إلى أي مدي يمكن للدور العربي مساندة مصر والسودان في قضية سد النهضة؟
في الـ 15 من يونيو الجاري انطلقت أعمال اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوي وزراء الخارجية العرب في دورته غير العادية بالعاصمة القطرية “الدوحة” بناءً على طلب كل من مصر والسودان لبحث قضية سد النهضة الإثيوبي والمواقف المتشددة حيال تلك القضية من جانب أديس أبابا تجاه كل من القاهرة والخرطوم، خاصة بعد تعدد جولات المفاوضات دون تحقيق أي نتائج ملموسة، وعدم وجود أي أدلة تفيد بتراجع إثيوبيا عن موقفها هذا؛ بسبب إعلانها أكثر من مرة أن المليء الثاني سوف يتم في موعده دون الوصول لاتفاق نهائي.
بالإضافة إلى إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” في 31 مايو الماضي عن عزم بلاده لبناء أكثر من 100 سد صغير ومتوسط في مناطق مختلفة من إثيوبيا في عام 2022. في تحدي واضح لقواعد القانون الدولي، ولجهود الوساطة الدولية، الأمر الذي دفع كل من مصر والسودان للمطالبة بعقد اجتماع طارئ على مستوي وزراء خارجية جامعة الدول العربية لتبني موقف عربي واضح تجاه سياسات أديس أبابا، مع قرب بدء الملء الثاني في شهر يوليو.
فشل مفاوضات سد النهضة:
في إبريل الماضي أعلنت كل من مصر والسودان عن فشل جديد في المفاوضات مع إثيوبيا؛ والتي عقدت في كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية التي ترأس الاتحاد الإفريقي، بشأن تحقيق أي تقدم نحو حل أزمة سد النهضة، حيث يدور الخلاف بين مصر والسودان من جانب وإثيوبيا من جانب أخر حول فترة ملء وكيفية تشغيل سد النهضة.
وصرح السفير أحمد حافظ المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، أن المفاوضات لم تحقق أي تقدم ولم تفض إلى اتفاق حول إعادة إطلاق المفاوضات. إذ رفضت إثيوبيا المقترح الذي قدمه السودان وأيدته مصر بتشكيل رباعية دولية تضم كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، إلى جانب الاتحاد الإفريقي، بهدف تذليل العقبات. واعتبرت أديس أباب أن الاتحاد الإفريقي كاف لرعاية المفاوضات، كما أعلنت إصرارها على الملء الثاني لخزان السد في موسم الفيضان المقبل، الذي يبدأ في يوليو المقبل.
وتعليقا على فشل المفاوضات؛ اعتبر وزير الخارجية المصري سامح شكري، أن رفض إثيوبيا لاستئناف المفاوضات “أمر مؤسف ويعكس تعنتها”. كما أكد على أن الرفض الإثيوبي لكل هذه الطروحات جعل الأمر واضحا بعدم وجود إرادة، وأن “كل الأقاويل التي يدعيها الجانب الإثيوبي، لا دليل عليها في إطار المواقف التي يتخذها”. من جانبها، اتهمت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، إثيوبيا بالتعنت، وطالبت الكونغو الديمقراطية باعتبارها الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، بالتحرك لتقريب وجهات النظر في مفاوضات سد النهضة.
وعلى النقيض من ذلك، أكدت وزارة الخارجية الإثيوبية إنه لا يمكن لأديس أبابا “الموافقة على أي اتفاق بشأن سد النهضة يحرم إثيوبيا من حقوقها المشروعة في استغلال مياه نهر النيل”.كما أعلنت عن عزمها المضي في الملء الثاني لسد النهضة في يوليو المقبل، متهمة مصر والسودان بتقويض المفاوضات. كما اتخذت أديس أبابا خطوات فعلية للوصول إلى المليء الثاني؛ تمثلت في تجفيف الممر الأوسط للسد بالكامل، واستكمال الأعمال الإنشائية تمهيدا لتعليته، وصب الخرسانة المسلحة، ما يعني أن الموعد المرتقب لبدء الملء الثاني سيكون 2 يوليو المقبل تزامنا مع بدء موسم الفيضان.
مخرجات الاجتماع:
سعت كل من مصر والسودان من خلال الدعوة إلى هذا الاجتماع إلى خلق موقف عربي قوي يتجاوز ما تم في اجتماعات الجامعة العربية السابقة من الإعراب عن التأييد لمصر والسودان وشجب التعنت الإثيوبي. فضلًا عن الاستفادة من العلاقات التي تجمع بين بعض دول الخليج وبين مصر والسودان وإثيوبيا في دفع المفاوضات إلى الأمام، وكذلك أيضًا الاستفادة من التواجد العربي في مجلس الأمن، من أجل حث المجلس على الاضطلاع بدوره للتوصل إلى اتفاق ملزم لإثيوبيا يضمن حقوق كل من القاهرة والخرطوم، خاصة بعد وصول المفاوضات إلى طريق مسدود وما سوف يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على الأمن الإقليمي. وأنتهي الاجتماع إلى عدد من القرارات، هي كالأتي:
(*) التأكيد على أن الأمن المائي لكل من جمهورية السودان وجمهورية مصر العربية هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، ورفض أي عمل أو إجراء يمس بحقوقهما في مياه النيل.
(*) الإعراب عن التقدير للجهد الذي بذلته جمهورية جنوب إفريقيا خلال رئاستها للاتحاد الإفريقي في تسيير مسار مفاوضات سد النهضة، والإعراب كذلك عن التقدير للدور الذي يضطلع بفخامة الرئيس فيليكس تشيسيكيدي رئيس جمهورية الكونجو الديمقراطية، الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، من أجل التوصل إلى تسوية عادلة لقضية سد النهضة.
(*) التأكيد على أهمية التفاوض بحسن نية من أجل التوصل بشكل عاجل لاتفاق عادل ومتوازن وملزم قانوناً حول سد النهضة يحقق المصالح المشتركة للدول الثالث ويحفظ الحقوق المائية لمصر والسودان
(*) الإعراب عن القلق إزاء تعثر المفاوضات التي تمت برعاية الاتحاد الأفريقي بسبب المواقف التي تبنتها إثيوبيا، وخاصة خلال الاجتماع الوزاري الذي عقد في كينشاسا بجمهورية الكونجو الديمقراطية يومي 4 و5 إبريل 2021.
(*) الإعراب عن القلق الشديد إزاء ما أعلنته إثيوبيا عن نيتها الاستمرار في ملء خزان سد النهضة خلال موسم الفيضان المقبل في صيف عام 2021 الجاري، وهو الإجراء الأحادي الذي يخالف قواعد القانون الدولي واجبة التطبيق، وخاصة اتفاق إعلان المبادئ المبرم بين الدول الثالث في الخرطوم بتاريخ 23 مارس 2015، والذي يتسبب في إلحاق الضرر بالمصالح المائية لمصر والسودان، وخاصة المنشآت المائية في السودان وأهمه”سد الروصيرص”.
(*) مطالبة إثيوبيا بالامتناع عن اتخاذ أية إجراءات أحادية توقع الضرر بالمصالح المائية لمصر والسودان، بما في ذلك الامتناع عن ملء خزان سد النهضة دون التوصل إلى اتفاق حول قواعد ملء وتشغيل السد.
(*) دعوة مجلس الأمن لتحمل مسؤولياته في هذا الصدد من خلال عقد جلسة عاجلة للتشاور حول هذا الموضوع واتخاذ الإجراءات اللازمة لإطلاق عملية تفاوضية فعالة تضمن التوصل، في إطار زمني محدد، لاتفاق عادل ومتوازن وملزم قانوناً حول سد النهضة يراعي مصالح الدول الثالثة.
(*) دعوة العضو العربي في مجلس الأمن (الجمهورية التونسية حالياً)، وكذلك اللجنة المشكلة بموجب القرار الصادر عن الدورة غير العادية لمجلس جامعة الدول العربية التي عقدت بتاريخ 23 يونيو 2020 والمكلفة بمتابعة تطورات الملف والتنسيق مع مجلس الأمن في هذا الشأن، والتي تضم الأردن – السعودية – المغرب – العراق والأمانة العامة، إلى تكثيف جهودها والاستمرار في التنسيق الوثيق مع جمهورية السودان وجمهورية مصر العربية حول الخطوات المستقبلية في هذا الملف.
والجدير بالذكر أن مخرجات اجتماع هذا العام تختلف عن مخرجات اجتماع وزراء الخارجية العرب العام الماضي في يونيو 2020؛ فبينما تحفظت كل من جيبوتي والصومال على القرار السابق في 2020، لم تتحفظ أي دولة علي القرارات الصادرة تلك المرة، وربما يرجع ذلك إلى التعنت الإثيوبي في العملية التفاوضية، والذي بدى جليًا، فضلًا عن الخطورة الذي يشكلها موضوع سد النهضة على استقرار الأمن الإقليمي العربي بشكل عام وأمن القرن الإفريقي بشكل خاص مع عدم وجود اتفاق نهائي ملزم للأطراف الثلاثة، واحتمالات اللجوء للخيار العسكري.
كما أن الدعوة إلى اللجوء لمجلس الأمن في القرار الأخير صادرة عن كل من مصر والسودان، خلافا لموقف السودان في العام الماضي والتي كانت تلعب دور الوسيط في المفاوضات، والتي كانت تعول على هذا الدور من أجل الوصول لاتفاق ملزم لإثيوبيا.
موقف إثيوبي من القرار:
في أول رد فعل لها على القرارات الصادرة عن الاجتماع أصدرت وزارة الخارجية الإثيوبية بيانا أعلنت فيه عن رفضها لقرارات جامعة الدول العربية حول سد النهضة الإثيوبي، معتبرة أن قضية السد “شأن إفريقي”. وقال المتحدث باسم الشؤون الخارجية دينا مفتي، إن إثيوبيا ترفض قرار الدول العربية برمته، حيث لن تؤدي المحاولات غير المجدية لتدويل وتسييس سد النهضة إلى تعاون إقليمي مستدام في استخدام وإدارة نهر النيل. كما أشار مفتي إلي أن جامعة الدول العربية تبدو غافلة عن حقيقة أن المفاوضات الثلاثية بين إثيوبيا ومصر والسودان تسترشد بإعلان المبادئ (DoP)، الذي وقع عليه قادة الدول الثلاث في عام 2015، وسيتم ملء سد النهضة وفقًا للخطة وفقًا لإعلان المبادئ وتوصية المجموعة البحثية المكونة من خبراء من الدول الثلاث. وأكد على أن إثيوبيا ترفض رفضا قاطعا المحاولة من قبل جامعة الدول العربية لإملاء شروط تتعلق بملء سد النهضة، الأمر الأكثر إحباطا هو محاولة مصر والسودان تسييس مفاوضات سد النهضة بلا داع ومحاولة جعلها قضية عربية. وهذا يدل بوضوح على افتقارهم إلى الإخلاص للعملية الثلاثية التي يقودها الاتحاد الأفريقي.
تراجع الخيار العسكري:
تكشف التحركات الأخيرة لكل من مصر والسودان عن تراجع خيار الحل العسكري لقضية سد النهضة، واستمرار الجهود الدبلوماسية من خلال تشكيل جبهة عربية داعمة ومساندة لكل من مصر والسودان في مواجهة إثيوبيا، فضلًا عن تدويل القضية من خلال مطالبة مجلس الأمن الدولي بممارسة دوره في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، خاصة بعد فشل الاتحاد الإفريقي في مساعيه بين الدول الثلاثة، على الرغم من تأكيد كل من القاهرة والخرطوم بأن “كل السيناريوهات مطروحة على الطاولة”. وتشير عدد من الأدلة إلى تراجع هذا الخيار أهمها:
(&) الرفض الأمريكي والأوربي للحل العسكري: أعلنت واشنطن عن رفضها للحل العسكري في تلك الأزمة، لما سوف يترتب عليه من تداعيات كارثية على المنطقة، وفقًا لما ذكره القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية “روبرت غوديك”. وهي رسالة لا تحمل تهديدا لمصر بقدر ما تحمل رسالة تهدئة وتطمين، مع سعي واشنطن للشروع في عملية سياسية بدأت من خلال تعيين “جيفري فيلتمان” مبعوثا خاصا للقرن الأفريقي. كذلك أيضا الموقف الأوربي الذي يتفق مع الموقف الأمريكي في رفض الحل العسكري؛ حيث أوضحت المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي “نبيلة مصرالي” من أنه “لا حل عسكريا” للأزمة ذاتها، وهي المرة الأولى التي يأتي الكلام مباشرا في هذه المضمار، واعتبره مراقبون بمثابة إنذار شديد اللهجة ومحاولة لقطع الطريق على التفكير في التعامل مع الأزمة عبر الحل العسكري.
(&) انتهاء مناورات “حماة النيل 1” دون حدوث أي شيء: أعلن الجيشان المصري والسوداني عن القيام بمناورات مشتركة تحت اسم “حماة النيل 1” في الفترة من 26 حتى 31 مايو الماضي، وشهدت تلك المناورات مشاركة القوات البرية والجوية والدفاع الجوي من الجانبين، في مناطق أم سيالة (شمال) والأبيض (جنوب) ومروي (شمال) وهو امتداد لتمارين سابقة. وكان البعض يعول على تلك المناورات بأنها سوف تكون بداية لعمل عسكري ضد إثيوبيا في ظل تعنتها الشديد، وانتهاكها لقواعد القانون الدولي، والمبادئ الحاكمة لإنشاء السدود على الأنهار الدولية.
(&) عدم اكتمال الجزء الخاص بتعلية السد: تشير المعلومات الفنية المتوفرة في هذا الصدد عن عدم اكتمال الممر الأوسط للسد، الأمر الذي يمنع إثيوبيا من تخزين كمية المياه المطلوبة للملء الثاني والمقدرة بـ 13.5 مليار متر مكعب، ويسمح لها بتخزين كمية أقل من ذلك تصل إلى مستوى الملء الأول، أي نحو خمسة مليارات متر مكعب، ومن ثم فإن مستوي الضرر على مصر لن يكون بالدرجة التي تستدعي عمل عسكري. وهو ما أعلن عنه وزير الخارجية المصري سامح شكري “بأن عملية الملء الثاني لخزان سد النهضة الإثيوبي المقررة في يوليو المقبل “لن تؤثر على المصالح المائية”.
(&) الحفاظ على استقرار الأمن الإقليمي: تعاني إثيوبيا من خلافات عرقية شديدة ومتنوعة مع تزايد التوترات والصراعات بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم، وتدرك القاهرة جيدًا إن في حالة توجيه أي عمل عسكري من شأن ذلك أن يؤدي إلى تداعيات خطيرة علي الدولة ذاتها، الأمر الذي قد يدفع كل إقليم للاستقلال بذاته، وتداعيات ذلك على استقرار الأوضاع في منطقة القرن الإفريقي التي تعاني بالأساس من عدم استقرار أمني وسياسي.
وفي النهاية؛ وعلى الرغم من ذلك، فإن القاهرة والخرطوم لن يستسلما لخيارات إثيوبيا في تلك القضية المصيرية، وأن تراجع الخيار العسكري لا يعني أنه مستبعد تماما، فمع تغير الظروف الإقليمية والدولية، واستمرار تعنت إثيوبيا فقد يبقي الخيار العسكري هو الخيار الأوحد لحل تلك القضية، فضلًا عن تعويل الدولتان على مجلس الأمن في حل تلك القضية والاستفادة من الزخم العربي في هذا الشأن، واستنفاذ كل الطرق والوسائل الدبلوماسية.