كيف تتعامل طهران مع طالبان بعد انسحاب الولايات المتحدة؟
عمرو عامر- باحث ببرنامج الدراسات الإيرانية.
وضع قرار بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وكذلك قرار الناتو بسحب قواته من البلاد واستيلاء طالبان على معظم المدن الأفغانية، مستقبل العلاقات الإيرانية الأفغانية قضية رئيسية في السياسة الخارجية الإيرانية. فقد بدأت إيران استراتيجيتها لاحتواء الفراغ السياسي الذي خلفته الولايات المتحدة بعد انسحابها من أفغانستان، فبادرت بخطة سلامة وبدأت في جولة مباحثات بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان لتهدئة الأوضاع الميدانية وحل الأزمة الأفغانية، وقد عقدت وزارة الخارجية الإيرانية اجتماع بعنوان “الحوار بين الأفغان” بمشاركة ممثلين عن الحكومة الأفغانية وحركة “طالبان”، وقد ناقشت عدة ملفات أهمها، عملية السلام ومستقبل الأمن في أفغانستان، والعلاقات الثنائية حول قضايا قائمة بين طهران وكابل.
وعلي ذلك، فقد أدى تقدم طالبان في أفغانستان إلى وضع إيران على حافة الترقب، ولكن يبدو أن الجمهورية الإسلامية تتبنى نهجًا براغماتيًا وتسعى إلى التقارب مع الميليشيات التي عادت إلى الظهور من جديد، وفي نفس الوقت تخشى إيران الشيعية من تدفق اللاجئين الفارين من العنف الطائفي إلى جانب خطر استيلاء منافس أيديولوجي على السلطة في الجوار.
تأسيساُ على ما سبق، يحاول هذا التحليل توضيح التكييف الاستراتيجي لحدود العلاقة بين طهران وطالبان، وكيف تفكر إيران، واستراتيجيتها التي تتبناها تجاه طالبان، وكذلك السيناريوهات المتوقعة بناءًا على التحليل القائم للمعطيات.
كيف تفكر إيران؟:
تعتبر إيران التي يحكمها رجال الدين الشيعة وكذلك حركة طالبان، السنية المتطرفة، على خلاف جوهر، حيث تخشى طهران من عودة حكم طالبان وأفغانستان إلى الحرب الأهلية، فضلاً عن اضطهاد طالبان للأقليات غير السنية الموجودة، وهو احتمال يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، ويهدد المجتمعات العرقية الفارسية والشيعية في تلك المنطقة، فضلاً عن إرسال المزيد من موجات اللاجئين الأفغان عبر الحدود، وتمكين التشدد السني في المنطقة.
وعلي هذا، وسعيًا وراء اليد العليا، أقامت إيران علاقات مع بعض فصائل طالبان وخففت من نبرتها تجاه الجماعة المتطرفة؛ التي ترى أنها ستبقى في السلطة. وقد أثارت هذه الاستراتيجية جدلاً حادًا في إيران، حيث يُنظر إلى حركة طالبان القمعية بشكل غير مواتٍ، وتزداد الشكوك حول نوايا الولايات المتحدة، حتى مع تقدم إدارة بايدن ببطء في محادثات العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015.
وتأسيسًا على هذا الطرح، يمكن القول إن إيران ستتضرر بشكل كبير من الفوضى والحرب الأهلية في أفغانستان، فإيران لديها مخاوف مُبرره من تصاعد تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان، وعليه فهم يرون أن الحكم الجزئي، هو أفضل سيناريو. ويمكن القول إن مبادرات إيران العلنية والمتزايدة تجاه طالبان “يمكن أن تكون سوء تقدير”، حيث تعتقد إيران أنها تستخدم طالبان، ولكن البعض قد يرى بأن طالبان، هي من تستخدم إيران لتقديم نفسها على أنها أكثر قوة، وتستحق حكم الدولة.
تكييف العلاقة بين طهران وطالبان:
تعتبر إيران لاعب إقليمي طموح لديه فهم واضح لمحيطها المعقد، وخطة حذرة لرسم مسار من خلاله تعود الطبيعة المعقدة لعلاقات إيران مع أفغانستان جزئيًا إلى النمط المتقلب لتفاعلاتها مع أصحاب المصلحة المعنيين. وفي الوقت الحالي، يرتبط أحد الأبعاد المهمة لفهم إيران للأزمة الأفغانية بكيفية إدراكها لعلاقاتها مع واشنطن. فمنذ فترة ليست بالقلية كانت طهران تنتهج سياسة محفوفة بالمخاطر تتمثل في “التحوط” في أفغانستان، بمعني أنها تقدم الدعم للحكومة الأفغانية وطالبان في نفس الوقت على أمل إبقائهم منقسمين، والتأثير على التطورات السياسية بمجرد سحب الولايات المتحدة لقواتها. وعليه، يمكن القول إنه بسبب هذه السياسة المزدوجة التي تبدو متناقضة -واحدة متناقضة وأخرى تصالحية، وأخرى علنية وأخرى سرية – من الصعب تحليل نوايا إيران وتأثيرها في أفغانستان.
وتأسيسًا على ما سبق، وتحليلاً للمعطيات السياسية القائمة، يمكن القول إن نفوذ طهران داخل أفغانستان يقوم على عوامل سياسية واستراتيجية، يمكن رصدها في نقطتين على النحو التالي:
(&) على الرغم من أن العوامل الجيوسياسية والروابط الثقافية مكّنت إيران من ممارسة نفوذ كبير في أفغانستان في السنوات الأخيرة، إلا أن طهران تواجه الآن قيودًا أكبر وسط المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة في الداخل. تسببت سنوات من الحكم الاستبدادي في توتر الشباب في إيران، بينما تدهور اقتصادها بسبب استمرار العقوبات الغربية، ومن غير المرجح أن تصبح إيران نموذجًا في كيفية إقامة دولة دينية قائمة على الإسلام السياسي، لكن من المرجح أن تستمر طهران في الحفاظ على علاقاتها مع طالبان لأسباب تراها تكتيكية.
(&) لطالما نظرت طهران إلى الوجود العسكري لواشنطن في أفغانستان على أنه جزء من خطة لتطويق إيران، وقد أدى هذا التصور إلى منحها أرضية مشتركة مع حركة طالبان، التي تشن حربًا ضد القوات الأمريكية في أفغانستان منذ عقود. وبالتالي، إن القول المأثور القديم بأن “عدو عدوي صديقي” قد خلق فرصة للتقارب بين الجانبين، حيث تشترك طهران وطالبان أيضًا في العداء المشترك تجاه صعود تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان، مما يزيد من دعم التعاون بين الجانبين، خاصة وأنه يحتمل أن دعم طالبان سيكسبها أي تأثير حقيقي في أفغانستان على المدى الطويل، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة منها.
سيناريوهات محتملة:
استكمالا لما تقدم، تعتبر إيران من أكثر الفاعلين الإقليميين نفوذاً في أفغانستان، ولم ترغب إيران أبدًا في وجود أمريكي طويل الأمد في أفغانستان، حيث عارضت إيران الاتفاقية الأمنية الثنائية التي تم التفاوض عليها بين أفغانستان والولايات المتحدة، كما أنه لطهران مصالح أمنية كبيرة في أفغانستان، وستسعى إيران جاهدة لتعزيز الأيديولوجية الشيعية هناك، والتصدي للتهديدات العابرة للحدود الوطنية، وتأسيساً على هذا يمكن طرح السيناريوهات الآتية:
(*) سيناريو العنف: قد يؤدي الفراغ المتوقع في السلطة، إلى جانب العنف وعدم الاستقرار، إلى دفع إيران إلى تمركز مقاتلين شيعة في أفغانستان. فالحقيقة أن إيران تشتهر باستخدامها الحرب غير المتكافئة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الخاصة بها، حيث كانت أداة السياسة الخارجية المفضلة لديها مؤخرًا هي نشر الميليشيات الشيعية بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتنتشر هذه المجموعات في سوريا والعراق واليمن لتعزيز المصالح الإيرانية.
وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات مباشرة حتى الآن على أن رئيسي سيفضل هذه السياسة في أفغانستان أيضًا، فقد قال بقوة مؤخرًا أن دعم الجمهورية الإسلامية للميليشيات الشيعية في جميع أنحاء المنطقة “غير قابل للتفاوض”، مما يؤكد أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لإيران وميوله نحو نفس الاستراتيجة للسياسة الخارجية. وقد يدفع الفراغ المتوقع في السلطة؛ مقترنًا بالعنف وعدم الاستقرار؛ إيران إلى تمركز مقاتلين شيعة في أفغانستان ليكونوا بمثابة حاجز ضد تصاعد العنف الذي من شأنه أن يهدد المصالح الاقتصادية الإيرانية، فضلاً عن تأمين الأقليات الشيعية، ويوقف أيضًا تدفق اللاجئين المضطهدين إلى الداخل.
ونتيجة لذلك، تعيش أفغانستان حاليًا في حالة حرب أهلية مع اندلاع قتال مستمر بين القوات الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة وطالبان، إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية في كوسوفو وطالبان كخصوم أيضًا. علاوة على ذلك، توجد مجموعات متطرفة أخرى مختلفة داخل أفغانستان وخارجها مثل “القاعدة” في أفغانستان، و”شبكة حقاني”، وميليشيات عرقية أخرى قبلية لها أحيانًا مصالح متشابهة ولكنها متداخلة أيضًا، وهو ما قد يؤدي إلى حرب أهلية معقدة للغاية في ظل غياب تسوية سياسية لتقاسم السلطة يبدوا أنها بعيدة المنال حتى الآن.
(*) السيناريو المقلق: يعتقد “رئيسي” أن أسواق التصدير الإقليمية هي أساسية لانبعاث الاقتصاد الإيراني، لهذا من الطبيعي أن تحمي إيران المتعثرة اقتصاديًا مصالحها في أفغانستان، ولكن ميله الثابت نحو استخدام الميليشيات الإقليمية كاستراتيجية ثابتة للسياسة الخارجية أمر مقلق، لا سيما فيما يتعلق بأفغانستان. وعليه، من المحتمل أن لا تؤدي هذه الاستراتيجية إلا لإثارة المزيد من العنف وعدم الاستقرار في المنطقة، وهذا لن يهدد المصالح الإيرانية فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى تدهور الوضع الأمني الهش بشكل كبير، مما يؤدي إلى تداعيات خطيرة على أفغانستان المستقبلية وأيضًا القوى الإقليمية ذات المصالح الخاصة.
وفي النهاية، يمكن التأكيد على أنه من المحتمل أن تخضع سياسة إيران الخارجية في أفغانستان لتغيير، ويمكن أن تتدخل بشكل أعمق بكثير، ونتيجة لذلك، فإن عدم الاستقرار، والذي يبدو مرجحًا تمامًا في أفغانستان ما بعد انسحاب الولايات المتحدة- سوف يمنح الجمهورية الإسلامية سببًا قويًا للتحرك. ومع ذلك، فإن تورط إيران الأعمق في أفغانستان، مع وجود العديد من أصحاب المصلحة من القوى الكبرى والذين يدعمون مصالح وأيديولوجيات متنوعة، لن يؤدي إلا إلى احتكاك بين هذه الجماعات، مما يؤدي إلى تفاقم السيناريو الأمني السيئ في البلاد، والذي سوف يؤثر بالضرورة على المنطقة.