انفتاح غير محتمل: كيف يمكن تفسير سياسة بايدن تجاه كوبا؟

تفاءل العديد من الخبراء والسياسيين حول عودة الإدارة الأمريكية الجديدة إلى سياسة التقارب مع كوبا، وذلك في خضم وعود بايدن الانتخابية بعكس سياسات ترامب الفاشلة التي ألحقت الأذى بالكوبيين وعائلاتهم، إلا أن هناك حالة من الغموض تسيطر على العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا، فبعد ما يقرب من خمسة أشهر من انتقال بايدن إلى المكتب البيضاوي اختار الإبقاء إلى حد كبير على سياسات ترامب المتشددة تجاه كوبا، ولم يتم إلغاء أي من الإجراءات الـ 243 التي اعتمدها ترامب لتشديد الحظر المفروض على كوبا، وفي غضون ذلك تعرضت إدارة بايدن إلى ضغوط من قبل مشرعين ديمقراطيين داخل الكونجرس تطالب برفع العقوبات التعسفية التي فرضها ترامب على كوبا بالتزامن مع احتجاجات تاريخية اندلعت هذا الأسبوع الجاري ضد الحكومة في كوبا، حيث خرج آلاف الكوبيين في مسيرات إلى الشوارع بعدة مدن للاحتجاج على نقص الغذاء والدواء وسط أزمة اقتصادية متفاقمة والمطالبة بإنهاء الديكتاتورية التي استمرت 62 عامًا.

وفي سياق ذلك، يسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على تاريخ التوتر والعداء بين واشنطن وهافانا، طارحاً عدة تساؤلات، أهمها: ما هي ملامح نهج بايدن الحذر إزاء كوبا، وكيف ينقسم الداخل الأمريكي إزاء سياسة بايدن المتخبطة؟، وهل تمكنت كوبا من فرض نفسها كقضية ملحة على أجندة أولويات بايدن من أجل إعادة النظر في سياسة العقوبات أم أن تلك الاحتجاجات ليست إلا حدثًا فريدًا سيتم القضاء عليه من قبل النظام الحاكم؟.

الخلفية التاريخية للصراع 1959-2021:

كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وكوبا متوترة لأكثر من ستين عامًا، وذلك على إثر إطاحة فيدل كاسترو بحكومة مدعومة من الولايات المتحدة، ويمكن تتبع محطات ذلك العداء على النحو التالي:

(*) الإطاحة بحكومة فولجنسيو باتيستا المدعومة من الولايات المتحدة: تعود جذور العلاقة المضطربة بين الولايات المتحدة وكوبا إلى عام 1959، حيث استولى فيدل كاسترو ومجموعة من الثوار على السلطة في هافانا، وأطاحوا بحكومة فولجنسيو باتيستا المدعومة من الولايات المتحدة، لكن بعد الثورة الكوبية، اعترفت الولايات المتحدة بحكومة فيدل كاسترو لكنها بدأت في فرض عقوبات اقتصادية مع زيادة النظام الجديد تجارته مع الاتحاد السوفيتي، وتأميم الممتلكات المملوكة لأمريكا، ورفع الضرائب على الواردات الأمريكية، ثم قطعت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا وبدأت في تنفيذ عمليات سرية للإطاحة بنظام فيدل كاسترو عام 1961.

(*) أزمة الصواريخ الكوبية: نشأت أزمة الصواريخ عام 1962 بعد أن سمحت كوبا للاتحاد السوفيتي بتركيب صواريخ نووية سرا على الجزيرة بعد محاولة فاشلة لوكالة المخابرات المركزية للإطاحة بكاسترو المعروفة باسم غزو خليج الخنازير، مما أدى إلى مواجهة استمرت ثلاثة عشر يومًا بين كينيدي والزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف والتي هددت بالتصعيد إلى حرب نووية.

(*) الإدارات الأمريكية المتعاقبة تفرض سياسات عزلة: أصبحت العزلة الاقتصادية والدبلوماسية هي الأداة الرئيسية لسياسة الولايات المتحدة تجاه كوبا، على سبيل المثال في عام 1982 ، وصف الرئيس رونالد ريجان كوبا بأنها دولة راعية للإرهاب بسبب دعمها الجماعات اليسارية المسلحة في أمريكا الوسطى وأفريقيا، كذلك وقع جورج بوش الأب، وبيل كلينتون على قوانين مثل قانون الديمقراطية الكوبية لعام 1992 وقانون الحرية والتضامن الديمقراطي الكوبي لعام 1996المعروف أيضًا باسم قانون هيلمز – بيرتون، التي عززت العقوبات الأمريكية ونص على أن الحظر سيظل ساري المفعول حتى تنتقل كوبا إلى ديمقراطية تستبعد عائلة كاسترو وتدعم الحريات الأساسية.

(*) العلاقات المعاصرة (أوباما وترامب وبايدن): اتخذ الرئيس باراك أوباما بعض الخطوات غير العادية لتطبيع العلاقات الأمريكية مع كوبا، واجتمع مع الزعيم راؤول كاسترو وأعاد العلاقات الدبلوماسية الكاملة، في المقابل، عكس الرئيس دونالد ترامب مساره إلى حد كبير وضرب كوبا بمجموعة من العقوبات الجديدة، بينما أبدت إدارة جو بايدن اهتمامها بتخفيف بعض القيود المفروضة على كوبا إلا انها أشارت إن مثل هذه التحركات ليست من بين أولوياتها القصوى.

تحركات أمريكية ملتبسة:

على الرغم من إبداء إدارة جو بايدن اهتمامها بتخفيف بعض القيود المفروضة على كوبا أثناء الحملة الانتخابية، إلا أن الفترة الأخيرة عكست سلسلة من السياسات المتخبطة، ويمكن تتبع مؤشراتها في النقاط التالية:

(&) رسالة عامة مربكة: أكد العديد من مسئولي إدارة بايدن خلال الأشهر الأولى من تولي الرئاسة على أن كوبا ليست ضمن أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة، على سبيل المثال ردا على سؤال في مارس عما إذا كان الرئيس جو بايدن يعتزم إلغاء تصنيف سلفه في اللحظة الأخيرة لكوبا كدولة راعية للإرهاب، أشارت “جين بساكي” المتحدثة باسم البيت الأبيض للصحفيين، إلى أن التحول في سياسة كوبا ليس من بين أولويات الرئيس بايدن، وقدمت ردا مشابهاً بعد شهر عند سؤالها حول تنحي راؤول كاسترو عن رئاسة الحزب الشيوعي الكوبي، ولكن مع اندلاع الاحتجاجات في كوبا يوم الأحد الماضي ومهاجمة عدد من المشرعين الجمهوريين على رأسهم السناتور ماركو روبيو، بايدن لعدم وجود رد فوري على الاحتجاجات، حدث ارتباك داخل البيت الأبيض و بدا أن مسئولي إدارة بايدن في تصريحاتهم يحاولون السير على خط رفيع بين الإعراب عن الدعم للمتظاهرين ومطالبة الحكومة الكوبية بالاستجابة لمطالب الشعب، لكن دون  تشجيع الإطاحة بالنظام، على سبيل المثال لم يرد مسئولو إدارة بايدن على الفور على أسئلة حول ما إذا كانوا قد فوجئوا بالمظاهرات، أو تم تحذيرهم قبيل اندلاعها، أو ما هي خطط الإدارة المتعلقة بكوبا في الأيام المقبلة، وفي حديثها يوم الاثنين، قالت بساكي إنها ليست على علم بأي تحول فوري في السياسة الأمريكية تجاه كوبا، لكن واشنطن تؤكد دعمها للشعب الكوبي.

(&) تصاعد حدة الحرب الكلامية بين الجانبين: خلال الفترة الماضية، اشتدت الحرب الكلامية الدبلوماسية بين البلدين، ففي 4 مايو، أكد وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكين خلال المؤتمر ال51 لمجلس الأمريكيتين أن واشنطن تدين قمع حقوق الإنسان وستدافع عن حقوق الشعب الكوبي، بما في ذلك الحق في حرية التعبير والتجمع، في المقابل انتقد وزير الخارجية الكوبي برونو رودريجيز تصريح بلينكين بعد ساعات قليلة  وأشار إلى أن إذا كان الوزير بلينكين مهتمًا بحقوق الإنسان للشعب الكوبي، فإنه سيرفع الحظر والتدابير الـ243  التي اتخذتها الإدارة السابقة ولا تزال سارية حتى اليوم في خضم تفشي كوفيد-19، ومع اندلاع الاحتجاجات في كوبا مطلع الأسبوع الجاري سعى الرئيس الكوبي ميجيل دياز كانيل والقادة الكوبيين إلى تصوير الاحتجاجات على أنها نتاج “الإمبريالية الأمريكية”، في المقابل  أكد الرئيس بايدن وقوف واشنطن إلى جانب دعوة الشعب الكوبي من أجل الحرية وعلى حكومة كوبا الاستماع إلى الشعب وتلبية احتياجاته في تلك اللحظة الحاسمة، كما نفى وزير الخارجية أنتوني بلينكين المزاعم القائلة بأن الولايات المتحدة دبرت الاحتجاجات، قائلا إن المظاهرات هي انعكاسا لغضب الشعب الكوبي من القمع الحكومي وسوء الإدارة، وسيكون خطأ فادحًا على النظام الكوبي أن يفسر ما يحدث في عشرات البلدات والمدن في جميع أنحاء الجزيرة انه مفتعل من الولايات المتحدة.

(&) إبقاء كوبا ضمن قائمة الدول الراعية لـلإرهاب: في الرابع عشر من مايو الماضي، عاودت وزارة الخارجية الأمريكية تصنيف كوبا كبلد لا يتعاون على النحو الكافي مع جهود الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب إلى جانب إيران وكوريا الشمالية وسوريا وفنزويلا، كان ترامب قد أعاد كوبا على قائمة “الدول الراعية للإرهاب” قبل تسعة أيام من مغادرة منصبه، وذلك بعد حذفها من هذه القائمة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي تم خلال ولايته استئناف العلاقات الدبلوماسية مع كوبا في 2016، والذي التقى الزعيم الكوبي آنذاك راؤول كاسترو.

(&) التصويت ضد إنهاء الحصار الاقتصادي على كوبا: صوتت إدارة بايدن في ال23 من يونيو الماضي ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوي بإنهاء الحظر الاقتصادي للمرة 28، وصرح الدبلوماسي الأمريكي في الأمم المتحدة “رودني هنتر” أمام الجمعية العامة بأن العقوبات ضد كوبا أداة مشروعة في دعم الشعب الكوبي، و العقوبات هي مجموعة من أدوات واشنطن في إطار جهدها الأوسع تجاه كوبا، لتعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ومساعدة الشعب الكوبي على ممارسة الحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

جدل داخل واشنطن:

تتعرض إدارة بايدن الأمريكية لضغوط داخلية لتحديد موقفها تجاه كوبا، بين من يؤيدون العودة إلى سياسة أوباما والذين يرغبون في الاستمرار بسياسة العقوبات التي فرضها ترامب، على النحو التالي:

  • نقاش حاد داخل الكونجرس: في ظل عدم تحرك بايدن بسرعة في هذه الأجندة، سعى المشرعون في الكونجرس لملء الفراغ، على سبيل المثال يسعى أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون مثل السناتور ماركو روبيو وريك سكوت وتيد كروز، وجميعهم لديهم طموحات رئاسية محتملة لعام 2024، إلى منع أي محاولة لبايدن لإزالة كوبا من قائمة الولايات المتحدة الراعية للإرهاب – وهو التصنيف الذي وضعته إدارة ترامب، كما تعهدوا بمعارضة أي مقترحات لتشريعات تستهدف تعديل السياسة الأمريكية تجاه كوبا، بينما على النقيض من ذلك، يدفع العديد من الديمقراطيين، بمن فيهم النائب جيم ماكجفرن والسناتور باتريك ليهي نحو سياسة أكثر انفتاحًا، تتمثل في قيام بايدن قام بعكس سياسات السفر والتحويلات المالية تجاه كوبا وتوسيع العلاقات الدبلوماسية الأمريكية مع هافانا.
  • انقسام بين أعضاء حزب بايدن: على الرغم من أن الديمقراطيين يفضلون تغيير السياسية المتبعة إزاء كوبا وضرورة رفع العقوبات التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب ، إلا أن هناك عدد من أعضاء الحزب الديمقراطي أعربوا عن توجهات مناقضة، على سبيل المثال، عارض السناتور الديمقراطي روبرت مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، منذ فترة طويلة أي إصلاح للسياسة تجاه كوبا، كما دعم تحرك بايدن للإبقاء على العقوبات والقيود التي كانت سارية في عهد ترامب، وعدم جعل كوبا أولوية في السياسة الخارجية وذلك بالنظر إلى التحديات المستمرة مع الصين وروسيا وإيران.
  • قضية كوبا تتصدر بعض مراكز الفكر والأبحاث الأمريكية: طلبت العديد من مراكز الفكر الرائدة، بما في ذلك مجلس الديمقراطية في الأمريكيتين (CDA) ومكتب واشنطن لأمريكا اللاتينية (WOLA) ومجموعة دراسة كوبا (CSG)، من الإدارة الجديدة جعل قضية كوبا أولوية واستعادة سياسة التقارب والتفاعل النقدي التي انتهجها أوباما.
  • انطلاق مسيرات تضامن في ميامي: تجمع الآلاف في مدينة ميامي جنوب شرق ولاية فلوريدا يوم الأحد للاحتجاج تضامنا مع الكوبيين، حيث حمل بعض المتظاهرين أعلام كوبية وأمريكية، كما استخدم البعض لافتات وقمصان لعرض شعار “Patria Y Vida” أو “الوطن والحياة”، وهو شعار الاحتجاجات في جميع أنحاء كوبا.

خلاصة القول، على الرغم من وعود بايدن الانتخابية بإنهاء سياسات ترامب المتشددة إزاء كوبا، وظهور كوبا على أجندة السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة في خضم اندلاع موجة الاحتجاجات الغير مسبوقة في كوبا ضد حكومة ميجيل دياز كانيل، إلا أن من المرجح إتباعه سياسة تدريجية حذرة تنطوي على عدم الانخراط بشكل مفرط علنًا حتى النصف الثاني من ولايته، نتيجة عدد من العوامل الحاكمة والتي تتمثل في الانقسام الحزبي الأمريكي بشأن سياسة كوبا والذي يعد أحد الأسباب الرئيسية التي ستجعل بايدن يتحرك تدريجياً فقط لعكس سياسات عهد ترامب، كذلك تعتبر سياسة الولايات المتحدة تجاه كوبا قضية استقطاب رئيسية في العديد من الولايات الانتخابية الأمريكية المتأرجحة الرئيسية، وخاصة ولاية فلوريدا، لأن بها تجمعات عالية من المهاجرين من كوبا وفنزويلا ونيكاراجوا، وفي سياق ذلك يدرك بايدن كيف عارض العديد من المرشحين الجمهوريين للرئاسة بشدة سياسة أوباما تجاه كوبا وسعوا إلى بناء رأس مال سياسي منها خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وبالتالي قد لا يتحرك بايدن بشأن كوبا إلا بعد انتخابات التجديد النصفي لعام 2022، إلى جانب ذلك يواجه بايدن مشهدًا سياسيًا مختلفًا مع كوبا حيث لا تزال انتهاكات حقوق الإنسان تمثل مشكلة خطيرة في البلاد، وتستمر أجهزة المخابرات في دعم الزعيم الفنزويلي نيكولاس مادورو، والأسئلة التي لم يتم الرد عليها حول “هجمات الميكروويف” المشتبه بها التي تستهدف الدبلوماسيين الأمريكيين في هافانا، ففي حين أن إعادة ضبط العلاقات لا تزال مرجحة، قد تحتاج إلى الانتظار حتى النصف الثاني من ولاية بايدن.

سلمى العليمي

باحثة متخصصة بالشؤون الأمريكية، الرئيس السابق لبرنامج الدراسات الأمريكية، باحث ماجستير في العلوم السياسية، حاصلة على بكالوريوس العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ودبلومة في الدراسات العربية، دبلومة من الجامعة الأمريكية في إدارة الموارد البشرية، نشرت العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة في الشأن الأمريكي والعلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى