استهداف ضحايا النزاعات.. ماذا يتضمن “جبر الضرر” كمحدد للعدالة الانتقالية؟
د. محمد بدرت بدير- خبير الشئون الأمنية.
تتضمن العدالة الانتقالية، مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات.
وعلى ما يتضمنه التعريف السابف، ووفقا لمتطلبات ضحايا النزاعات المسلحة، يتناول هذا التحليل الأهداف التي تسعى العدالة الانتقالية إلى تحقيقها، وإيضاح الوسائل والأساليب التي تنتهجها العدالة الانتقالية لتحقيق أهدافها، ونسلط الضوء على أبرز تلك الوسائل، ولعل من أهمهم جبر الضرر وتعويض ضحايا النزاعات المسلحة، وذلك على النحو التالي:
أهداف العدالة الانتقالية:
تهدف العدالة الانتقالية بشكل أساسي إلى تحقيق “المصالحة الوطنية”، وتعرف بأنها صيغة تفاهم بين أبناء الـوطن الـواحد للـوصول إلى برنامج متفق عليه لإنقاذ الـوطن من أزمته ووضعـه على الطـريق الصحيح، وتتطلب المصالحة أن نبدأ أولاً بالتوافق ثم المحاسبة ثم المصالحة، فبعد الإرث الكبير من انتهاكات حقوق الإنسان جراء الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، تنجو المجتمعات إلى فقدان الثقة بحكم القانون، وبآليات العدالة التقليدية، وهو ما يدخل المجتمع في دوامة لا نهائية من العنف والعنف المتبادل. ([i])
وتهدف العدالة الانتقالية إلى بلوغ ما يلي:
- الحفاظ على السلام الدائم.
- وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
- منع وقوع انتهاكات مستقبلية.
وسائل وأساليب تحقيق العدالة الانتقالية:
يجب إتباع عدة وسائل وأساليب بعضها ذي صبغة قضائية، وبعضها لا يحمل هذه الصبغة، من أجل تحقيق الأهداف –السالف ذكرها -وذلك كما يلي:
- الدعاوى الجنائية: وتشمل هذه تحقيقات قضائية مع المسئولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، ويمكن القول بأن أول تجربة لهذه الدعاوى، كانت مع محاكمات نورمبرج التي أجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تتم على المستوى الإقليمي، أو الدولي، أو من قبل بعض الأجهزة الخاصة مثل المحكمة الخاصة بسيراليون.
- الملاحقات القضائية: وغالباً ما تركز استراتيجيات الملاحقة القضائية الفاعلة -الخاصة بالجرائم الواسعة النطاق -على المخططين للجرائم ومنظميها، أكثر منها على ذوي المراكز الأقل شأناً أو مسؤولية.
3) جبر الضرر والتعويض: وهي مبادرات تدعمها الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، وتُسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي، وغالباً ما تتضمن هذه المبادرات عناصر مادية (كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الاجتماعية كالعناية الصحية أو التربية)، فضلاً عن نواح رمزية (كالاعتذار العلني أو إحياء يوم الذكرى).
4) الإصلاح المؤسسي: وتستهدف إصلاح المؤسسات الحكومية التي لعبت دوراً في انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك بإقصاء المسئولين غير الأكفاء والفاسدين، بالإضافة إلى إجراء بعض التعديلات التشريعية وأحيانا الدستورية.
5) لجان الحقيقة: وهي هيئات غير قضائية تُجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب، للوقوف على الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وإصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة. ([ii])
وهذه ليست بلائحة مغلقة، فقد أضافت دول مختلفة تدابير أخرى كالجهود العديدة للحفاظ على ذكرى الضحايا من خلال إنشاء متاحف، وإقامة نُصب تذكارية وغيرها من المبادرات الرمزية مثل: إعادة تسمية الأماكن العامة وغيرها، وقد باتت هذه الجهود جزءاً مهماً من العدالة الانتقالية في معظم أنحاء العالم.
وسنتنـاول بشيء من التفصيـل أحد أهم الـوسائل والأساليب الفـاعلة في هذا الشأن لتـحقيق العـدالة الانتقالية، وهي “جبر الضرر وتعويض ضحايا النزاعات المسلحة”، وذلك على النحو التالي:
جبر الضرر وتعويض ضحايا النزاعات المسلحة:
تنشأ المسؤولية الدولية عند الإخلال بأحد الالتزامات المتواجدة في اتفاقيات جنيف 1949م، أو في أحد بروتوكولاتها، وهو ما يرتب التزاما بـ (الرد، أو التعويض، أو الترضية)، وهذا ما أكدته محكمة العدل الدولية الدائمة في قضية Chorzow factory case سنة 1927م، وقد جاء حكمها كالآتي: “إنه من مبادئ القانون الدولي أن انتهاك الدولة لأحد تعهداتها يتضمن التزاما بإصلاح الضرر بطريقة كافية، وأن الالتزام بإصلاح الضرر هو المكمل الضروري للإخلال بتطبيق اتفاقية ما، وذلك دون حاجة للنص عليه في نفس الاتفاقية”.
وفي هذا الصدد نصت المادة الثالثة من مشروع المسؤولية الدولية الذي قدمته اللجنة الثالثة إلى مؤتمر لاهاي للتقنين سنة 1930م على ما يلي “المسؤولية الدولية لدولة ما تفرض عليها التزاما بإصلاح الضرر الناتج عن عدم وفائها بالتزامها الدولي”.
إلى جانب تلك النصوص والأحكام، فإن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في 17 جويلية 1998، حيث وضع هو الآخر مبادئ فيما يتعلق بجبر ضرر ضحايا انتهاكات القانون الدولي الإنساني، ففي هذا الصدد تنص المادة 75 من هذا النظام على الآتي: للمحكمة أن تصدر أمراً مباشراً ضد شخص مدان تحدد فيه أشكالاً ملائمة من أشكال جبر أضرار المجني عليهم، أو فيما يخصهم، بما في ذلك رد الحقوق والتعويض ورد الاعتبار.
ومن جميع النصوص والأحكام المشار إليها سالفاً يمكن القول بأن جبر الضرر الناتج عن انتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني هو واجب تلتزم به الدولة المنتهكة، وهو نفس الأمر بالنسبة للفرد الذي يأتي فعلاً يعد خرقاً لإحدى قواعد هذا القانون.
توضيحا لما سبق، يمكن التأكيد على أن هناك ثلاثة أشكال لجبر ضرر ضحايا النزاعات المسلحة وهي: الرد، أو التعويض، أو الترضية، وهم:
- الرد
يقصد بالرد: إزالة النتائج على الفعل غير المشروع بإعادة الحال إلى ما كانت عليه من قبل ارتكاب الفعل الضار، أي إصلاح الضرر برد الدولة المسئولة للحقوق، وذلك بموجب التزاماتها الدولية وفقا لقواعد القانون الدولي، بحيث يمحو بقدر الإمكان كافة الآثار المترتبة عن العمل غير المشروع كما لو لم يرتكب ([iii])
وإعادة الحال على ما كان عليه إما أن يكون (مادياً أو قانونياً)، حيث يقصد بـ “رد الحق المادي” التزام الدولة المخالفة برد شيء مادي ملموس له وجود حقيقي وكيان ظاهر، ومن صور هذا الرد (الإفراج عن أشخاص اعتقلوا بصورة غير قانونية، الانسحاب من أراضي احتلت بطريقة غير مشروعة، إعادة ممتلكات تم الاستيلاء عليها تعسفياً كالممتلكات الثقافية التي أعادتها العراق للكويت من محفوظات وممتلكات للمتحف الكويتي عام 2000).
أما “رد الحق القانوني“، فيكون عن طريق الآتي:
- إلغاء الدولة لجميع القرارات الإدارية والأحكام القضائية التي تشكل مخالفة لأحكام القانون الدولي.
- إلغاء أي نص في اتفاقية يتعارض تنفيذه مع أية معاهدة دولية أبرمتها الدولة.
وبذلك يمكن اعتبار أن الرد القانوني هو أقرب ما يكون إلى الترضية الأدبية والمعنوية منه إلى الرد العيني، وذلك لأن إلغاء القوانين والقرارات المخالفة لقواعد القانون الدولي لا ترتب أي أثر، وبالتالي فإن إلغاءها إنما هو ذو أثر أدبي ومعنوي أكثر منه أثر مادي ملموس.
وإذا كان الـرد العينـي هو الأصل، إلا أنه قد يتعـذر أحياناً تطبيـق هذه الصـورة لـوجود نـوع من الاستحالة، والتي قد تكون (مادية أو قانونية)، وذلك كالآتي:
الاستحالة المادية تنشأ من طبيعة الحدث أو محله، وتجعل من رد الحق مستحيلاً، وتتوافر هذه الحالة إما لكون الشيء المراد رده قد تلف، أو لكون الأمور ذات الصلة قد حدث فيها تغيير واقعي يجعل الرد المادي لها مستحيلاً، ومثال ذلك تدمير الطائرات المدنية، وكذا منازل السكان المدنيين التي هُدّمت وقتل السكان العزل. ([iv])
أما الاستحالة القانونية فتتحقق عندما يترتب على إعادة الحال إلى ما هو عليه صعوبات قانونية داخلية بالنسبة للدولة المسئولة.
وفي هذه الحالة يتم إصلاح الضرر بوسيلة أخرى من وسائل إصلاح الضرر، لكن لا يجوز للدولة أن تحتج بتشريعها الوطني لانتهاك أحكام القانون الدولي، فهذا لا يعتبر من قبيل الاستحالة القانونية. ([v])
- التعويض
يقصد بالتعويض: قيام الدولة المسئولة بدفع مبلغ من المال كتعويض عن الأضرار التي نجمت عن أفعالها غير المشروعة والتي ألحقت أضراراً بالغير، وإلى جانب هذه الصورة الشائعة والمتمثلة في تقديم التعويض نقداً مقابل الأضرار الحاصلة، توجد صورة أخرى تتمثل في التعويض غير النقدي، ومثالها تقديم بضائع أو خدمات. ([vi])
ويعد التعويض هو البديل الأمثل عند تعذر الرد، وهذا ما تضمنته المادة (36) من مشاريع المواد المتعلقة بمسئولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً، حيث نصت على ضرورة التزام الدول بالتعويض عن الضرر الناتج عن الأضرار المترتبة على المخالفات والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني في حالات عدم إصلاح هذا الضرر بالرد، وقد جاء في التعليق على النص السابق أن الرد بالرغم من أسبقيته كمبدأ قانوني في جبر الضرر إلا أنه كثيراً ما لا يكون متاحاً أو غير مناسب والتعويض هنا هو البديل الذي يغطي أية فوارق لضمان الجبر الكامل للضرر المتكبد.
ويجب أن يكون التعويض المالي كاملاً، بمعنى أن المبلغ الذي تدفعه الدولة المسؤولة يجب أن يكون مساوياً في القيمة للإعادة العينية، سواء كان التعويض المالي بديلاً عن الإعادة العينية أو مكملاً لها.
كما يجب أن يشمل التعويض المالي الفوائد والكسب الفائت عند الاقتضاء، ويراد بالكسب الفائت الربح الذي كان سيجنيه المضرور في المستقبل لولا وقوع الفعل الضار، وليس المقصود هنا الخسارة الفعلية التي حدثت بالفعل؛ ولكن الخسارة التي ستحدث مستقبلاً نتيجة العمل غير المشروع.
- الترضية
ويقصد بالترضية: قيام الدولة المسئولة بعدم إقرار التصرفات الصادرة من موظفيها وسلطاتها، فهي وسيلة لجبر الضرر في حالات الخسائر غير المادية التي تلحق بالدولة والتي لا يمكن تحديد مقابل مادي لها إلا بطريقة نظرية وتقريبية، أو جبر الضرر عن الخسائر غير القابلة للتقييم المادي والتي قد ترقي لدرجة الإهانة للدولة، ومن صورها: تقديم اعتذار رسمي أو مذكرة دبلوماسية تعترف فيها الدولة المرتكبة للفعل غير المشروع بخطئها أو فصل الموظف المسئول أو تقديمه للمحاكمة. ([vii])
والترضية لا تقل أهمية عن الصور الأخرى لجبر الضرر، إن لم يكن تفوقها في بعض الأحيان، فمعظم الدول المخالفة قد تتجنب وترفض تقديم الترضية المناسبة بحجة أن هذا قد يمس بهيبتها وكرامتها، وتعتبر أن الخضوع للجزاءات الدولية هو أهون من تقديم الترضية والمتمثلة في الاعتذار عما فعلت والإقرار بعدم مشروعيته وتقديم المتسببين به للمحاكمة والمسائلة القانونية.
وقد نص مشروع قانون مسؤولية الدول على الترضية في المادة (45) منه، وقد جاءت كالآتي:
أ) يحق للدولة المتضررة أن تحصل من الدولة التي أتت فعلاً غير مشروع دولياً على ترضية عن الضرر، لا سيما الضرر الناجم عن ذلك الفعل، إذا كان ذلك ضرورياً لتوفير الجبر الكامل، وبقدر هذه الضرورة.
ب) يجوز أن تتخذ الترضية واحدة أو أكثر من الصور التالية:
- الاعتذار.
- التعويض الرمزي.
- التعويض المعبر عن جسامة الانتهاك.
- مجازاة المسئولين عن الانحراف الخطير تأديبياً أو معاقبتهم.
ج) لا يبرر حق الدولة المضرورة في الحصول على ترضية التقدم بأي طلبات تنال من كرامة الدولة التي أتت الفعل غير المشروع دولياً.
وهنا يثور التساؤل هل يحق للأﻓﺭﺍﺩ المطالبة بشكل مباشر بحق جبر الأضرار الناتجة عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني؟ وهل يمكن إنفاذ هذه العملية أمام المحاكم الوطنية؟
ﻨﺸﺄﺕ ﻤﺸﻜﻼﺕ عديدة ﻋﻨﺩﻤﺎ ﺤﺎﻭل الأفراد ضحايا انتهاكات القانون الدولي الإنساني إنفاذ الحق في جبر الأضرار، ويرجع ذلك ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻭﻗﻑ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺩﻱ ﺒﻤﻭﺠﺏ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ الدولي ﻴﺘﻤﺜل ﻓﻲ ﺃﻥ ﺍﻟﺩﻭل ﻓﺤﺴﺏ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺸﻜل ﻤﻭﻀﻭﻋﺎﺕ للقانون الدولي، ﺒﻤﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻙ ﻤﻥ ﻜﺎﻤل ﺍﻟﺤﻘﻭﻕ والالتزامات، باعتبارها الشخص الأصيل للقانون الدولي، ﻭالأفراد ﻤﺠﺭﺩ ﻤﺴﺘﻔﻴﺩﻭﻥ ﻭﻋﻠﻴﻬﻡ ﺍﻟﻤﻁﺎﻟﺒﺔ ﺒﺤﻘﻭﻗﻬﻡ ﻤﻥ ﺨﻼل ﺩﻭﻟﻬﻡ، وبينما أصبحت حقوق ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ ﺒﻤﻭﺠﺏ القانون الدولي ﻤﻘﺒﻭﻟﺔ ﺍﻵﻥ، إلا أنه ﻻ ﺘﺯﺍل ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺭﺅﻴﺔ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺩﻴﺔ ﺘﺸﻜل ﺃﺴﺎﺱ ﻜﺜﻴﺭ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻘﺒﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻴﻭﺍﺠﻬﻬﺎ الأفراد ﻋﻨﺩﻤﺎ ﻴﺤﺎﻭﻟﻭﻥ ﻭﻀﻊ ﺤﻘﻭﻗﻬﻡ ﺒﻤﻭﺠﺏ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ الدولي موضع التنفيذ بشكل مباشر.
فصدرت العديد من الأحكام التي تمنع الضحايا من الأفراد من حق المطالبة بالتعويض مباشرة، وهذا ما نصت عليه أحكام المحاكم الاتحادية الألمانية العليا عام 2003، واستندت في حكمها بأن الحرب هي علاقة دولة بدولة والمسئولية لا تقع إلا على الدول قِبل بعضها البعض.
كما ﺭﻓﻀﺕ ﺩﻭل ﺒﻌﻴﻨﻬﺎ -ﻭﺃﺒﺭﺯﻫﺎ ﺍﻟﻴﺎﺒﺎﻥ ﻭﺍﻟﻭﻻﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺩﺓ -ﺍﻟﺩﻋﺎﻭﻯ ﺍﻟﻤﺭﻓﻭﻋﺔ ﻀﺩ ﺍﻟﺩﻭل، ﺇﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺃﺴﺎﺱ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺼﺎﻨﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺩﻴﺔ ﺘﺤﻤﻲ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﺩﻋﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻤﻥ ﻓﺤﺹ ﺍﻟﻤﺤﺎﻜﻡ ﺍﻟﻭﻁﻨﻴﺔ، ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﺃﺴﺎﺱ ﺃﻥ ﺍﻷﺤﻜﺎﻡ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺒﻤﻭﺍﺜﻴﻕ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲ ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻲ ﻻ ﺘﻤﻨﺢ ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ ﺍﻟﻤﻜﺎﻨﺔ ﺍﻟﻀﺭﻭﺭﻴﺔ ﻟﺘﻘﺩﻴﻡ ﺍﻟﺩﻋﺎﻭﻯ ﺃﻤﺎﻡ ﺍﻟﻤﺤﺎﻜﻡ ﺍﻟﻭﻁﻨﻴﺔ ﻤﺒﺎﺸﺭﺓ.
وعلى الجانب الآخر، فقد صدرت أحكاماً أخرى كثيرة لجبر ضرر الأشخاص الطبيعيين، ومن أمثلة ذلك: إجبار دولة ألمانيا – في أعقاب الحرب العالمية الثانية -على رد الممتلكات المسروقة كالمجوهرات والأدوات المنزلية الثمينة وممتلكات ثقافية إلى الضحايا.
وربما تكون “ﻟﺠﻨﺔ ﺍﻷﻤﻡ ﺍﻟﻤﺘﺤﺩﺓ ﻟﻠﺘﻌﻭﻴﻀﺎﺕ” سباقة في هذا الصدد – والتي أنشأت عام 1991 بوصفها جهازاً فرعياً لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة -ﻭﻫﻲ ﻫﻴﺌﺔ ﺸﺒﻪ ﻗﻀﺎﺌﻴﺔ ﻤﻜﻠﻔﺔ ﺒالنظر في طلبات التعويض عن الخسائر والأضرار المباشرة الناتجة عن الغزو العراقي غير المشروع للكويت، فقد منحت هذه اللجنة تعويضات لأسرى الحرب الذين كانوا في قبضة العراق والذين كانوا عرضه لسوء المعاملة التي تشكل انتهاكا لاتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بحماية المدنيين تحت الاحتلال. ([viii])
وكذلك “ﻟﺠﻨﺔ ﺇﺭﻴﺘﺭﻴﺎ -ﺇﺜﻴﻭﺒﻴﺎ للتظلمات”؛ والتي ﺘﺄﺴﺴﺕ ﺒﻤﻭﺠﺏ ﻤﻌﺎﻫﺩﺓ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺍﻟﺘﻲ أبرمت ﻓﻲ ﺩﻴﺴﻤﺒﺭ 2000، وﻜﺎﻨﺕ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ ﺫﺍﺕ اختصاص ﺒﻤﻨﺢ ﺘﻌﻭﻴﻀﺎﺕ ﻓﻴﻤﺎ ﻴﺘﻌﻠﻕ ﺒﺘﻅﻠﻤﺎﺕ ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ ﻭﺍﻟﻤﺅﺴﺴﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻜﻭﻤﺎﺕ ﻓﻲ ﻜل ﻤﻥ ﺇﺭﻴﺘﺭﻴﺎ ﻭﺇﺜﻴﻭﺒﻴﺎ ﻋﻥ ﺍﻟﺨﺴﺎﺭﺓ ﺃﻭ ﺍﻟﻀﺭﺭ ﺃﻭ ﺍﻹﺼﺎﺒﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﺤﻜﻭﻤﺘﻴﻥ؛ ﻭﺒﻴﻥ ﺍﻟﻜﻴﺎﻨﺎﺕ ﺍﻟﺨﺎﺼﺔ ﺍﻟﻤﺭﺘﺒﻁﺔ ﺒﺎﻟﻨﺯﺍﻉ.
والسبب وراء هذه الإشكالية أن المادة (3) من اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 المتعلقة بقوانين الحرب البرية وأعرافها، والمادة (91) من البروتوكول الإضافي الأول المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية؛ قد نصتا على التعويض دون الإشارة إلى من يتلقى التعويض أهي الدولة أم الأفراد ودون تحديد لآلية من ينظر في طلبات التعويض.
مما أدي إلى وضع العراقيل بالنسبة للأفراد أمام المحاكم الوطنية للحصول على تعويضات بناءاً على ما جاء بنص المعاهدة لاهاي 1907 وبروتوكولها الإضافي الأول.
خلاصة ما سبق، الغرض من جبر الضرر الكافي والفعال والفوري هو تعزيز العدالة من خلال معالجة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، وينبغي للجبر أن يكون متناسباً مع فداحة الانتهاكات والأضرار المترتبة عليه، وهذا ما يتطلب أن توفر الدول –وفقاً لقوانينها المحلية والتزاماتها الدولية –الجبر لضحايا ما تقوم به أو تمتنع عنه من أفعال تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني.
[i][i]) نيل هيكس – المنظور الدولي لحقوق الإنسان في النظرية والتطبيق – المعايير الدولية وضمانات حماية حقوق الإنسان في الدستور والتشريعات المصرية – تحرير: محسن عوض – الطبعة الخامسة -2005، 2006، ص66.
[ii]) د. عصام المليجي: ضمان حقوق المضرورين من الجريمـة – دراسـة في التطـور المعاصر للسياسة الجنائية، بحث منشـور في المجـلة الجنائيـة القومية، العدد 2، يوليو 1998، ص 54.
[iii]) د. نبيل محمود حسن، الحماية الجنائية لضحايا الجريمة في القانون الدولي الإنساني، مرجع سابق، 2009، ص 42.
[iv]) مفيد شهاب – دراسات في القانون الدولي الإنساني – مرجع سابق ، ص211.
[v]) وفي هذا الإطار نجد أن لجنة القانون الدولي قد تطرقت للرد العيني بموجب المادة (43)، ووضعت له شروطاً تتمثل فيما يلي:
- أن لا يكون مستحيلاً مادياً.
- أن لا ينطوي على إخلال بالتزام ناشئ عن قاعدة قطعية من قواعد القانون الدولي العام.
- أن لا يشكل عبئاً لا يتناسب البتة مع الفائدة التي ستعود على الدولة المضرورة من اقتضاء الرد عينا بدلاً من التعويض المالي.
- أن لا يهدد بشكل خطير الاستقرار السياسي أو الاستقرار الاقتصادي للدولة التي أتت الفعل غير المشروع دولياً، على أن لا تتعرض الدولة المضرورة لأخطار مماثلة إذا لم تستوف الرد عيناً.
[vi][vi]) وبذلك يختلف التعويض عن العقوبة التي تُعرف بأنها جزاء ينطوي على الإيلام أو الحرمان من حق الحياة أو الحرمان من الحرية أو الحرمان من مباشرة بعض الحقوق أو الحرمان من المال، ولهذه التفرقة أهميتها، حيث يترتب عنها أن التعويض يقدر بقدر الضرر، بينما العقوبة تقدر بخطأ الجاني ودرجة خطورته.
[vii]) د/ محمود شريف بسيوني: القانون الدولي الإنساني، مرجع سابق ، 2007 ، ص76.
[viii]) أنتونيو فيجيلانتي ، دور الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في دعم حقوق الإنسان ، مرجع سابق ، 2006 ، ص 89.
مقال ممتع و رائع