سياقات مُعرقلة: ما هي حدود التقارب السعودي الإيراني بعد فوز رئيسي؟
ترتهن معادلات التغيير في العلاقات الدولية بمتغيرات عديدة منها تولي قيادات جديدة لمواقع المسئولية، خاصة في الدوائر النافذة، مثل موقع الرئاسة في النظم الجمهورية، وموقع رئاسة الوزراء في النظم البرلمانية، والحال كذلك في النظم الملكية الدستورية، لذلك تحظى الانتخابات ( كآلية للتغيير) بأهمية كبيرة لدى المعنيين بقياس دلالات الثبات والتغير في السياسة الخارجية.
وفق هذا الإطار، ترقبت دوائر كثيرة دولية وإقليمية الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران، والتي أسفرت عن فوز المرشح المحافظ إبراهيم رئيسي، المعروف أنه من صقور المحافظين المتشددين في إيران، ما فتح مجالاً واسعاً للتكهنات بشأن حجم ومستوى التغيير المتوقع في سياسة إيران الداخلية والخارجية بشكل عام، وإزاء بعض الملفات المهمة على المستوى الإقليمي بشكل خاص، ومنها ملف العلاقات الخليجية الإيرانية .
غني عن الذكر أن دائرة الرئاسة في إيران، هي أداة تنفيذ للسياسة العامة التي يضعها المرشد الأعلى خامنئي، وهو ما يفرض على من يتولى هذا المنصب أن يتحلى بقدر من العقلانية والموضوعية في تعامله مع القوى الإقليمية والدولي، تحت سقف محدد، لا يمكن تخطيه، دون موافقة المرشد، ودعم أجهزة الدولة المنفذة وأهمها الحرس الثوري، وقادة المؤسسة العسكرية.
الملفات المتوقع أن تشهد تغيرات كثيرة، منها الملف النووي، الموقف من العراق، الموقف من اليمن، الدور الإيراني في سوريا……الخ، ونركز في هذا التحليل على مستقبل العلاقات الإيرانية مع السعودية، باعتبار السعودية هي أكبر دولة خليجية، وهي من يتزعم جبهة الرفض للسلوك الإيراني في الخليج، علاوة على تقاطع المصالح بين الطرفين في أكثر من ملف أهمها الملف اليمني و اللبناني وغيرها.
فرضيات التحليل:
شهدت الفترة الأخيرة قنوات اتصالات غير رسمية بين إيران والسعودية، سعت فيها دول مثل العراق وسلطنة عمان، ودخلت قطر على الخط مؤخراً بعد المصالحة الخليجية في يناير الماضي، وبالفعل صدرت تصريحات إيجابية من الجانبين الإيراني والسعودي، جعلت البعض يتوقع انفراجه قريبة في العلاقات بين البلدين. الآن وبعد فوز المحافظين في الانتخابات في إيران ما هو مستقبل العلاقات الإيرانية السعودية، وما هو مصير المحادثات غير الرسمية بين الجانبين، هل ستتوقف ؟ هل ستستمر بسقف توقعات منخفض؟ هل نشهد انفراجة في عهد رئيسي، الذي بدأ بتصريحات إيجابية حول رغبته في تحسين علاقة إيران مع دول الجوار؟ كل هذه التساؤلات ستكون محور هذا التحليل، الذي ينطلق من فرضيتن أساسيتين:
الفرضية الأولى: هي أن هامش التغيير في سياسة إيران الخارجية لا يرتبط ارتباط مباشر بوجود شخصيات محافظة أو إصلاحية في السلطة، بل مرتبط بشكل مباشر وأساسي بتوجهات الدولة الإيرانية التي يٌصيغ خطوطها العامة المرشد الأعلى على خامنئي.
الفرضية الثانية: أن السياقات الدولية والإقليمية في إيران قد تكون عامل مُرجح لكفة التقارب أو التباعد بين إيران ودول الخليج بشكل عام، وبين إيران والسعودية تحديداً، وذلك لدخول أطراف أخرى في معادلة الأمن في الخليج، سواء الولايات المتحدة، أو بعض الدول الأوروبية( بريطانيا/ فرنسا)، إلى جانب دخول حلف الناتو في المعادلة الأمنية فـ “الخليج”، وأخيراً إسرائيل التي انضمت بشكل رسمي للمعادلة، بعد اتفاقات السلام مع الإمارات والبحرين.
مؤشرات متضاربة:
من الواضح أن وصول إبراهيم رئيسي لرئاسة الجمهورية في إيران سيكون مرحلة صعبة ومعقدة في تاريخ إيران والمنطقة، ليس ارتباطاً مباشراً بشخصية رئيسي نفسه ولا توجهاته اليمينية المعروفة، لكن ارتباطاً بحالة عدم اليقين التي تمر بها المنطقة بشكل عام، فمستقبل الملف النووي لا يزل غير واضح حتى الآن، والصراع في اليمن لا يزال مفتوح بوتيرة تصعيد عالية، والتوتر في مياه الخليج لا يزال قائم، والوضع في سوريا والعراق متشابك ومفتوح على تصعيد بين الأطراف المعنية هناك، ولبنان مفتوح أمام سيناريوهات كثيرة والفوضى ليست بعيدة عنه، وأفغانستان المجاورة لإيران مُقبلة على تغير دراماتيكي مع خروج القوات الأمريكية في سبتمبر القادم. ولا شك أن كل هذه الملفات ستلقي بظلالها على مستقبل العلاقات الإيرانية السعودية، بسبب تقاطعات المصالح في كل هذه الملفات، والتي تقف فيها الرياض وطهران على طرفي النقيض تقريباً.
وإذا حاولنا قراءة المؤشرات حتى الآن سنجد أي تعارض وتناقض أحياناً، ففي الخطاب الانتخابي لإبراهيم رئيسي خلال حملتيه الانتخابيتين عامي 2017 و2021، فيما يتعلق تحديدً بالعلاقة مع السعودية، لم يخرج عن سياق واحد وهو الدعوة للحوار وللتقارب والحد من التوترات لصالح استقرار المنطقة، مع ذلك نجد تسريبات تقول عكس ذلك منها ما كشفه مصدر دبلوماسي في وزارة الخارجية الإيرانية لصحيفة “الجريدة” الكويتية، من أن الرئيس إبراهيم رئيسي أبلغ الرئيس الحالي حسن روحاني، خلال لقاءه معه عقب فوزه بالانتخابات، أنه يفضل أن تنجح حكومة روحاني في التوصل إلى اتفاق في فينا حول ملف إيران النووي، وكذلك إلى تفاهمات مع السعودية قبل تسلمه السلطة رسميا في أغسطس المقبل. ما يعني أنه لا يرغب فعلياً في أن ينسب لنفسه نجاحاً في المسارين، لأسباب داخلية بالأساس، تتمثل في تحميل روحاني المسئولية السياسية عن هذه الاتفاقات ( حال فشلت مستقبلا لأي سبب كما حدث في فترة ترامب)، في حين يتولى رئيسي الاستفادة من هذه الاتفاقات لصالح تحسين الوضع الداخلي المتدهور
كذلك شاهدنا تصريحات رئيسي في أول مؤتمر صحفي له، والتي تحدث فيها عن أن أولويات السياسة الخارجية لحكومته ستشمل تحسين العلاقات مع دول الخليج المجاورة، والسعي لإعادة فتح السفارات مع السعودية، وإن كان ربطها بشرط رئيسي وهو وقف الحرب في اليمن، بينما على الضفة الأخرى نرى استقبال سعودي فاتر لفوز رئيسي ، حيث لم ترسل المملكة تهنئة بروتوكولية كغيرها من دول الخليج ، واكتفت بالحديث عن انتظار رؤية تغيير في سياسة إيران على أرض الواقع. وهو استقبال يعتبر في العرف الدبلوماسي ” فاتر” ويكشف عن رؤية سعودية غير متفائلة بالقادم الجديد للرئاسة في إيران.
سيناريوهات محتملة:
(*) على المدى القريب ( تصعيد إيراني ضاغط)، أي خلال الأشهر الأولى ( أغسطس وحتى ديسمبر 2021 على أقل تقدير)، سيحرص رئيسي أن يبدو مختلفاً عن سابقه روحاني، الذي كان يتهمه أحياناً بالمهادنة والخضوع للضغوط الأمريكية والأوروبية، لذلك يتوقع أن يكون أكثر اندفاعًا وتشدداً في خطابه الخارجي تجاه السعودية، مستخدماً الحضور الإيراني في اليمن وورقة الحوثيين، وبالتالي نتوقع استمرار الهجمات الصاروخية وبالطائرات المسيرة على العمق السعودي، كما لا نستبعد تعرض السعودية لهجمات مجهولة على سفنها العابرة في الخليج أو بعض المواقع الخاصة بالبنية التحتية في المنطقة الشرقية تحديداً ( على غرار هجوم أرامكو) ، فإبراهيم رئيسي من المؤمنين نظرياً بأن القوة هو ما ستجبر القوى الإقليمية والدولية على التفاوض مع إيران .
(*) على المدى المتوسط. (الفرص المتساوية للتقارب والصدام) نتوقع فرصاً متساوية للتقارب، وكذلك لاستمرار التوتر بين إيران والسعودية، وذلك ارتباطاً بالسياق الإقليمي العام، ونشير تحديداً لما يلي:
(&) أن الانفتاح السعودي على الحوار مع إيران سيستمر، على الأقل على المستوى غير الرسمي، لكن مع ضبط البوصلة بمدى التقدم الحاصل في ملف إيران النووي، مع مراقبة السلوك الأمريكي فيما يتعلق بمدى جدية الانسحاب العسكري من الخليج، فتنفيذ هذا الأمر من جانب إدارة بايدن قد يكون عامل دافع لدول الخليج وللسعودية تحديداً لتبني نهجاً أكثر تعاوناً وواقعية مع الأطروحات الإيرانية بشان إنشاء منظمة تعاون إقليمي تجمع دول الخليج وإيران أو على الأقل القبول بتحسن العلاقات الدبلوماسية معها.
(&) نتوقع على المدى المتوسط أن يُعيد إبراهيم رئيسي طرح مبادرة ” هرمز للسلام” والتي سبق أن طرحها روحاني خلال عامي 2019 و2020 بشأن تأسيس منظمة إقليمية تجمع إيران ودول الخليج للتعاون الإقليمي في الملفات المشتركة، ونتوقع كذلك استمرار التردد الخليجي حيال مثل هذه المبادرات، بسبب فقدان الثقة المتبادلة بين الجانبين، علاوة على أن دولاً كالولايات المتحدة لن تشجع على ذلك ، طالما ظلت إيران في وضع التحدي للقوة الأمريكية وللمصالح الأمريكية في الخليج والعراق، وللمصالح الإسرائيلية في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها.
(&) لا نستبعد أن يكون هناك تشجيع أمريكي للسعودية على تخفيف توترها مع إيران، وفق صيغ معينة تحقق الاستقرار الإقليمي، وذلك في حالة تم التوصل فعلياً لاتفاق مع إيران، والذي سيكون مقدمة لانسحاب عسكري أمريكي من بعض تمركزاتها فى الشرق الأوسط والخليج.
(&) في حال نجحت الجهود الدولية في إيجاد حل سياسي في اليمن، فإن أي حلول تتعلق بالتعامل مع الوضع اليمني بعد خروج قوات التحالف لابد أن يمر عبر صيغ تعاون سواء مباشر أو غير مباشر بين إيران والسعودية، أما في حال تعثرت هذه الجهود واستمرت الأزمة اليمنية كما هي الآن، فلا مجال للحديث عن تقارب سعودي إيراني، بل أن الاحتمالات مفتوحة لمزيد من التصادم.
(*) على المدى البعيد. ( تغيرات تكتيكية محدودة مع بقاء الخط الاستراتيجي العام). من غير المتوقع أن تشهد السياسة الخارجية الإيرانية تجاه السعودية ودول الخليج تحولات أساسية في السنوات الأربع المقبلة، بل قد تكون امتدادا لسنوات روحاني الثمانية، التي ظلت فيها العلاقات بين الجانبين على قدر من التوتر المُسيطر عليه، مع حرص الجانبين على إدارة العلاقات من خلال قنوات اتصال غير رسمية لضمان عدم انهيار الموقف في بعض الأزمات الطارئة، فطموح إيران في فترة رئيسي لا يتجاوز رغبته في تحقيق خطوة دبلوماسية مع السعودية مثل عودة السفراء، دون أن تقدم مقابل ذلك تنازلاً جوهرياً عن القضايا التي تعتبرها السعودية مهدد لأمنها كاليمن وغيرها، وبالتالي فإن توقع تغيير كبير في السلوك الإيراني الإقليمي بشكل عام وتجاه الخليج بشكل خاص يظل مستبعداً على المدى البعيد، فالخلاف بين الجانبين أيدلوجي يمتد لملفات داخلية وإقليمية، تجعل التصادم بين المصالح هو الأرجح في كل الأحوال.
في النهاية، يمكن القول إن منطقة الخليج مُقبلة على فترة من التطورات المتسارعة والمتداخلة، على أكثر من مستوى وفي أكثر من ملف، وهو ما سيزيد من مستويات الغموض في البيئة الاستراتيجية الخليجية بشكل عام، ما سيصعب معه توقع المستقبل بشأن اتجاهات الاستقرار الإقليمي في هذه المنطقة الحيوية من العالم، الأمر الذي يتطلب من الباحثين والمعنيين بأمن الخليج استمرار متابعة كل التطورات وقياس مدى تأثيرها.
ونعتقد بهذا الخصوص أن ملف العلاقات السعودية الإيرانية سيظل محكوماً بصورة أساسية بمستقبل التطورات الإقليمية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وكذلك بالنسبة للملف النووي ومدى نجاح الولايات المتحدة في الوصول لإتفاق مغاير لإتفاق 2015، الذي لم يكن يُرضي دول الخليج بشكل عام والسعودية بشكل خاص، مع فرص محدودة لتغيرات جوهرية في السياسة الإيرانية تجاه السعودية ، يمكن أن يقف خلفها الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي، إلا في حال لاقت دعم مباشر من المرشد الأعلى ” خامنئي” .