هل ينجح مجلس الأمن في التعامل مع أزمة سد النهضة؟

بعد أيام قليلة من تلقيها هزيمة مذلة من قبل قوات إقليم “التيجراي”، قامت إثيوبيا بإرسال خطاب رسمي إلى مصر يفيد ببدء عملية الملء الثاني لسد النهضة، وذلك قبل بضعة أيام من اجتماع مجلس الأمن المقرر في الـ 8 من يوليو الجاري لبحث التعنت الإثيوبي في هذا الملف والذي بات يهدد السلم والأمن على الصعيدين الإقليمي والدولي، لكن ثمة تساؤلات مطروحة بقوة بشأن احتمالات نجاح مجلس الأمن في التوصل إلى حلحلة سريعة للأزمة المستمرة منذ عشرة سنوات بسبب السياسات الاستفزازية التي تنتهجها أديس أبابا.

خطاب استفزازي:

أعلن وزير الموارد المائية والري المصري “محمد عبد العاطي” في الـ 5 من يوليو الجاري تلقيه خطاباً رسمياً من نظيره الإثيوبي يفيد ببدء أديس أبابا عملية الملئ الثاني لخزان سد النهضة، قبل أن ترسل وزارة الري رفضاً قاطعاً من الدولة المصرية لهذا الإجراء الأحادي من الجانب الإثيوبي، مشيرةً إلى أنها تمثل انتهاكا صريحاً لاتفاق المبادئ وكافة القوانين والأعراف الدولية التي تحكم المشروعات المقامة على الأنهار الدولية.

كذلك، أرسلت وزارة الخارجية المصرية الخطاب الموجه من قبل وزير الموارد المائية والري لنظيره الإثيوبي إلى رئيس مجلس الأمن لإِحاطته بهذا التطور الذي يعكس التعنت الإثيوبي وإصرارها على انتهاك القوانين الدولية والدفع نحو فرض الأمر الواقع، وهو ما يمثل تهديداً صريحاً للسلم والأمن الإقليميين، وذلك قبل الجلسة المقبلة للمجلس بشأن سد النهضة.

تشتيت الانتباه والتغطية عن هزيمة التيجراي:

يأتي خطاب وزير الري الإثيوبي بعد أيام قليلة من الهزيمة المذلة التي تعرضت لها القوات الإثيوبية في إقليم التيجراي، فبعد ثمانية أشهر من الحرب التي شنتها قوات حكومة “آبي أحمد” ضد إقليم التيجراي الإثيوبي والانتهاكات وجرائم الحرب التي ارتكبتها هذه القوات – بالاشتراك مع القوات الإريترية- ضد المدنيين في هذا الإقليم، نجحت بقايا قوات جبهة تحرير التيجراي في استعادة السيطرة على العاصمة ميكيلي وإلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الحكومة الإثيوبية، ففي مشهد مهين لقوات أديس أبابا استعرضت قوات إقليم التيجراي آلاف الأسرى من الجيش الإثيوبي على ناقلات رحلتهم إلى سجن كبير على الحافة الشمالية للمدينة، ووفقاً لتقرير صادر عن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن عدد الأسرى بلغ نحو 7 آلاف من جيش أديس أبابا.

بالتالي، فقد مثلت هذه الأحداث انتكاسة كبيرة لهيبة حكومة “آبي أحمد” داخلياً وخارجياً، مع تصاعد احتمالات تأجيج مزيد من الصراعات الداخلية في إثيوبيا خلال الفترة المقبلة، وهو ما أشارت إليه العديد من التقارير الدولية والأممية والتي باتت تنظر إلى أديس أبابا باعتبارها مصدراً لعدم الاستقرار في المنطقة.

لذا، يبدو أن “آبي احمد” يستهدف من الخطاب الأخير الذي أرسله إلى القاهرة تشتيت الانتباه عن الهزيمة الساحقة التي تعرضت لها قواته في إقليم التيجراي، خاصة وأنه لطالما نظرت القوى الدولية للجيش الإثيوبي باعتباره محدداً رئيسياً للاستقرار في منطقة القرن الإفريقي يمكن الاعتماد عليه في مواجهة الجماعات الإرهابية هناك، إلا أن خسارة قوات “آبي” للحرب ضد التيجراي فضلاً عن المشهد المهين الذي تعرضت له على يد القوات التيجرانية سوف يعيد تشكيل الموقف الدولي تجاه ثقتهم في القوات الإثيوبية.

مناورة إثيوبية:

من ناحية أخرى، ثمة مناورة واضحة من قبل أديس أبابا يعكسها توقيت الخطاب الذي أرسلته وزارة الري الإثيوبية إلى الدولة المصرية قبيل الاجتماع المرتقب لمجلس الأمن في الـ 8 من يوليو الجاري والذي سوف يناقش ملف سد النهضة، حيث تسعى أديس أبابا إلى بث رسائل للشركاء الدوليين ومجلس الأمن مفادها أن الحكومة الإثيوبية تتبادل المعلومات مع دولتي المصب، غير أن هذه الأمر يتعارض تماماً مع إعلان المبادئ والذي ينص على التعاون في الملء الأول وإدارة السد والاتفاق على قواعد الملء والتشغيل، ومن ثم فعملية الإخبار من قبل أثيوبيا يعد بالأساس محاولة منها لفرض الأمر الواقع، إذ لا يمكن تبادل معلومات غير متفق عليها من قبل.

أيضاً، تستهدف إثيوبيا من هذه الخطوة إثارة غضب مصر والسودان ودفعهما إلى إصدار تصريحات وموافق تؤخذ عليهما قبل اجتماع مجلس الأمن المقبل، ومن ثم تستخدم أديس أبابا هذه التصريحات لتعزيز موقفها أمام المجلس في إطار سياسة المظلومية التي لطالما انتهجتها اثيوبيا للظهور في صورة الدولة التي تتعرض للتهديدات الخارجية بينما تسعى إلى تحقيق التنمية لشعبها، وهو الأمر الذي تدحضه تماماً المعطيات الفعلية على الأرض، والتي أثبتت بقوة زيف الإدعاءات الإثيوبية، كما برهنت بوضوح عن الدور المصري الكبير في دعم جهود الدول الإفريقية في تحقيق التنمية ولعل هذا ما يتجسد في جهود القاهرة في بناء عدة سدود أفريقية في تنزانيا والكونغو وجنوب السودان.

تحركات مصرية وسودانية:

أعلنت الخارجية المصرية أن هذا التطور يكشف سوء النية الإثيوبية ويزيد من حالة التأزم والتوتر في المنطقة، ويخلق وضعاً يهدد السلم والأمن على الصعيدين الإقليمية والدولي، في المقابل أعلن الناطق باسم وفد التفاوض السوداني بشأن سد النهضة أن الخرطوم تمتلك عدة خيارات للتعامل مع الملء الثاني، وسيتم الإعلان عن هذه الخيارات في الفترة المقبلة.

وفي وقت سابق، قدمت مصر والسودان طلباً إلى مجلس الأمن لمناقشة ملف سد النهضة بسبب التعنت الإثيوبي في الوصول إلى اتفاق ملزم بين الدول الثلاثة، حيث طرحت القاهرة شكوى رسمية أمام مجلس الأمن ضد إثيوبيا أعلنت خلالها رفضها لأي خطوة من قبل أديس أبابا للبدء في عملية الملء الثاني بشكل منفرد دون التوصل إلى اتفاق، وهو الأمر الذي أكدته السودان أيضاً في شكوتها للمجلس.

وفي تحركات دبلوماسية مكثفة من قبل الدول المصرية، عمدت الخارجية المصرية إلى عقد لقاءات مع أعضاء مجلس الأمن قبل انعقاد الجلسة المقبلة، وذلك لشرح الأبعاد المختلفة للموقف المصري بشكل مفصل للأعضاء، فقد التقى وزير الخارجية “سامح شكري” بالمندوبين الدائمين لروسيا والصين بالأمم المتحدة لتوصيل الصورة الحقيقية عن الموقف الراهن للأزمة.

كما التقى وزير الخارجية المصري بنظيرته السودانية “مريم صادق المهدي” في نيويورك لتعزيز التنسيق بين البلدين وتوحيد المواقف وإجراء اتصالات ومشاورات مكثفة مع الدول الأعضاء بمجلس الأمن لدعم موقف البلدين في ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل السد، وقد أعلن الوزيران رفضهما القاطع للخطوة الإثيوبية الأخيرة.

هل ينجح مجلس الأمن؟:

أشار تقرير صادر عن موقع المونيتور Al- Monitor الأمريكي إلى التزام الدولة المصرية بمسارات الدبلوماسية في مشاوراتها مع الجانب الإثيوبي خلال السنوات الماضية، وقد انتهجت القاهرة سياسة ضبط النفس إزاء الاستفزازات والتعنت الإثيوبي، إلا أن الأخيرة مستمرة في سياساتها الاستفزازية، ويشير التقرير إلى أنه التداعيات السلبية للسد ربما لن تتبلور في عملية الملئ الثاني – خاصةً مع فشل أديس أبابا في تحقيق التعلية المطلوبة لتخزين الكمية المستهدفة والتي كانت تبلغ 13.5 مليار متر مكعب- إنما الإشكالية تتمثل في التحرك الإثيوبي المنفرد لفرض الأمر الواقع، إذ يؤكد التقرير أنه بدون التوصل إلى اتفاق ملزم مع أديس أبابا فإن تدفق المياه إلى دولتي المصب سيدخل في نفق مجهول خلال السنوات المقبلة.

وفي هذا السياق جاءت التحركات المصرية والسودانية بدفع الملف إلى مجلس الأمن، حيث تستند القاهرة والخرطوم في دعوتهما لمجلس الأمن إلى المادة 34 من ميثاق الأمم المتحدة والخاص بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وقد شهدت الأيام الأخيرة تحركات دبلوماسية حثيثة من قبل مصر والسودان داخل أروقة الأمم المتحدة لحشد أكبر تأييد لمشروع القرار الذي سيتم طرحه على مجلس الأمن في الجلسة المقبلة، وذلك بالتعاون مع الدول الأربعة التي كلفتها جامعة الدول العربية بدعم الجهود المصرية والسودانية، وتتمثل هذه الدول في المملكة العربية السعودية والأردن والعراق والمغرب، فضلاً عن تونس ممثل العرب الحالي في مجلس الأمن، ويبدو أن هذا الموقف العربي الموحد لدعم مصر والسودان مثل إزعاجا للجانب الإثيوبي وتخوفها من تأثير الموقف العربي المتسق والمنسجم، وقد تجسد ذلك في إعلان أديس أبابا رفضها لتدخل جامعة الدول العربية في ملف سد النهضة.

وسيتضمن مشروع القرار المقدم من قبل القاهرة والخرطوم – وفقاً للتقرير الصادر عن “أندبندت عربية”-على مطالبة الأمم المتحدة على دعم القدرات التفويضية للاتحاد الإفريقي، لتمكينه من مساعدة الإطراف الثلاثة على التوصل إلى اتفاق ملزم وقانوني بشأن عملية ملء وتشغيل السد وتسوية النزاعات خلال ستة أشهر من صدور القرار من مجلس الأمن الدولي.

لكن يبقى التساؤل الأبرز هو احتمالات صدور قرار عن مجلس الأمن في الجلسة المقبلة، وواقعياً تبقى فرص حدوث هذا الأمر محدودة، وهو ما عكسته تصريحات مندوب فرنسا في مجلس الأمن (الرئيس الحالي للمجلس) “نيكولا دو ريفيار” والذي أشار إلى أنه لا يعتقد أن مجلس الأمن قادر بنفسه على إيجاد حل لأزمة السد، مشيراً إلى أن ما يمكن أن يفعله المجلس هو فتح الباب ودعوة الأطراف الثلاثة إلى الطاولة للتعبير عن مخاوفهم وتشجيعهم على العودة للمفاوضات لإيجاد حل.

وبالتالي، فثمة تعقيدات وعقبات ربما تحول دون حدوث انفراجة خلال جلسة مجلس الأمن المقبلة، لعل أبرزها أن هذه القضية تمثل سابقة من نوعها أمام المجلس، فلأول مرة يعرض على مجلس الأمن قضية خاصة بالأنهار الدولية تمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، ويضاف لذلك صعوبة إقناع تسعة دول من الدول الـ 15 داخل مجلس الأمن لدعم الموقف المصري والسوداني، خاصة وأن معظم هذه الدول تعتبر دول منابع، كما أن بعضها له مصالح كبيرة في إثيوبيا وفي سد النهضة ذاته، وهو ما قد يؤدي إلى استعمال بعض الدول الدائمة في مجلس الأمن إلى حق الفيتو ضد أي قرار يدخل ضمن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والذي ينص على الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وحق الدفاع الشرعي عن النفس. لذا، ففي ظل المواقف غير اليقينية لبعض الدول دائمة العضوية فلا يرجح أن يصدر عن مجلس الأمن أي قرارات صارمة ضد التعنت الإثيوبي.

لكن، يبقى السيناريو الأمثل في ظل المعطيات الراهنة هو نجاح مصر والسودان في استصدار قرار من مجلس الأمن يفيد بضرورة التوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاثة خلال مدة زمنية محددة، وضمان دور فعال لمجلس الأمن في متابعة الموقف الإثيوبي وتقديم تقارير دورية بشأنها، وهو ما يمكن أن يمثل ضغطاً على أديس أبابا والرضوخ لفكرة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم مع دولتي المصب.

أيضاً، ثمة معطيات جديدة باتت تتبلور في تغيير الموقف الأمريكي من أديس أبابا، سواء فيما يتعلق بملف التيجراي، أو فيما يخص قضية سد النهضة، حيث باتت واشنطن تدعم فكرة أن الملئ الثاني بشكل منفرد ربما يؤدي إلى تأجيج التوتر في المنطقة، لكن هذا التغير في الموقف الأمريكي ربما يواجه برد صيني في مجلس الأمن يجعله غير قادر على الوصول إلى نتيجة إيجابية في الجلسة المقبلة للمجلس، بيد أن هذا الموقف الجديد من واشنطن يمثل خطوة إيجابية يمكن البناء عليها في الفترة المقبلة.

في النهاية، أثبتت الدولة المصرية على مدار السنوات العشر الأخيرة أنها تسعى للتعاون مع الدول الإفريقية كافة لتعزيز التعاون ودعمها في تحقيق التنمية في هذه الدول، بما في ذلك إثيوبيا، فقد سمحت لها مصر ببناء سد النهضة لتحقيق التنمية للشعب الإثيوبي، بيد أن السياسات التي ينتهجها رئيس الوزراء الحالي “آبي أحمد” تدفع ببلاده في مسار مخالف تماماً لذلك، فالمعطيات الداخلية الراهنة في إثيوبيا تنذر بتفجير الوضع والدخول في حرب أهلية واسعة سيكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة ككل، وفي هذا الإطار يسعى “آبي” إلى التغطية على الأزمات الداخلية وخسائره المتتالية بملف سد النهضة، والذي ربما بات الأمل الأخير الذي يتشبث به لضمان استمراره في الحكم، لكن في جميع الأحوال تمتلك الدولة المصرية القدرة الكافية على إدارة هذا الملف بما يضمن حقوق مصر المشروعة ويحمي الدولة من أي تداعيات سلبية، ولعل هذا ما عكسته تصريحات الرئيس “عبد الفتاح السيسي” الأخيرة خلال مراسم افتتاح قاعدة “3 يوليو” البحرية، حيث أكد الرئيس إلى أن مصر تسعى إلى التوصل لاتفاق قانوني ملزم وفقاً للأعراف والثوابت الدولية، مشيراً إلى أن القاهرة تتفهم متطلبات التنمية في أديس أبابا، بيد أنه يجب الأخذ في الاعتبار ألا تكون التنمية على حساب الآخرين، كما أن المفاوضات مع إثيوبيا لن تستمر إلى ما لا نهاية، بالتالي فالخيارات كافة مطروحة أمام الدولة المصرية، وسوف تتبنى القيادة السياسية الخيار الذي يحقق مصلحة الدولة ويضمن حقوقها المشروعة.

عدنان موسى

باحث في الشئون الأفريقية معيد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وباحث سياسي منذ 2013، نشر العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى