التداعيات الاقتصادية للاحتجاجات الشعبية فى إيران؟

مع اقتراب موعد تسلم الرئيس الإيراني (إبراهيم رئيسى) للسلطة فى الخامس من أغسطس 2021، عادت الاحتجاجات الشعبية للشارع الإيراني مرة أخرى، والتى بدأت منذ الخامس عشر من يوليو 2021، في مقاطعة خوزستان بجنوب غرب إيران، وبدأت اعتراضاً على هذا القرار الحكومى انطلاقا من استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لاسيما نقص المياه داخل المقاطعة حتى عرفت باسم (احتجاجات المياه)، إلى أن امتدت الاحتجاجات لتشمل مدن إيرانية أخرى وتطورت مطالب المحتجين إلى المطالبة بإسقاط النظام ذاته. وفيما يلى سيتم رصد وتحليل الأبعاد والدوافع وراء تصاعد الاحتجاجات الشعبية الأخيرة فى إيران وتداعياتها على الاقتصاد الإيراني.
الأبعاد والأسباب:
لم تكن الاحتجاجات الأخيرة المندلعة منذ 15 يوليو 2021 والتى بدأت من مقاطعة خوزستان بجنوب غرب إيران وتحديدا بإقليم الأحواز لتمتد الاحتجاجات إلى مدن إيرانية أخرى منهم العاصمة طهران وشارك فيها العمال والمزراعين تضامنًا مع الإقليم، وسط هتافات مناهضة للحكومة والمرشد الأعلى “على خامنئى” هى الأولى من نوعها فى التاريخ الإيرانى، فقد سبقها قيام الإقليم ذاته باحتجاجات مشابهة فى 15 نوفمبر 2019 والتى اتسعت حينها لتشمل نحو 107 مدينة منها العاصمة طهران، واحتجاجات أخرى فى ديسمبر 2017.
كما أن هذه الاحتجاجات الأخيرة، لم تكن هى الأولى أيضًا منذ بداية العام الحالى، فقد سبقها مباشرة احتجاجات شعبية فى 6 يوليو 2021 بجنوب طهران والمحافظات الوسطى والشمالية، بسبب الانقطاعات المتكررة للكهرباء، ترددت خلالها أيضًا الهتافات المناهضة للمرشد (على خامنئى).
واعتادت الاحتجاجات الشعبية بإيران فى السنوات الأخيرة أن تحمل اعتراضًا من قبل المتظاهرين على تردى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتردى الخدمات أو رفض لبعض القرارات الحكومية كاحتجاجات نوفمير 2019، ولكن هذه المرة كان السبب الرئيسى لاندلاع الاحتجاجات بإقليم الأحواز، هو الجفاف المستمر الذى يعاني منه الإقليم منذ مارس 2021، واحتجاجا على قيام الحكومة الإيرانية بتحويل مجرى عدة أنهر بإقليم الأحواز من بينها نهر كارون الذي يعد أكبرهم، وجاء هذا فى الوقت الذى وصف فيه الرئيس الإيرانى “حسن روحاني” إن الجفاف هذا العام كان “غير مسبوق” نتيجة انخفاض متوسط هطول الأمطار بنسبة 52% مقارنة بالعام 2020.
وقد اتسمت تلك الاحتجاجات الأخيرة بالعنف، حيث أسفرت عن مقتل نحو ثمانية من المتظاهرين واعتقال العشرات ومصرع أحد قوات الشرطة وإصابة 14 آخرين مما دفع الحكومة الإيرانية إلى قطع شبكة الإنترنت عن المحافظة خوزستان مع انتشار أمني مكثف فيها.
دوافع الاحتجاجات الأخيرة:
على الرغم من أن السبب الرئيسى والظاهرى لاندلاع الاحتجاجات الشعبية الأخير بإقليم الأحواز يتمثل فى نقص المياه المتسبب بالجفاف فى الإقليم، وما سبقها من احتجاجات فى طهران والمحافظات الوسطى والشمالية بسبب الانقطاعات المتكررة للكهرباء- إلا هذه الاحتجاجات المتكررة والتى تمتد دائما لتشمل مدن إيرانية أخرى، تحمل عدة دوافع أخرى، والتى يمكن إيجازها فيما يلى:
(*) ارتفاع أسعار الوقود: وذلك فى ظل إصلاحات منظومة دعم الطاقة التى تقوم بها إيران والرغبة فى الحد من تهريب الوقود المنتشر بها على نطاق واسع، بعد أن أعلنت شركة النفط الإيرانية فى 15 نوفمير 2019، عن رفع سعر لتر البنزين العادى المدعم إلى 15 ألف ريال (0.45 دولار) بدلا من 10 آلاف ريال بالإضافة إلى رفع سعر لتر البنزين العادي غير المدعم إلى 30 ألف ريال (0.90 دولار) وسعر لتر البنزين السوبر إلى 35 ألف ريال وتقنين توزيعه بتحديد الحصة الشهرية للسيارة الخاصة عند 60 لتر في الشهر ورفع سعر أي مشتريات إضافية إلى 30 ألف ريال للتر، وهو القرار الذى سيؤدى تطبيقه إلى توفير نحو 2.5 مليار دولار سنوياً لتغطية الاحتياجات العاجلة لملايين من الأسر الفقيرة وتخفيف الضغط على الموازنة العامة، خاصة وإن إيران من أعلى دول العالم فى دعم الطاقة والذى بلغ تكلفته 69 مليار دولار بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي والكهرباء عام 2018.
وعلى الرغم من أن تلك الإصلاحات تم تطبيقها فى العديد من الدول العربية وغير العربية انطلاقا من مبدأ أن هذه الإعانات تشجع الأشخاص في الواقع على الاستهلاك أكثر وتقليل الاهتمام بالتأثير السلبي الذي يتركونه على البيئة ويستفيد منها الأغنياء وليس الفقراء، إلا أن توقيت القرار لم يكن مناسباً للوضع الاقتصادى والاجتماعى الذى تمر به إيران من تزايد نسب الفقراء إلى 30% وفقا للإحصائيات غير الرسمية، إلى جانب الضغوط الاقتصادية التى يعانى منها الشعب الإيرانى فى ظل العقوبات الامريكية المفروضة، وهو ما جعل الشعب الإيراني غير قادر على تحمل أى ضغوط جديدة على قدرته الشرائية، خاصة وأن الزيادة فى أسعار الوقود لن تتوقف على مجرد ارتفاع فى أسعار البنزين بل ستنتقل أثارها فى سلسلة ممتدة لتؤدى إلى ارتفاع أسعار النقل والمواد الغذائية وكافة السلع المرتفعة بالأساس، وهو ما سيساهم بدوره فى المزيد من تدهور قدراتهم الشرائية.
(*) تردى الأوضاع الاقتصادية: شهد الاقتصاد الإيرانى العديد من الصدمات منذ إعلان الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” فى الثامن من مايو 2018 بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها مرة أخري بهدف ممارسة أقصى قدر من الضغط” على النظام الإيرانى، وطبقت تلك العقوبات على مرحلتين من 90 إلى 180 يوماً، والتى دخلت الحزمة الثانية والأخيرة منها حيز التنفيذ فى 5 نوفمبر 2018، وإنهاء الإعفاءات على شراء النفط الإيرانى بدأ من 2 مايو 2019، والتى كانت بلغت مدتها 6 أشهر من 5 نوفمبر 2018 وحتى 2 مايو 2019 وعقوبات أخرى شملت كل من البنك المركزى الإيرانى وصندوق التنمية السيادى وشركة “اعتماد تجارت بارس” الممولة لنشاطات الحرس الثورى، وذلك بعد ظهور مؤشرات دالة على تورط إيران فى هذا الهجوم.
وظهرت الآثار السلبية لتلك العقوبات على الأوضاع الاقتصادية الإيرانية، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تراجع المؤشرات الاقتصادية، ولعل أبرزها:
(&) تدهور العملة المحلية: إذ تراجع سعر الريال الإيراني أمام الدولار الأمريكى بشكل حاد، وارتفع من 37853.994 ريال للدولار فى 10 أبريل 2018 إلى 44134.3 فى 2 أغسطس لنفس العام تزامناً مع تطبيق المرحلة الأولى من العقوبات الأمريكية فى 6 أغسطس 2018، وعلى الرغم من انخفاضه مرة أخرى ولكنه ظل متذبذباً عند مستوياته المرتفعة ليصل إلى 42304 ريال للدولار فى 13 يناير 2020، وذلك قبل تثبيت سعر الصرف منذ 4 فبراير 2021 عند 42025.3 ريال للدولار.
المصدر: موقع تغيير العملات Xe
(&) انخفاض معدلات النمو الاقتصادى: انخفض معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى بشكل ملحوظ بنهاية عام 2017، ليصل إلى 3.76% مقارنة بـ 12.5% بنهاية عام 2016، وليس هذا فحسب بل حقق الناتج المحلى الإجمالى نمواً سالباً خلال عامى 2018 و2019 بلغ 6% و6.8% على التوالى، قبل ارتفاعه إلى 1.7% فى العام 2020.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على احصائيات البنك الدولى
(&) تراجع إنتاج مورد هام من موارد الخزانة العامة “النفط”: على إثر العقوبات الأمريكية تراجع إنتاج طهران من النفط إلى أدنى مستوى له منذ 30 عاماً، وهو يُعد أهم مورد للخزانة العامة بها، مما أدى إلى فقدان ما يقرب من 90% من إيراداتها النفطية.
(*) تردى الأوضاع المعيشية: يعانى المواطن الإيرانى بشكل مستمر من تردى الأوضاع المعيشية والتى يمكن الاستدلال عليها مما يلى:
(&) مستويات مرتفعة لمعدل التضخم: يعكس معدل التضخم المرتفع فى إيران، مدى تدهور القوة الشرائية للمواطنين، فقد ارتفع معدل التضخم من 7.2% عام 2017 إلى 39.9% فى العام 2019، بما يعكس مدى العبء الذى يقع على كاهل المواطن الإيرانى جراء الارتفاع فى أسعار السلع، تأثرا بارتفاع سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأخرى ولجوء البنك المركزى الإيرانى إلى طبع النقود، وكنتيجة لنقص العملات والذى لعب تراجع حجم الصادرات النفطية دوراً كبيراً فيها.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات البنك الدولى
(&) معدلات بطالة مرتفعة: يُعد معدل البطالة فى إيران مرتفعاً، وكانت أعلى قيمة له منذ عام 2012، هى 12.43% عام 2016، وعلى الرغم من أنه قد شهد تراجعاً مستمراً ولكنه بطئ للغاية حتى بلغ نحو 11% للعام 2020 وفقاً لتقديرات البنك الدولى.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات البنك الدولى
(&) ارتفاع نسب الفقر وعدم عدالة توزيع الدخل: وفقاً لأحدث الإحصائيات المتاحة، زادت نسبة السكان الذين يعيشون على أقل من 5.5 دولار يومياً من 8.1% عام 2013 إلى 11.6% عام 2016.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات البنك الدولى
كما أن هناك سوء عدالة فى توزيع الدخل، حيث يحصل أغنى 10% من السكان على 30.9% من إجمالى الدخل، و46.7% يحصل عليه أغنى 20%، فى المقابل يحصل أفقر 10% على 2.4% من الدخل، و6.10% يحصل عليها أفقر 20%.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات البنك الدولى
التداعيات على الاقتصاد الإيرانى:
لاشك أن أية احتجاجات شعبية بأى دولة تؤثر بشكل مباشر على اقتصادها، من خلال إعاقة حركته وزيادة تكاليف إعادة البناء للبنى التحتية التى يتم تخريبها، وتزداد حدة هذا التأثير كلما زادت حدة الاحتجاجات ذاتها، ويمكن القول أن إيران اعتادت على مثل هذه التداعيات نتيجة موجات الاحتجاجات المتكررة بها، وقد ظهرت تداعيات الاحتجاجات الأخيرة، فى الآتي:
(*) تخريب البنى التحتية الخاصة وهو ما سيتطلب توجيه جزء من النفقات العامة للدولة لإصلاحها، مما يمثل ضغطاً على الموارد المالية.
(*) خسائر مالية ضخمة؛ فوفقاً لإحصائيات نشرتها شركة “نت بلاكس” لخدمات الانترنت على إثر الاحتجاجات فى نوفمبر 2019 تُقدر خسائر إيران من قطع الإنترنت بنحو 369 مليون دولار يوميا، إلى جانب ما يمثله ذلك من إعاقة لإنتاج النفط ولو بشكل بسيط.
(*) المخاوف من تطور الاحتجاجات لتصل إلى تخريب لمرافق النفط أو أن يتكرر ما حدث فى ثورة عام 1979 من إضراب عمال النفط عن العمل أو تخريب للبنى التحتية الخاصة ببعض محطات الوقود والمبانى الحكومية والبنوك كما حدث فى احتجاجات نوفمبر 2019.
وختاما يمكن القول، على الرغم من تشابه الدوافع وراء الاحتجاجات الشعبية الآخيرة بإيران مع ما سبقها من احتجاجات منذ عام 2009، إلا إن هناك ثمة اختلاف عن احتجاجات أعوام 2017 و2018 و2019، وهى العقوبات الأمريكية المفروضة على الاقتصاد الإيرانى والتى تزيد حدتها وآثارها يوماً بعد الآخر مع تردى وضع الخدمات العامة بشكل يزيد من تأزم هذا الاقتصاد ومن الضغوط المعيشية على المواطن الإيرانى، فى ظل غموض التصرف الحكومى مع هذه الأوضاع مع اقتراب موعد تولى الرئيس المنتخب الجديد (إبراهيم رئيسى) للسلطة فى 5 أغسطس 2021، وبالتالي فإذا استطاعت الحكومة الإيرانية إخماد تلك التظاهرات هذه المرة أيضاً كما فعلت مع سابقيها، فهذا لا يضمن توقفها بل ستظل فى الصعود بين الحين والآخر كلما زاد تردى الأوضاع المعيشية وعدم وضع حلول جذرية لمشاكل نقص المياه والانقطاعات المتكررة للكهرباء، مما يزيد من الضغوط ليس فقط على النظام السياسى بل الوضع الاقتصادى أيضاً، فى ظل الضغوط الخارجية على إيران وغموض نهاية مفاوضات الاتفاق النووى مع إدارة الرئيس الأمريكى (بايدن) وموقفها من العقوبات الاقتصادية المفروضة.