قراءة سوسيولوجية لموقف الشعب الإثيوبي من سياسات آبي أحمد
بهي الدين أيمن- باحث بالمركز.
هناك سؤال يشغل الكثير من خبراء علم الاجتماع السياسي، يتمثل في: هل سيطرة حزب الازدهار علي أغلبية المقاعد والفوز بأكثر ثلاث مناطق من حيث تعداد السكان يعنى أن المجتمع الإثيوبي في مجمله يؤيد سياسة آبي أحمد الحالية، وخاصة سياسته تجاه سد النهضة؟، وكيف نجح آبي أحمد في الفوز بتأييد الشعب بالرغم من سذاجته والمشاكل التي تحيط به من الداخل والخارج؟.
إن الإجابة عن هذا السؤال، تتطلب تحليل موقف المجتمع الإثيوبي والرأي العام من خطابات واتجاهات آبي احمد, وبالتالي الرجوع إلي جذور فلسفة الأخير وتحليل منهجه من خلال تحليل المؤثرات التي قد تتسلل إلي قراراته سواء بوعيه أو من خلال اللاوعي.
مؤثرات مستمرة:
في البداية، تجدر الإشارة إلى أن آبي احمد هو ابن لشعب الأورومو، الذي يعتبر أكبر شعب عرقي لغوي في إثيوبيا, ويشكل حوالي ثلث سكان الدولة، المنعزل بشكل قاسي في القطاع الجنوبي للدولة بعد موجات الهجرة في القرن السادس عشر. وبسبب المغالطات التاريخية, والافتراضات غير المبنية علي حقائق التي تم نقلها إلي شعب الأورومو, ظلوا مهمشين ومنعزلين لفترة طويلة من الزمن, وقد قيل لهم دائماَ بأن دورهم في بناء الحضارة الإثيوبية ظل منعدم. وللأسف تبقي هذه المغالطات محمية من أي نقد في التاريخ الحديث حتى تاريخه, وظلت هذه الحقائق المزيفة تحدي لشعب الأورومو، الذي يصارع من أجل بقاء هويته ودوره المنسي في بناء الدولة.
وترجع هذه المغالطات التاريخية، إلي رجل اسمه (أبا بحري) وهو كاهن إثيوبي عاش في القرن السادس عشر وقال إن شعب الأورومو (عادوا من بلادهم وأتوا إلي إثيوبيا) وبالطبع كان علي خطأ كبير. وتم تكذيب هذا القول من خلال عدد من الباحثين الذين أكدوا أن الأورومو كانوا موجودين بالفعل لوقت طويل قبل القرن السادس عشر, وبالتالي من حقوقهم أن لا يشعروا كغرباء في بلادهم وعدم إنكار دورهم التاريخي في الحضارة الإثيوبية, فالثقافة الارستقراطية السياسية الإثيوبية كانت من صنع شعب الأورومو.
ومن هنا، تظهر نظرية التهميش أو العزلة لكارل ماركس، وهذه النظرية ليست فقط وليدة دراسات كارل ماركس, ولكن ترجع جذورها أيضا لدراسات الغرب للإسلام, حيث تم تفسير نزول آدم وحواء من الجنة عندما عصوا الله علي أنه تم تهميشهم – واليعاذ بالله- وأن لذلك الإنسان في صراع دائم للرجوع إلي الجنة ومواجهة ظاهرة التهميش. بالإضافة إلي أن هذه النظرية تشهد إسهامات هيجل الكبيرة، والتي جذبت اهتمام ماركس في وقت لاحق, وكان يمثل مصطلح التهميش جزء كبير من فلسفة هيجل الفكرية المثالية, ولكن ماركس درسها بشكل واقعي مادي اجتماعي, وتعتبر هذه النظرية هي نتيجة المجتمع القائم علي طبقات اجتماعية, وتقسيم المجتمع إلي طبقة عمال وطبقة رأس ماليين, ونتج عن تهميش طبقة العمال احتجاجات وثورات وشعور عام بالغضب ضد النظام الرأس مالي. ونظرية التهميش تشمل بالتالي العديد من الأبعاد السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية, مثل شعب الأورومو الذي شعر بتهميشه لفترة طويلة مما ولد شعور متزايد بالغضب والرغبة الدسيسية في الانتقام.
وعلى ما سبق، ونتيجة التهميش والعزلة التاريخية, فإن المسئولية الأكبر وقعت علي عاتق المثقفين من شعب الأورومو لتحريرهم من هذا الشعور القائم علي أكاذيب تاريخية متراكمة, والأمل الوحيد يقع في يد المثقفين الكادحين أمثال آبي احمد –بالنسبة لهم – لكي يخرجوا من هذه الحلقة ويظهروا هويتهم ومقدرتهم أمام الجميع.
وبناء علي ذلك, فقد يتم تسلل بعض المشاعر التمردية في قراراته وسياسته الخارجية التي تميل للطيش, وهذا نتيجة الشعور بالنقص التراكمي العام, بالإضافة لاعتبار آبي أحمد من (المثقفين) بين جماعته والذي يتم رؤيته علي أنه المنقذ الذي سينتشل جماعته من الانعزال والتهميش وتعويض سنوات كثيرة من الانعزال والنقص التراكمي. وتعتبر فكرة أنه فرد من قبيلة أورومو في حد ذاتها كفيلة لفوز حزبه بالانتخابات، وهذا يفسر قول أحد مؤيديه (حان دورنا ليكون لدينا قائد) خصوصا لو كان قائد صاحب انجازات ومظهر مهني أخلاقي ومسالم, بالإضافة إلي طموحات كبيرة تجاه تحقيق السلام وإنهاء الحروب العرقية، وهنا تظهر احترافية آبي احمد في انتقاء الكلمات وتزيين الخطاب السياسي.
تعويض تراجع ثقة جماهيره:
مما لا شك فيه إن إثيوبيا في الوقت الراهن تمر بعقبات سياسية كبيرة وقد تكون مرعبة, وما يزيد من القلق، خاصة وأن آبي أحمد، الذي يسيطراً على المشهد، يبدوا قائداً غير مقنع بالمرة محاولاَ تغيير مستقبل الدولة المتعددة العرقيات, بشكل راديكالي عنيف وتبعاً لطريقته الشخصية, حتي لو كانت هذه (الطريقة) تبدو طموحة وايجابية, ولكنها قاسية وغير آخذة في الاعتبار العديد من الجوانب الخفية.
إن طريقة آبي أحمد في التعامل مع واقع إثيوبيا الداخلي وقضاياها الخارجية، تنتمي لمصطلح (ميديمير) الذي يمثل فلسفة آبي أحمد الخاصة، والذي كتب عنها كتاباَ كاملاَ ليروج عن طريقته السلمية ويظهر للشعوب الإثيوبية وخاصة الأورومو مدي أهليته الثقافية لقيادة البلاد. و(ميديمير) تعني التعاون والتكاتف نحو تحقيق هدف مشترك, حسب تصريحه عند تسلمه لجائزة نوبل. لذلك قد تمثل (ميديمير) رغبة آبي أحمد في تقمص دور السفسطائي الحديث –وقد يتم اعتباره هكذا بالفعل- الذي يريدنا أن نعتقد في أفكاره.
وفي الواقع، فإن هذه الفلسفة ليست إلا مجرد سفسطة ونتاج مجموعة من الأفكار التي يتم توصيلها للعامة في صورة مصطلحات معقدة, شبه ثقافية, وقد تكون أحيانا مغلوطة, وهذه الخطابات تعتبر مقنعة بشكل اكبر لأنها ممزوجة بحماسة دينية إنجيلية زائفة. والسفسطائيون بشكل عام كانوا يمثلون (الحكماء) في أثينا في القرن الخامس وكانوا يدعون الحكمة والفضيلة ويعتقدون أنهم لديهم إجابة علي أي سؤال, بل أن أرسطو شعر بالاشمئزاز من هذه الطريقة في التقارب الجماهيري وأتهم السفسطائيون، باستخدام المغالطات البلاغية للتلاعب بالجمهور من خلال استخدام العواطف, لذلك كان يتم النظر إليهم من قبل الفلاسفة الحقيقيين علي أنهم جشعين ويسعون للسلطة.
لذلك، يمكن أن نري تزاوج بين خطابات آبي احمد والخطابات السفسطائية, وبالتالي لا نستبعد ميل القائد الإثيوبي إلي النزعة الديكتاتورية الممزوجة بحبه الحديث للسلطة من ناحية ومن ناحية أخري نزعته التمردية الناتجة عن النقص المتراكم و تهميش شعبه لفترة كبيرة من الزمن. وعليه، قد يكون من المفهوم تأييد أغلبية الشعب الإثيوبي لسياسية آبي أحمد، التي قد تتصف بالرعونة بشكل رئيسي. فهو عمل جاهداَ لتزيين خطاباته الداعية للوحدة العرقية والتكاتف من أجل مستقبل الوطن، وكسب عواطف شعبه عن طريق مظهره الخلوق والمسالم والتركيز علي العبارات الإيجابية وتجنبه للسلبيات التي سيدفع ثمن عدم مناقشتها علنيا لاحقا.
تهديد المساحة الفاصلة بين الدين والدولة:
فعلي الرغم، من دعوته للوحدة الوطنية وإنهاء الصراعات العرقية, فهو يتدخل في شئون العرقيات الأخرى و تواريخها ويتحدث عن ذكرياتها بشكل جمعي وجرئ مما قد يزيد الانقسامات بين الأعراق أصلا, ليس فقط بالنسبة للعرقيات الأخرى التي يدعي تمثيلها وقيادتها نحو الأفضل ولكن بالنسبة لشعبه أيضاً لأن الشعب سيطالب بانحياز القائد نحوه خصوصا في بيئة حافلة بالصراعات العرقية تاريخياً. وصحيح أنه قد يكسب تعاطف الشعب التقليدي عن طريق الخطابات الدينية, خاصة أن 98% من المجتمع الإثيوبي يعتبر الديانة مهمة لحياتهم, ولكن استخدامه الزائد للعبارات الدينية في سبيل كسب التعاطف الديني للشعب قد يهدد بهدم الحاجز الفاصل بين الدين والدولة، وبالتالي قد تزيد هذه الاستمالة الدينية من المشاكل والانقسامات.
وعلى ما سبق، قد يفهم تعاطف المجتمع الإثيوبي، وتأييده لسياسات آبي أحمد الإصلاحية والتطلعية، التي قد تبدو خجولة وضعيفة في سبيل الحفاظ علي المظهر المسالم والخلوق- من منطلق عدم أخذ الشعب هجمات الحكومة الإثيوبية علي تيجراي بجدية. فهذه السياسة، وهذا الإدراك الناقص من قبل الشعب الإثيوبي لسياسة آبي أحمد لن يستمر كثيراً، فمن المرجح أنها لن تدوم طويلاً مع التخبطات الداخلية والخارجية, خاصة مع الدولة المصرية.
بهي الدين أيمن- باحث بالمركز.
بالعودة، إلى الحديث عن مصر وسد النهضة, فإنه من الواضح أن تأييد المجتمع الإثيوبي لسياسات الحكومة تشمل تأييد العداوة مع مصر. ولكن علينا الأخذ بالاعتبار انخراط الشعب الإثيوبي في أحداث جرائم قتل واغتصاب وحشية داخلية تعطي سببا كافياَ لعدم وعيه بالمأزق الخارجي والاكتفاء بمعرفتهم للإنجازات الاقتصادية الأخيرة. فقد يرجع عدم وعي المجتمع بمخاطر التصادم مع مصر, إلى يرجع إلى رؤيته بأن هذه العداوة كـشيء إيجابي، ومساهمة كبيرة في وحدة الوطن ودليل علي جرأتها, ويرون في هذه القضية أمل لقيادة إثيوبيا للرفعة الإفريقية بعد سنوات كثيرة من الفقر والمجاعة خاصة مع الإنجازات الاقتصاديةـ وقائد ذي تطلعات سلمية ذات قابلية جماهيرية نسبية بشكل سطحي.
فقد لا يدوم التأييد الحالي لآبي أحمد طويلاً, ففي ظل العقبات الجارية قد ينزع قناع الحكيم والمثقف منه ويستسلم لنزعته الشبه ديكتاتورية لتحقيق أهدافه غير المعلنة, وهنا قد يستمر التأييد في حالة واحدة فقط، وهى كسب تعاطف المجتمع الدولي, وقد ينقلب الشعب الإثيوبي علي آبي أحمد، ويكتشف الحقيقة كاملة, حقيقة ضعفه ورعونة سياساته وخطاباته المزيفة.