صراع داخلي محتدم: هل تدخل تركيا مئويتها الأولى بدستور جديد؟
لا يزال الموقف الداخلي في تركيا يتفاعل بوتيرة سريعة بين الرئيس رجب طيب أردوغان وأحزاب المعارضة، على خلفية الاقتراح الخاص بوضع دستور جديد للدولة التركية، وهو الاقتراح الذي تعتبره المعارضة محاولة أخرى من أردوغان وحزبه للتمسك بالسلطة وقطع الطريق على الأحزاب المنافسة له، بينما يدفع الرئيس أردوغان بأن تركيا في حاجة لدستور جديد، يتلائم مع وضع تركيا في القرن الحادي والعشرين، بالنظر إلى أن الدساتير السابقة وُضعت في وقت كانت فيه تركيا في وضع سياسي مختلف محلياً وإقليمياً ودولياً.
في هذا الإطار يقدم هذا التحليل قراءة لهذا التطور المهم في الحياة السياسية التركية، للوقوف على أبعاده ومآلاته، ومدى تأثيره على مستقبل النظام السياسي الراهن.
رؤية ملتبسة: تعديل أم دستور جديد:
أثارت التصريحات التي أعلن فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان” أن الوقت قد حان من أجل وضع دستور جديد للبلاد، ليكون أول دستور مدني جديد للجمهورية التركية بطريقة شفافة واضحة للشعب التركي وبمشاركة جميع ممثليه من الأحزاب المختلفة سواء المؤيدة أو المعارضة” واعتبر أردوغان أن المشكلات التي تعاني منها تركيا نابعة من الدساتير التي صيغت في فترة الانقلابات العسكرية، ومنها الدستور الحالي الساري منذ 1982 ، الذي خضع لتعديلات كثيرة ، كان آخرها التعديل الذي تم في 2017 للانتقال إلى النظام الرئاسي.
يرى فريق أردوغان أن الدستور الحالي لا يزال يتضمن بعض المواد التي تخل بالتوازن بين السلطات، وتمنح للمؤسسة العسكرية صلاحيات كثيرة، قد تهدد التجربة الديمقراطية التركية في أي وقت. ويرغب فريق أردوغان في أن تدخل تركيا عام 2023 بدستور جديد.
رغم ذلك لا تزال الرؤية غير واضحة، فهناك حديث عن أن الدستور الجديد سيتكون من 100 مادة، ما يعني دستور جديد للبلاد، بينما يتحدث آخرون عن تعديلات كبيرة على الدستور الحالي ، حيث وضح من تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه يحاول أن يزيل أو يعدل كافة النصوص التي توسع من صلاحيات المؤسسة العسكرية حتى لا تتمكن من إحداث انقلابات عسكرية في المستقبل، نظرا لما عانته تركيا من آثار الانقلابات العسكرية.كما يتوقع بصورة كبيرة قيام أردوغان بإجراء تعديلات على النظام الحزبي القائم، بحيث يعمل على تحجيم حزب الشعوب الديمقراطي الممثل للأكراد في البرلمان التركي، والنظام الانتخابي بحيث يسمح له للترشح لفترة رئاسية إضافية باعتبار أن الدستور الحالي يسمح بالترشح لولايتين رئاسيتين فقط.
فرص النجاح والفشل:
(*) صعوبة الحصول على تأييد داخل البرلمان. وفق للآلية الحالية للدستور – من الناحيتين الإجرائية والتصويتية هناك حظوظ لفريق أردوغان في تمرير مبدئي لأي مقترحات، سواء لتغيير الدستور أو تعديله، فلتغيير الدستور، يقدم طلب كتابي إلى البرلمان عن طريق ما لا يقل عن 200 نائب من البرلمان ( ثلث الأعضاء ) البالغ عددهم أصلا 600 نائب، ويعتبر هذا الإجراء بالنسبة لأردوغان وحزبه متوفراً حيث يملك حزب العدالة والتنمية والأحزاب المنضمة للتحالف الحاكم مثل حزب الحركة القومية 337 مقعدا،لكن مع ذلك هناك تحدي كبير أمام إتمام هذه العملية يتمثل في الحاجة للحصول على موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، لإقرار أي تعديلات دستورية ، وفي حالة عدم الحصول على أغلبية الثلثين وتوفرت أغلبية 60% أي 360 عضو يطرح الدستور للاستفتاء الشعبي.
(*) صعوبة تمرير الدستور من خلال الاستفتاء الشعبي. في حال أخفق حزب أردوغان في تمرير الدستور أو التعديلات الجديدة من خلال البرلمان، سيلجأ للشارع، وفق الاستفتاء الشعبي المنصوص عليه دستوريا، وحتى في هذه الحالة يواجه فريق أردوغان تراجعاً ملحوظاً في مستويات التأييد في الشارع التركي، الذي يعاني من أزمة اقتصادية متصاعدة، خاصة في ظل جائحة كورونا، علاوة على نشاط أحزاب المعارضة في الشارع التركي من أجل ضرب شرعية الرئيس من خلال تحميل حزب أردوغان والتحالف الحاكم مسئولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في تركيا، وكذلك مسئولية تدهور علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي، خاصة مع الدول العربية الكبرى كمصر والسعودية والإمارات وغيرها.
(*) توحد أحزاب المعارضة لإسقاط أردوغان. من الواضح أن أحزاب المعارضة التركية باتت مجتمعة على هدف واحد وهو إسقاط أردوغان وحزبه، باعتبار سيطرة هذا التيار على الحياة السياسية التركية لقرابة عقدين، دون إفساح المجال لمشاركة المعارضة او تداول السلطة وكذلك تدهور مستويات الحريات العامة في المجتمع التركي، وتبرر قوى المعارضة التركية موقفها هذا بأن الحكومة لا تحترم الدستور الحالي، بالتالي كيف لها أن تٌصيغ دستور أكثر ديمقراطية، وشبهت ذلك بمحاولة لإصلاح السيارة بمحرك معطل.
(*) جدلية النظام البرلماني والرئاسي. تدرك أحزاب المعارضة أن أردوغان يحاول إجراء تعديلات لا تسمح بالعودة للنظام البرلماني مرة أخرى، وذلك بعد مطالبات سابقة لقوى المعارضة بالعودة للنظام البرلماني وإلغاء النظام الرئاسي الذي وسع صلاحيات الرئيس إلى حد كبير. كما يرغب أردوغان في تغيير بعض المواد المرتبطة بدور المحكمة الدستورية العليا في نظر قضايا الأحزاب السياسية، وهو ما تفهمه أحزاب المعارضة على أنه إشارة بالمضي قدما في إلغاء حزب الشعوب الديمقراطي الممثل للأكراد الذين يبلغ عددهم حوالي 6 ملايين كردى، وغيرها من القضايا التي تنظر أمام المحكمة الدستورية العليا.
السيناريوهات المحتملة:
نخلص مما سبق، أن إشكالية تغيير الدستور التركي الحالي ووضع دستور آخر جديد سوف تنتهي بأحد السيناريوهين الآتيين:
(&) سيناريو تمرير الدستور الجديد: يستند هذا السيناريو على رهان من جانب أردوغان على شعبيته في الداخل التركي، خاصة قواعده التقليدية، التي اعتادت التصويت له خلال الاستحقاقات الانتخابية السابقة، كذلك محاولاته المستمرة لإحداث شرخ في موقف المعارضة، باستمالة بعض الأحزاب الصغيرة له، علاوة على محاولته تعزيز فرص الانقسامات داخل حزب الشعب الجمهوري الذي انشق عنه عدد من الأعضاء بسبب مشاكل تتعلق بالفساد داخل الحزب وقضايا الاغتصاب المتهم بها أعضاء منتمين للحزب وعلى رأس هؤلاء المنشقين محرم إنجه المرشح الرئاسي السابق، ومن هنا يحاول أردوغان كسبهم إلى صفه وتأييده في مشروع الدستور. ومن ناحية أخرى لأنه أراد سحب البساط من تحت قوى المعارضة بالتزامن مع ظهور تسريبات اعترفت بها هذه القوى بأنها كانت تجري مشاورات فيما بينها لوضع دستور جديد من شأنه إعادة النظام البرلماني في تركيا.
(&) سيناريو فشل محاولة التغيير الدستوري وانتصار المعارضة. يستند هذا السيناريو على احتمالية الفشل في المرور من خلال الطريق الدستوري في حالة عدم حصوله على الأغلبية المطلوبة في البرلمان؛ وتفضيل الرئيس عدم نقل المعركة للشارع المنقسم حالياً بشأن سياسات أردوغان، على نحو لم تشهده تركيا منذ 2002م. ونعتقد وفق هذا السيناريو أنه سيكون نهاية فعلية لأردوغان وحزبه، وبداية لتغيير المشهد السياسي في تركيا لصالح المعارضة بشكل أكبر.
(&) سيناريو تأجيل المقترح لما بعد الانتخابات الرئاسية. يستند هذا السيناريو على رغبة أردوغان في ترتيب أولوياته في الوقت الراهن، على اعتبار أنه في حاجة إلى التفاف الشعب حوله قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2023 وهي الخطوة الأهم مما قد يدفعه إلى تأجيل خطوة تغيير الدستور، علاوة على أن أردوغان في الفترة الأخيرة قد بدأ في تصويب مسار السياسة الخارجية التركية وتصحيح أخطاءها مع بعض القوى الدولية والإقليمية ، التي وضعت تركيا في ضغط استراتيجي مستمر (العلاقات التركية الأمريكية)، العلاقات التركية مع الاتحاد الأوربي خاصة اليونان وقبرص وفرنسا) لآن، كذلك (العلاقات التركية مع مصر ودول الخليج ).
محصلة التحليل، أن تركيا مُقبلة على فترة من الحراك السياسي الداخلي الساخن، سيدور حول مسألة تعديل الدستور الحالي أو وضع دستور جديد للبلاد، وهي بلا شك معركة سياسية مصيرية لكلا من المعارضة من جانب، وللتحالف الحاكم من جانب أخر، فمعركة الدستور ستحدد بصورة كبيرة من سيحكم في تركيا خلال السنوات القادمة، ونعتقد أنه خلال الفترة من الآن وحتى 2023 ستحدث تغيرات كبيرة في السياسة الداخلية والخارجية التركية، تستدعي استمرار المتابعة والبحث، فتركيا دولة إقليمية مهمة وما يحدث فيها يؤثر على محيطها الإقليمي، وخاصة في الملفات التي تدخلت فيها تركيا بصورة أو باخرى خلال السنوات الماضية مثل سوريا وليبيا والعراق وغيرها.