معارضة داخلية وخارجية: هل ينجح أردوغان في استكمال مشروع  قناة إسطنبول الجديدة؟

أثار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قضية خلافية جديدة على مستوى الداخل التركي،  بالإعلان عن شروعه في تنفيذ مشروع قناة اسطنبول الجديدة، حيث يتبنى التحالف الحاكم هذا المشروع ويدعمه بقوة، رهاناً على كسب تأييد الشارع التركي، بعد أن تراجعت شعبية لمستويات متدنية خلال الأشهر الأخيرة. بينما على الجانب الأخر حملت أحزاب المعارضة بقوة على هذا المشروع ، الذي يعتبروه من وجهة نظرهم مشروع سياسي بلا جدوى اقتصادية ، هدفه التسويق لإنجازات وهمية، ستكلف الخزينة التركية أعباء إضافية بلا مبرر.

في هذا الإطار يحاول هذا التحليل تقديم قراءة لهذا المشروع، وأهدافه، والموقف الداخلي والخارجي منه، ومدى تأثيره على السياسة التركية في المستقبل.

الرؤية الحكومية للمشروع:

تبلورت فكرة المشروع للاستفادة من العائدات التي سيحققها نتيجة لفرض الرسوم على السفن المارة عبر القناة، نظرا لأن معاهدة مونتيرو حظرت تحصيل أي رسوم باعتبار أن مضيق البوسفور مياه دولية، خاصة مع ازدياد أعداد  السفن المارة من خلاله فالطاقة الاستيعابية للمضيق تتسع لحوالي 25 ألف سفينة، فضلا عن زيادة حمولتها وزيادة أعداد السفن الحاملة للوقود والمواد الخطيرة، وتكرار حوادث التصادم وغرق بعض السفن المارة في المضيق . حيث ارتفع عدد السفن العابرة لمضيق البوسفور سنويا  من 3 آلاف خلال الثلاثينيات من القرن العشرين إلى 45 ألفا في الوقت الحالي، بالإضافة لدور متوقع للقناة الجديدة في تخفف الضغط على مدينة اسطنبول، حيث سيتم إقامة تجمعات سكانية على ضفاف القناة بسعة إجمالية تصل إلى حوالي 500 ألف نسمة.

يهدف مشروع قناة اسطنبول الجديدة من وجهة نظر التحالف الحاكم إلى ربط البحر الأسود ببحر مرمرة، لتخفيف العبء على مضيق البوسفور، فضلاً عن الأهمية الاقتصادية والتجارية التي يمكن أن يحققها هذا المشروع لتركيا، ويتوقع الانتهاء منه في غضون ست سنوات، بتكلفة تقارب 15 مليارات دولار بالإضافة إلى 10 مليارات دولار لإقامة تجمعات سكنية في منطقة القناة، ويبلغ طول القناة حوالي 45 كم وعرض قاعدتها حوالي 275 مترا ويقارب عمقها 21 مترا.

وقد أشارت التقديرات التركية الحكومية إلى أن قناة اسطنبول المائية ستجذب السفن والناقلات العملاقة، بالتالي ستحول مضيق البوسفور إلى ممر ثانوي، وتوقعت تلك التقديرات أن عائدات القناة ستصل إلى نحو ٨ مليارات دولار سنويا، بالتالي ستعوض تركيا عن 10 مليارات دولار كانت قد حرمت منها بفعل تسعيرة المرور المنخفضة على السفن التي تمر عبر المضيق وفق اتفاقية مونتيرو.

موقف الداخل التركي المعارض للمشروع:

 هناك انقسام على مستوى الداخل التركي حول هذا المشروع ، فالمعارضة التركية تعتبره خرقا متعمداً بسوء نية لالتزامات تركيا الدولية، أو على أقل تقدير التفاف على معاهدة مونتيرو الدولية، كما تركز المعارضة على مسألة التكلفة الباهضة للمشروع ، ما سيؤدي إلي زيادة الديون على الدولة التركية. كما تنتقد أحزاب المعارضة تأثير المشروع على المنطقة الأثرية في اسطنبول ، ما يدحض تصريحات أردوغان بأن المشروع سيكون صديق للبيئة. حيث سيترتب على إنشاء القناة عزل المنطقة الأثرية وتحولها إلى جزيرة، لذلك  عارض رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو خطط حفر القناة ووصفها بأنها ” مشروع كارثي سيتسبب في مجزرة بيئية “، كما تخشي المعارضة أن تخِل عمليات الحفر بتماسك التربة على جانبي القناة، أو إلحاق الضرر بمخزون المياه الجوفية ، مما قد يؤدي إلى انهيارات أرضية وبالتالي يزيد من احتمالية حدوث زلازل، كما وجهت المعارضة بتوجيه الأموال المخصصة لحفر القناة لاستغلالها في تحريك الاقتصاد التركي وإقامة مشروعات تحد من البطالة، حيث تتحدث المعارضة عن التكلفة الحقيقية لهذا المشروع بأنها قد تصل إلى 65 مليار دولار، وليس 25 مليار دولار كما يدعي أردوغان.

 ترى أحزاب المعارضة أيضاً أن هذا المشروع تحوم حوله شبهات فساد مالي من الآن، مع تحول المشروع إلى مشروع ربحي، حتى قبل الإعلان عن المناقصة، حيث ارتفعت أسعار الأراضي المحيطة بالقناة. واستندت اعتراضات المعارضة إلى تقارير أكاديميين وخبراء مثل اتحاد غرف المهندسين المدنيين والمعماريين الأتراك (TMMOB) الذي كان قد رفع دعوي أمام القضاء التركي لإيقاف المشروع. وذكرت دراسة تركية تم إجراءها في جامعة ” حجي تبة ” أن قطع أشجار الغابات في الشمال عند ساحل البحر الأسود لحفر القناة سيحد من مستويات الأوكسجين في المياه ويزيد من نسبة الملوحة التي ستصب في النهاية في بحر مرمرة، مما سيؤثر بالطبع على توازن الحياة البحرية، وسيؤدي إلى انتشار رائحة الماء العفن بمدينة اسطنبول، ومن المتوقع أن تؤدي زيادة الاستثمارات حول القناة في زيادة التعداد السكاني لمدينة اسطنبول بحوالي 1.2 مليون نسمة وهو ما يتعارض مع الخطط التي أعلنتها الحكومة بالحفاظ على تعداد المدينة المكتظة بالسكان عند 16 مليون نسمة.

كما وقع ما يزيد عن 100 من الأميرالات البحرية المتقاعدين على وثيقة يعبرون فيها عن رفضهم للمشروع خشية ظهور ثغرة أمنية أو عسكرية تؤدي إلى خلل في حماية اسطنبول ومنطقة مرمرة عموما، واعتبروا المشروع يمثل خرقا لمعاهدة مونتيرو وهو ما سيحدث بدوره آثارا سلبية جمة، وفي المقابل اعتبرت الحكومة أن ذلك محاولة للعودة للوصاية العسكرية والضغط على القيادة السياسية، وعلى إثر ذلك تم اعتقال مجموعة من هؤلاء العسكريين باعتبار أن ما قاموا به ” انقلاب سياسي”.

المواقف الدولية من المشروع:

من المهم في هذا الإطار أن نتعرض لموقف القانون الدولي من المشروع ، كذلك موقف الأطراف المعنية به مثل روسيا ودول الاتحاد الأوربي ، حيث يمثل مضيق البوسفور تاريخياً أهمية جيواستراتيجية واقتصادية كبيرة للجانبين ، لذلك سنركز في هذا التحليل على مواقف هذه الأطراف بجانب الموقف الأمريكي:

 (*) موقف القانون الدولي: يطرح هذا المشروع جدلاً على مستوى القانون الدولي، حول أحقية تركيا في إنشاء هذا المشروع، ومدى تعارضه أو اتفاقه مع بعض الاتفاقيات التي وقعتها تركيا من قبل ، لتنظيم عملية المرور الدولي في مضيق البسفور، وأهمها معاهدة مونتيرو في 1936 ، التي وقعتها تركيا مع كلا من فرنسا وبريطانيا واستراليا وبلغاريا ورومانيا واليونان والاتحاد السوفييتي السابق حيث جاءت اتفاقية مونتيرو في صورة تعديل للمادة 23 من معاهدة لوزان، وتعتبر معاهدة مونتيرو “إحدى وثائق تأسيس الجمهورية التركية ” ، وقد أقرت الاتفاقية السيادة التركية على المضايق، كما أعطتها صلاحيات واسعة لغلق المضايق في أوقات الحروب، فضلا عن أنها حددت أعداد وأوزان السفن المارة عبر المضيق في وقت السلم والحرب، لكنها في المقابل حرمت تركيا من العائد المادي الضخم بسبب خفض التعريفة.

وبالتالي فقد أقر مجموعة من الخبراء عدم التعارض بين اتفاقية مونترو وإنشاء قناة اسطنبول، لأن اتفاقية مونتيرو تسري على المضايق الدولية فقط لتنظيم حركة الملاحة، لكن قناة اسطنبول تقع في مناطق السيادة الإقليمية لتركيا بالتالي فإنها لا تقع ضمن اختصاصات اتفاقية مونترو.

(*) الموقف الروسي: أعربت روسيا عن قلقها إزاء إمكانية أن يدفع مشروع قناة اسطنبول إلى الانسحاب من معاهدة مونتيرو، التي تنظم حركة الملاحة في مضيق البوسفور والدردنيل والبحر الأسود وفقا لمحللين روس، كما تخشي روسيا أن تعمل تركيا على تسهيل وصول سفن خصومها من حلف الناتو إلى البحر الأسود خاصة في ظل التوترات التي تجمعهما – تركيا وروسيا – في عدة ملفات، ويري مجموعة من الخبراء ضرورة التوصل إلى اتفاق بين روسيا وتركيا لتجنب حدوث صدام لأنه على الرغم من أن روسيا لا تملك الحق في إثناء تركيا عن قرارها ، فإن روسيا أيضا لن تسمح بأي حال من الأحوال بحبسها في البحر الأسود ومن المؤكد أنها تخطط لتدابير رادعة. فروسيا تعتبر أن المشروع موجه ضدها وذلك بناءا على تصريحات الرئيس التركي عن الخطورة التي يشكلها عبور السفن الكبيرة على مدينة اسطنبول مستدلا بالأزمة التي أثارتها السفينة الحربية الروسية التي تم جرها في منطقة قباطاش في الأشهر الأولى من العام الجاري.

(*) الموقف الأمريكي والأوروبي: لم تصدر أي تصريحات مناهضة لمشروع القناة من قبل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي وهو ما يمكن اعتباره تريث من جانب الولايات المتحدة وأوروبا حيال المشروع ، باعتبار أن هذا المشروع متعدد الأوجه حيث يمكن أن يخدم مصالح حلف الناتو في المستقبل خاصة في ظل وجود مؤشرات تحسن في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة من جهة وتركيا والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى وبالأخص مع ألمانيا وفرنسا، فالولايات المتحدة ترغب في أن تملك قاعدة عسكرية على البحر الأسود في مواجهة روسيا غير أن معاهدة مونتيرو لا تسمح بذلك، فهل تساعد قناة اسطنبول على تغيير هذا الواقع القانوني والجيواستراتيجي؟ هذا ما سيتضح مستقبلاً بطبيعة الحال.

مع ذلك لا يمكن إنكار وجود مخاوف تراود واشنطن وبروكسل من أن تقوم تركيا باستغلال المشروع لصالحها لتساوم عليه في أوقات الأزمات المحتملة مع أوروبا، خاصة مع السياسة التعاونية الأخيرة التي اتبعتها تركيا مع روسيا في سوريا والبلقان.

أخيرا يمكن القول؛ أن إصرار أردوغان على إتمام المشروع رغم تكاليفه الباهظة  والمعارضة الداخلية والخارجية له ما هو إلا جرس إنذار بأن تركيا مقبلة على مرحلة ساخنة من الحراك السياسي على خلفية إنشاء قناة اسطنبول المائية، ولكنها في نفس الوقت وسيلة تحاول تركيا من خلالها تثبيت أقدامها في المنطقة، حيث يحاول أردوغان أن يخلق لنفسه مزيدا من الأوراق التي سيناور بها في الأوقات المصيرية لترجح كفته في التفاوض مع مختلف القوى الدولية والإقليمية. ويبقى مستقبل هذا المشروع مرهوناً بنجاح التحالف الحاكم بقيادة أردوغان في الاستمرار في السلطة في الانتخابات الرئاسية القادمة في 2023.

 

 

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى