هزيمة قاسية: ما هي السيناريوهات المحتملة بعد انسحاب الجيش الإثيوبي؟

بعد سبعة أشهر من إعلان “آبي أحمد” انتصار القوات الإثيوبية على الحكومة الإقليمية في التيجراي، أعلنت أديس أبابا في 28 يونيو الجاري انسحاب قواتها من الإقليم بعدما سيطرت قوات جبهة تحرير التيجراي على العاصمة “ميكيلي”، في تحول جوهري للحرب التي أدعى رئيس الوزراء الإثيوبي أنها لن تستغرق أكثر من بضعة أسابيع قليلة، بيد أنها أدت إلى هزيمة اثنين من أكبر الجيوش الإفريقية جنوب الصحراء (إثيوبيا وإريتريا)، بل وتهديد استمرارية الدولة الإثيوبية ذاتها والتي تنطوي على عرقيات متعددة ومتباينة، وفي هذا الإطار يسعى هذا التحليل إلى قراءة التطورات الأخيرة في إقليم التيجراي والتداعيات المحتملة لذلك على النسق الداخلي والخارجي.
بداية الأزمة:
شرع “آبي أحمد” منذ توليه السلطة في 2018 في انتهاج سياسة واضحة تستهدف إزاحة قومية التيجراي من مفاصل الدولة، ففي إطار ما أطلق عليه “الإجراءات الإصلاحية لمكافحة الفساد” تخلص آبي أحمد من الكثير من جنرالات الجيش المنتمين لقومية التيجراي، بما في ذلك تعيين قائد جديد على الجيش في القيادة الشمالية الموجود في إقليم التيجراي.
وقد مثل ملف تأجيل الانتخابات التشريعية في إثيوبيا والتي كان مقرر لها أغسطس 2020 أحد أبرز محددات الخلاف بين حكومة “آبي أحمد” وإقليم التيجراي، بل وأضحت نقطة التحول في مسار الصراع السياسي بين الطرفين، ففي ظل تراجع شعبية “آبي أحمد” الداخلية وتصاعد حدة الانتقادات الموجهة له وظهور منافسين له على المشهد السياسي ( أبرزهم “جوهر محمد” الذي ينتمي لنفس قومية “آبي أحمد”) مع وجود دعم شعبي لهم، بدأ “آبي” في التخوف من عدم قدرته على حسم الانتخابات التشريعية من خلال حزبه الجديد “الازدهار”، لذا فلجأ إلى الإعلان عن تأجيل موعد الانتخابات إلى أجل غير مسمى تحت ذريعة أزمة كورونا، وهو ما أدى إلى اعتراض العديد من القوى السياسية وفي مقدمتهم “جبهة تحرير شعب تيجراي”.
لذا، أعلن إقليم التيجراي عدم الاعتراف بالحكومة المركزية عقب انتهاء ولايتها في 5 أكتوبر 2020، وعمد إلى تنظيم الانتخابات الإقليمية في سبتمبر 2020، والتي سجلت نسبة مشاركة 98%، وفازت “جبهة تحرير شعب التيجراي” بأغلبية مقاعد البرلمان الإقليمي، غير أن “آبي أحمد” أعلن عدم الاعتراف بنتائج هذه الانتخابات والحكومة الجديدة التي أفرزتها هذه الانتخابات، فضلاً عن فرض البرلمان الاتحادي الإثيوبي لمجموعة من العقوبات ضد إقليم تيجراي، تضمنت تجميد الميزانية المخصصة للإقليم ( 7.5 مليون دولار)، وهو ما اعتبرته “جبهة تحرير التيجراي” إعلان حرب ضد إقليم التيجراي، كما عمد الطرفان إلى استعراض قوتهما العسكرية لمحاولة ردع بعضهما البعض، كذا وافق البرلمان الاتحادي على تشكيل حكومة مؤقتة للإقليم ما يعني ضمنياً الإعلان بعدم شرعية الحكومة الجديدة في إقليم التيجراي، وفي 4 نوفمبر 2020 شنت قوات الحكومة الفيدرالية الإثيوبية هجوماً عسكرياً ضد إقليم التيجراي.
وفي بداية الحرب نجحت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي في السيطرة على الكثير من أسلحة الجيش الإثيوبي بعدما هاجمت القواعد الفيدرالية في المنطقة، بيد أن الجبهة بدأت تميل لصالح الحكومة المركزية بعد تدخل القوات الجوية ودعم القوات الإريترية، وقد تحول الصراع إلى حرب عصابات بعدما تراجعت جبهة التيجراي إلى الجبال، وهو ما فتح المجال أمام القوات الإثيوبية والإريترية إلى التوغل في الإقليم وارتكاب العديد من جرائم الحرب والانتهاكات والاغتصابات بحق السكان المدنيين في الإقليم وهو ما أقرته المنظمات الدولية والتي أدانت كثير من تقاريرها هذه الجرائم.
التطورات الأخيرة وهزيمة “آبي أحمد”:
بعد ثمانية أشهر من الحرب التي تشنها قوات “آبي أحمد” (وحليفتها إريتريا) حرباً شرسة ضد إقليم التيجراي، وعلى الرغم من الانتهاكات التي ارتكبتها هذه القوات، بيد أنها تلقت خسائر فادحة في القوات والعتاد، ووفقاً لتقرير صادر عن مجلة “الإيكونوميست” The Economists، أشار إلى أن مقاتلوا جبهة تحرير التيجراي عادت من الجبال التي كانت مخبأة بها تحت قيادة ” Tsadkan Gebretensae”، والذي كان قائداً للجيش الإثيوبي فترة الحرب مع إريتريا، حيث شنت الجبهة “عملية ألولا” Alula، والتي نجحت خلالها في إلحاق الهزيمة بالعديد من الفرق الإثيوبية والإرترية وأخذت آلاف الأسري منهم، مما أضطر القوات الإثيوبية للانسحاب من العاصمة “ميكيلي”، قبل أن تعلن “أديس أبابا” وقف إطلاق النار من جانب واحد في 28 يونيو الماضي تحت دعوى إنسانية، بيد أن تقرير “الإيكونوميست” رجح أن قرار الحكومة الإثيوبية جاء لمحاولة إخفاء هزيمة قواتها وإتاحة الوقت للتراجع والظهور أمام المجتمع الدولي بأنها اتخذت هذه الخطوة بدوافع إنسانية، وذلك لإصلاح العلاقة بالدول الغربية، والتي تحتاجها أديس أبابا لإعادة ترميم الاقتصاد المتأزم، فقد أنفقت الحكومة الإثيوبية نحو 2.3 مليار دولار على حربها ضد التيجراي.
لكن، أعلنت جبهة تحرير التيجراي عبر الناطق الرسمي باسمها “قيتاشوا ريدا” رفضها لقرار الحكومة الإثيوبية بوقف إطلاق النار، مشيرة إلى أن قواتها ستواصل ملاحقة القوات المعادية في إشارة إلى القوات الإثيوبية والإريترية، كما هدد بعض قادة الجبهة بمواصلة الزحف نحو الشمال باتجاه العاصمة الإريترية أسمرة وغرباً باتجاه الحدود مع السودان بهدف طرد المليشيات من منطقة الأمهرة، وقد تمكنت الجبهة من إحكام سيطرتها على غالبية الإقليم بحلول 30 يونيو الجاري.
أزمة إنسانية واتهامات اليونيسيف:
أعلنت الأمم المتحدة أن هناك حوالي 350 ألف من سكان التيجراي يعيشون في مجاعة حادة، بينما قدرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية هذا الرقم يبلغ حوالي مليون شخص، كما أكدت الوكالة أنه من بين إجمالي تعداد سكان الإقليم البالغ نحو 6 مليون شخص، فحوالي 3.5- 4.5 مليون منهم بحاجة إلى مساعدات غذائية وإنسانية عاجلة، منهم حوالي 700-900 ألف يعانون من ظروف كارثية.
ومن ناحية أخرى، اتهمت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) القوات الإثيوبية بتعمدها تفكيك معدات الأقمار الصناعية التابعة لها قبل مغادرة الإقليم، وهو ما دفع المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة “ستيفان دوجاريك” بإدانة هذه الانتهاكات، كما أشارت مصادر محلية أن هذه القوات قامت بنهب ممتلكات حكومية (تضمن البنك المركزي في العاصمة ميكيلي).
ومن جانبها، أعلنت الخارجية الأمريكية دعمها لقرار وقف إطلاق النار من الحكومة الإثيوبية، حيث اعتبرتها الوزارة خطوة إيجابية إذا ما أدى إلى إنهاء الصراع، ودعت كافة الأطراف إلى الالتزام لوقف إطلاق النار بشكل فوري وتهيئة سياق مناسب لحوار شامل يحفظ وحدة وسلامة إثيوبيا.
هل تكون يوغوسلافيا جديدة؟:
في الواقع سيتمخض عن هذا الانتصار من قبل جبهة التيجراي العديد من التداعيات المحتملة على كافة الأصعدة، فمن ناحية، ثمة احتمالات جادة باتت مطروحة بشأن مستقبل وحدة الدولة الإثيوبية والدفع نحو تفككها بما يعيد إفراز نموذج يوغوسلافيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن جبهة التيجراي لم تطالب حتى الآن بالانفصال، بيد أن هذا الأمر أضحى أحد البدائل المطروحة بقوة خاصةً وأن العديد من الشباب التيجراي باتوا يدعمون هذا المسار، ومن غير المرجح أن يسعى الإقليم إلى العودة إلى إتحاد سياسي تحت مظلة الدولة الإثيوبية، وفي هذا الإطار لا يمكن استبعاد امتداد أثر هذه التطورات إلى أقاليم أخرى في الداخل الإثيوبي، على غرار إقليمي “بني شنقول – قمز” و”أوروميا”، إذ يتوقع أن تمثل هزيمة قوات “آبي أحمد” دفعة قوية لهما ضد هيمنة “آبي” وإقليم الأمهرا الداعم له، وبالتالي لا يمكن استبعاد حدوث تفاهمات مقبلة بين إقليم التيجراي والإقليمين السابقين ضد عدوهم المشترك، حتى في ظل الخلافات السابقة بين هذه الأقاليم، حيث يمكن لقيادة التيجراي أن تنجح في رأب التصدعات السابقة وتجاوز خلافات الماضي للإطاحة بخصمهم.
من ناحية أخرى، أعادت تطورات الموقف في إقليم التيجراي خلط الأوراق من جديد أمام رئيس الحكومة الإثيوبية “آبي أحمد” وأجندته التي يسعى من خلالها للمضي قدماً نحو تدشين نظاماً مركزياً يتحكم من خلاله في كافة أرجاء الدولة الإثيوبية ومن ثم المضي قدما نحو الهيمنة على المنطقة ككل، فحتى وإن أفرزت نتائج الانتخابات الأخيرة فوزاً كبيراً لحزب “آبي”، بيد أن السياق الداخلي بات ينذر بصراعات مسلحة بين أقاليم الدولة المختلفة بما يهدد تماسك الدولة ووحدتها.
تداعيات معقدة:
من ناحية أخرى، ترتبط هذه التطورات بأزمة الحدود بين إثيوبيا والسودان، حيث لا يمكن استبعاد حدوث تفاهمات بين الجانب السوداني وجبهة التيجراي حال تعرضت أرض “الفشفة السودانية” لأي انتهاكات من قبل مليشيات إقليم “الأمهرا”، وتزداد احتمالات ذلك في ظل الخطاب الأخير لرئيس الحكومة الإثيوبية الذي أشار إلى أن أحد أبعاد انسحاب قواته من التيجراي هو توجيهها نحو الجبهة السودانية.
كذلك، ثمة تداعيات محتملة على الجانب الإريتري بعدما قرر زعيمها “أسياس أفورقي” الانضمام إلى حكومة أديس أبابا لتصفية حساباته ضد جبهة التيجراي، حيث يرجح أن تؤدي هزيمة القوات الإثيوبية والإريترية إلى إضعاف قبضة “أفورقي” على السلطة، فضلاً عن تصعيد نشاط المعارضة الإريترية العسكرية، خاصةً قوات “الكناما” والتي تحالفت مع جبهة تحرير التيجراي خلال الحرب الأخيرة.
أيضاً، مثل انتصار جبهة التيجراي عاملاً حاسماً في تقويض (أو إضعاف) التحالف الثلاثي الذي قاد الحرب ضد ميكيلي، والذي تشكل بالأساس من حكومة “آبي أحمد” والقوات الإريترية ومليشيات إقليم “الأمهرا”، فقد انتهت ضرورة التنسيق التي اقتضاها واقع الحرب والتي مثلت الهدف المشترك الرئيسي الذي تكون هذا التحالف من أجله، وهو ما يعني احتمالات نشأة خلافات بينهم، خاصةً في ظل التباينات الكبيرة بين أسمرة وأديس أبابا حول العديد من القضايا، فضلاً عن غضب الأمهرا من موقف الحكومة الإثيوبية المتراخي (من وجهة نظرها) إزاء ملف أراضي الفشقة، وهو ما قد يفرز إضعاف هذه الجبهة الثلاثية مع محاولة كل طرف -بشكل منفرد- تحقيق مصالحه وتجنب الانهيار.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى بعد آخر يتمثل في التأثير الدولي والإقليمي، حيث يرجح أن تتيح المعطيات الراهنة المجال أمام الكشف عن كافة الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة الإثيوبية والإريترية في إقليم التيجراي، وهو ما قد يزيد من حدة الغضب الدولي ضد “آبي أحمد” ويقوض شرعيته الهشة بالفعل، مما قد يدفع نحو استبعاد “آبي” من المشهد في المرحلة المقبلة بل وإدانته أمام الجنائية الدولية.
في النهاية، تعكس التطورات الراهنة في إقليم التيجراي أن ثمة سياق جديد بات يتشكل في الداخل الإثيوبي، سيلقي بظلاله على منطقة القرن الإفريقي ككل، فهي قد تمثل نقطة فاصلة في تاريخ إثيوبيا فيما يتعلق بمستقبل الفيدرالية العرقية ووحدة وتماسك الدولة، وفي هذا الإطار تبقى كافة السيناريوهات مطروحة سواء بتفتت الدولة وتشرذمها تحت بند تقرير المصير من قبل بعض الأقاليم، أو تأجيج الأوضاع الداخلية بانقلابات عسكرية وصراعات مسلحة واسعة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المرحلة المقبلة يرجح أن تشهد انخراطا دولياً وإقليمياً واسعاً ستمثل أحد محددات حلحلة وتسوية السياق الداخلي المتأزم.