلجئون إلى الهجرة غير الشرعية هرباً من الظروف الصعبة.
(*) طفرة متصاعدة لفيروس كورونا: تشهد تونس موجة حادة من وباء كورونا أدت إلى تصاعداً كبيراً في أعداد الإصابات والوفيات، جعل البلاد هي الأعلى في إفريقيا والعالم العربي في حصيلة الوفيات اليومية وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، وفي هذا السياق فشلت المنظومة الصحية والمستشفيات في تونس في استيعاب الأعداد المتصاعدة أسفر عن غضب شعبي هائل من فشل الحكومة في التعامل مع الأزمة بعدما وصفت المتحدثة باسم وزارة الصحة التونسية “نصاف بن على” الوضع الراهن بالكارثي مشيرة إلى انهيار المنظومة الصحية في البلاد، وهو ما جعل تونس تتلقى خلال الفترة الأخيرة العديد من المساعدات الدولية والإقليمية لمساعدتها في تجاوز عثرتها الراهنة، مما دفع الرئيس “قيس” إلى تكليف الجيش بتولي مسئولية الاستجابة الوطنية لمكافحة أزمة كورونا.
(*) ركود سياسي: تشهد تونس حالة من الاحتقان السياسي الحاد منذ فترة طويلة في ظل حشد حركة النهضة بشكل مكثف ضد الرئيس التونسي لمحاولة تقييده عن أي تحرك وترك الساحة السياسية خالية أمام أجندتها الرامية للهيمنة، وقد تجسدت ملامح ذلك في دعم حركة البرلمان (الذي تهيمن عليه النهضة) لرئيس الحكومة “هشام المشيشي” لتشكيل تحالف ضد الرئيس “قيس سعيد”، فقد أعترض الأخير في الشتاء الماضي على بعض التعديلات الوزارية التي أجراها “المشيشي” دون استشارة الرئيس بما يخالف الدستور، خاصةً وأن التعديلات تضمنت عناصر متهمة في قضايا فساد، وهو ما دفع “سعيد” إلى رفض قيام الوزراء الجديد بأداء اليمين الدستوري أمامه، وقد تفاقمت الأزمة السياسية خلال الأشهر الأخيرة في ظل حالة من الاستقطاب الحاد التي دفعت إليها حركة النهضة لإثبات أنها الفاعل الرئيسي في المشهد، حيث عارضت الحركة أي محاولة من الرئيس لتغير الحكومة أو التوصل إلى تسوية مقبولة للأزمة تفضي إلى انفراجة لحالة الركود السياسي، وهو ما أدى إلى تداعيات كارثية على العديد من الملفات الحيوية في البلاد والتي تعرضت لجمود كبير.
(*) غضب شعبي متصاعد: شهت الأيام الأخيرة التي تظاهر آلاف التونسيين في جميع أنحاء البلاد، مكررين الدعوات التي طالبت بها الاحتجاجات المتفرقة خلال الأشهر الأخيرة بإقالة الحكومة وحل البرلمان، وقد جاءت الدعوة لهذه الاحتجاجات في الذكرى الـ 64 لاستقلال تونس، وذلك من قبل مجموعة جديدة تسمى حركة “25 يوليو”،وفي تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” Washington Post أشار إلى أن المتظاهرين عبروا عن غضبهم من حركة النهضة (الإخوانية) عبر مهاجمة مكاتبها المتفرقة في البلاد، مشيراً إلى أن الحركة على الرغم من هيمنتها على عدد كبير من مقاعد البرلمان، بيد أنها لا تحظى بشعبية بين العديد من شرائح الشعب التونسي، وهو ما أظهرته الفرحة الهائلة التي طغت على المحتجين بعد قرار الرئيس “قيس سعيد”.
وتعكس المعطيات الراهنة أن الدعم الشعبي الأكبر يتجه لدعم الرئيس “سعيد”، خاصةً مع تصاعد الانتقادات الموجهة للحكومة خلال الأشهر الماضية، وهو ما أكدته استطلاعات الرأي الأخيرة التي أشار إليها تقرير “واشنطن بوست”، حيث بين التقرير أن الخطوات الأخيرة التي أتخذها الرئيس ربما تروق لهؤلاء المستاءين من هيمنة النهضة وكذلك فشل الأحزاب السياسية، فضلاً عن الداعمين لوجود رئاسة قوية في تونس تقود المشهد السياسي.
تجميد وليس حل:
أعلن “قيس سعيد” في لقاء تلفزيوني بعد اجتماع طارئ عقده مع القيادات العسكرية والأمنية في البلاد أن الخطوات التي تم اتخاذها مؤخراً هي مجرد إجراءات مؤقتة لحين عودة السلم الاجتماعي في البلاد، مشيراً إلى أنه أضطر إلى اتخاذ جملة من التدابير الاستثنائية بعد عمليات الحرق والنهب، في الوقت الذي يستعد فيه البعض لدفع الأموال لتأجيج الاقتتال الداخلي، كما حذر “سعيد” من أي عنف محتمل ضد هذه القرارات.
وقد استند الرئيس “قيس سعيد” في قراراته الأخيرة إلى الفصل 80 من الدستور التونسي لعام 2014م، والذي ينص على أنه “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب، ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.وبعد مضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما. ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب”.
وفي هذا الإطار، يشير البعض إلى أن الدستور نص بشكل صريح على عدم إمكانية حل البرلمان، بيد أن هذا الأمر يمكن الرد عليه بأن الدستور لم يمنع أيضاً فكرة تجميد صلاحياته أو رفع الحصانة عن أعضائه، ولعل هذا ما يفسر اختيار “سعيد” لكلمة “تجميد” بدلاً من “حل” في حديثه عن البرلمان، فضلاً عن تأكيده على مدة الـ 30 يوماً والتي نصت عليها المادة 80 من الدستور فيما يتعلق بالإجراءات الاستثنائية، وفي إطار غياب وجود المحكمة الدستورية – التي تعد من بين ملفات الخلاف بين الرئيس وحركة النهضة- والمنوط بها البت في مدى توافر الحالات الاستثنائية ومدى استمراريتها، بالتالي يمكن للرئيس في هذه الحالة التعويل على الوضع الراهن باعتباره حالة استثنائية، وذلك في ظل الأزمة الكارثية التي تعيشها البلاد بسبب الارتفاع الحاد في أعداد الإصابات والوفيات بفيروس كورونا، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد والتي دفعت إلى تنامي الاحتجاجات الشعبية.
ما علاقة ليبيا؟:
ثمة تخوفات راهنة بشأن امتداد الأزمة الراهنة في تونس إلى ليبيا، في ظل انتشار المليشيات الإرهابية والمرتزقة المنتمين إلى تنظيم الإخوان في غرب ليبيا، وفي ظل اعتبار تونس المعقل الأخير الذي يراهن عليه الإخوان بقوة في المنطقة، فلا يتوقع أن يتنازل التنظيم بسهولة عنه، ومن ثم يرجح أن تشهد الفترة المقبلة تحركات من قبل مليشيات إخوان ليبيا لدعم حركة النهضة في تونس.
وربما يدعم هذا الأمر إعلان بعض المليشيات التابعة لتنظيم الإخوان في غرب ليبيا حالة الطوارئ في معسكراتها، كما استدعت كافة عناصرها، فضلاً عن الاجتماعات التي عقدها قادة الإخوان في غرب ليبيا، وقد سبق ذلك مباشرة إعلان رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا “خالد المشري” (أحد قيادات إخوان ليبيا) رفضه التام لقرارات الرئيس التونسي معتبراً أنها تمثل انقلابا على الأجسام المنتخبة.
ماذا بعد؟:
ثمة حالة من الغموض التي باتت تسيطر على المشهد السياسي التونسي في ظل المتغيرات الأخيرة والقرارات التي اتخذها الرئيس “قيس سعيد”، خاصةً في ظل حالة الحشد التي تدعو إليها حركة النهضة لعناصرها ومليشياتها في الداخل والخارج مع تصاعد احتمالات الدخول في مواجهات عنيفة مع المحتجين المناهضين لها وقوات الأمن والجيش التونسي، وتزداد احتمالات ذلك في إطار الاستعداد لتحريك دعاوي قضائية ضد عدد من عناصر الحركة ( بما في ذلك نواب البرلمان) المتورطين في قضايا فساد وعنف.
وتمثل هذه التطورات نقطة فاصلة في المشهد السياسي التونسي وإعادة تشكيل خريطة موازين القوى في الداخل، مع إرهاصات هامة بشأن مستقبل النظام السياسي هناك ومدى احتمالات الدفع نحو التحول إلى نظام رئاسي.
لكن، يرجح أن تشهد الفترة المقبلة انخراطا دوليا وإقليميا مكثفا في الملف التونسي، فالقوى الدولية والإقليمية لم تعد قادرة على استيعاب ليبيا أو سوريا جديدة في المنطقة، خاصةً وأن المؤشرات تعكس إمكانية تعرض البلاد إلى هجمات إرهابية قوية واضطرابات داخلية بفعل العناصر والمليشيات التابعة للإخوان، على غرار ما شهدته تونس في ٢٠١٣.
وفي التقرير الذي نشرته ” واشنطن بوست”، أشار “شارل غريوال” إلى أن الوضع الراهن في تونس يمثل أخطر أزمة تواجهها البلاد منذ ٢٠١٣، مشيرا إلى أن حركة النهضة ربما تحاول عقد اجتماع للمجلس التشريعي لاختبار ولاءات القوات الأمنية، فيما سيكون موقف “الاتحاد العام التونسي للشغل” حاسما في توجيه دفة التطورات، بيد أن المعطيات الراهنة تؤشر إلى دعم الاتحاد لخطوات الرئيس بعدما فشلت محاولاتها السابقة في الوساطة وتسوية الأزمة بسبب تعنت حركة النهضة.