بعد تصريحات “بيكيلي”.. هل فعلاً لم تتمكن إثيوبيا من الوصول لـ “تعلية” الملء الثاني؟
لا تزال التطورات والمتغيرات المرتبطة بملف سد النهضة تلق بالجديد كل يوم، خاصةً مع اقتراب موعد الملء الثاني الذي تصر عليه إثيوبيا مع بدء موسم الفيضان خلال العام الجاري، والتحركات المصرية المكثفة لحماية حقوقها المائية، والتي تمخض عنها انخراطا إقليمياً ودولياً واسعاً للتوصل إلى اتفاق شامل يحول دون اندلاع صراع إقليمي حاد، وفي هذا الإطار يأتي إعلان وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي أن بلاده لن تتمكن من الوصول للتعلية المطلوبة لتخزين كمية المياه المخطط لها في عملية الملء الثاني للسد، وهو ما يعكس مؤشرات ودلالات هامة بشأن حلحلة هذا الملف وذلك في ضوء السياق الإقليمي والدولي الراهن.
حقيقة فشل تعلية الملء الثاني:
أعلن وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي “سيلشي بيكيلي” – خلال مؤتمر بحثي بجامعة “أربا منش” بمشاركة مجموعة من الخبراء- أن أديس أبابا تسعى لتعلية الممر الأوسط لخزان سد النهضة عند 572 متراً قبل عملية الملء الثاني للسد، وهو ما يعكس فشلاً إثيوبيا في الوصول إلى التعلية المستهدفة عند 595 متراً فوق مستوى سطح البحر، والتي كانت ستكفي لتخزين حوالي 13.5 مليار متر مكعب من المياه تضاف للخمسة مليارات متر مكعب المخزنة من عملية الملء الأول في العام الماضي.
وتجدر الإشارة إلى أن التعلية الحالية للسد تبلغ حوالي 565.4 متراً فوق سطح البحر، مما يعني أن أديس أبابا تمكنت خلال الفترة الأخيرة من تعلية الممر الأوسط للسد بنحو 5.4 متراً، وتحتاج إثيوبيا لتعلية هذا الممر بحوالي 35 متراً فوق مستوى الملء الأول (الذي بلغ 560 متراً) كي تتمكن من إتمام عملية الملء الثاني بالكمية المعلنة البالغة 13.5 مليار متر مكعب، وبالتالي فتحتاج أديس أبابا إلى بناء حوالي 29.6 خلال الفترة القليلة المتبقية قبل موعد الملء الثاني في يوليو المقبل لإنجاح عملية الملء الثاني بالكمية المخطط لها، وهو ما يبدو أشبه بالمستحيل في ضوء الوقت المتبقي، وفي ظل التقارير التي تشير إلى وجود أزمة داخلية في إثيوبيا بشأن عملية التمويل، ويضاف لذلك بعداً هاماً يتمثل في المؤشرات التي ترجح فيضان هذا العام سوف يبدأ في وقت مبكر، بل أن هناك بعض التقارير أكدت أن بوادر الفيضان قد بدأت بالفعل نهاية مايو الماضي، مما يعني صعوبة نجاح أديس أبابا حتى في الوصول إلى التعلية الجديدة التي أعلن عنها وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي مؤخراً والبالغة والي 572 متراً، والتي تكفي لتخزين كمية جديدة من المياه لا تتجاوز 4-5 مليار متر مكعب، ولعل هذا ما كشفت عنه الصور الأخيرة التي التقطتها الأقمار الصناعية في 29 مايو الماضي، حيث رصدت بطئ شديد في عملية التعلية – كما أشارت بذلك قناة العربية- وعدم ارتفاع السد متراً واحدة منذ فترة طويلة.
هل تتراجع أديس أبابا؟:
تعكس التصريحات الأخيرة الصادرة عن وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي “سيلشي بيكيلي” الكثير من الدلالات الهامة بشأن مستقبل سد النهضة والتوجهات الإثيوبية في هذا الشأن، فمن ناحية يمكن فهم هذا الموقف الإثيوبي في ضوء التحركات المصرية (والسودانية) المكثفة خلال الفترة الأخيرة، والتي حملت رسائل مباشرة لكافة الأطراف أن الدولة المصرية جادة في حماية أمنها وحقوقها المائية، وأنها قد تلجأ إلى أي خيار حال استمرت إثيوبيا في تعنتها. وقد أفرزت هذه التحركات المصرية زخماً دولياً خلال الفترة الأخيرة، حيث شهدت الفترة الأخيرة اتصالات مكثفة بين القوى الأوروبية (والولايات المتحدة) والدولة المصرية لمحاولة حلحلة هذه الأزمة بالآليات السلمية وتجنب دخول المنطقة في صراعات تؤثر على مصالح الجميع.
لكن، على الرغم من تدخل القوى الأوروبية منذ فترة طويلة في ملف سد النهضة ومحاولة التوصل إلى تسوية تضمن مصالح كافة الأطراف، بيد أن الانخراط الأمريكي المكثف خلال الفترة الأخيرة مثل المحدد الرئيس في أي بوادر انفراجة في هذه الأزمة، فواشنطن تبقى الفاعل الرئيسي في المنطقة، وتمتلك الكثير من الأوراق التي بإمكانها حلحلة الملف والضغط على أديس أبابا، وهو ما برز بوضوح خلال الأسابيع الأخير بعدما فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على الحكومة الإثيوبية بسبب انتهاكاتها في إقليم التيجراي، في رسالة مباشرة للنخبة الحاكمة في أديس أبابا، ومن ثم لا يمكن استبعاد أن يمثل إعلان “سيلشي بيكيلي” جزءً من اتفاق بين واشنطن وأديس أبابا يستهدف تسوية الأزمة مع مصر والسودان.
هناك محدداً رئيسياً آخر يجب الإشارة إليه لفهم التطور الأخير في ملف سد النهضة، يتمثل هذا المحدد في التصدعات الداخلية الهائلة التي تواجه أديس أبابا والتي باتت تمثل تحدياً قوياً أمام وحدة وتماسك الدولة الإثيوبية، وتهدد حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي”آبي أحمد” واستمرار الأخير في الحكم قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة في 21 يونيو الجاري، حيث يواجه “آبي” معارضة قوية في الداخل، ويستخدم تصعيد الخطاب بشأن ملف سد النهضة لمحاولة حشد دعم داخلي لحزبه الحاكم وتعزيز فرص نجاحه في الانتخابات المقبلة، وبالتالي فأي تراجع من قبل الحكومة الإثيوبية عن موقفها المتعنت تجاه السد يمكن أن يقلص بقوة حظوظ انتصار “آبي أحمد”، ومن ثم يمكن أن يمثل إعلان وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي عن فشل أديس أبابا في انجاز التعلية المطلوبة لتخزين الكمية المخطط لها في عملية الملء الثاني نوعاً من الالتفاف وحفظ ماء الوجه أمام الداخل الإثيوبي، حتى لا تظهر الحكومة الإثيوبية في ثوب المتراجع.
تسريب آبي أحمد:
من ناحية أخرى، لا يمكن الفصل بين تصريحان “بيكيلي” والتسريبات الصوتية الأخيرة المنسوبة إلى رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” والذي أعلن فيه أنه يفضل الموت عن تسليمه للسلطة وأنه لن يتنازل عن الحكم قبل 10 سنوات على الأقل، وعلى الرغم من تكذيب وكالة الأنباء الإثيوبية لهذه التسريبات، بيد أنه في الواقع لا يمكن استبعاد صحتها، خاصةً في ظل الاستعدادات التي يقوم بها “آبي” خلال الأشهر الماضية للتحضير للانتخابات المقبلة، عمد من خلالها للتخلص من كافة خصومه والقوى المناوئة لحكمه، بداية من جبهة تحرير تيجراي وصولاً إلى بقية الشخصيات التي تصاعدت وتيرة تأيدها الشعبي (لعل أبرزها “جوهر محمد”)، ويضاف لذلك إعلان الاتحاد الأوروبي عن تراجعه عن المشاركة في مراقبة الانتخابات الإثيوبية المقبلة، وذلك لوجود معلومات لديه بشأن نزاهة وشفافية الانتخابات.
بالتالي، فآبي أحمد الذي يسعى لضمان استمراره في الحكم لأطول فترة ممكنة يدرك جيداً أن استمراره في السلطة لابد أن يكون بمباركة واشنطن، ومن ثم ففي ضوء الموقف الأمريكي الجديد الراغب في تسوية الأزمة وتجنب إثارة صراعات إقليمية واسعة، والذي دفعها للضغط على الحكومة الإثيوبية عبر مجموعة من العقوبات التي أشارت وكالة بلومبيرج الأمريكية أنها ستؤثر بقوة على الاقتصاد الإثيوبي، ومن ثم يبدو أن “آبي” أختار الرضوخ للضغط الأمريكي مقابل استمراره في الحكم.
هل ثمة مناورة؟:
لكن، على الرغم من الطرح السابق، ثمة رأي آخر لا يستبعد فكرة المناورة الإثيوبية المعتادة، فلطالما انتهجت أديس أبابا أسلوب المراوغة لكسب الوقت وفرض سياسة الأمر الواقع، ويدعم أصحاب هذا الرأي طرحهم من خلال إعلان الحكومة الإثيوبية من خلال متحدثها الرسمي “دينا المفتي” أن بلاده عازمة على إنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر للسيطرة على المنطقة، فضلاً عن إعلان وكالة شبكة أمن المعلومات التابع لحكومة أديس أبابا التعرض لهجوم سيبراني استهدف 37 ألف جهاز كمبيوتر، ما يعكس استمرار سياساتها الترويجية لفكرة المظلومية الإثيوبية.
وعلى الرغم من إمكانية الرد على أصحاب هذا الرأي بأن حكومة “آبي أحمد” كان يمكنها الاستمرار في سياسات التصعيد وعدم الإعلان عن فشل التوصل للتعلية المطلوب لحين الانتهاء من الانتخابات المقبلة لتجنب إثارة الغضب الداخلي، بيد أن مؤيدي هذا الرأي فندوا هذا الرد من خلال الإشارة إلى أن توقيت إعلان وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي قبيل الانتخابات المقبلة ربما جاء ليمثل رسالة إلى واشنطن بحسن نية “آبي أحمد” للتوصل إلى تسوية للأزمة مقابل الحصول على دعم واشنطن له في الانتخابات المقبلة لضمان إعادة انتخابه دون أي إدانات أمريكية بشأن نزاهة العملية الانتخابية.
وفي النهاية، تباين الآراء المفسرة للإعلان الإثيوبي الأخير، بين من يشير إلى أنها تمثل تراجعاً “اضطراريا” من قبل حكومة أديس أبابا، وبين رأي آخر يرى أنها تمثل مناورة إثيوبية معتادة، مقابل رأي ثالث يشير إلى وجود مشكلات فنية وأخرى تتعلق بالتمويل تمثل العامل الرئيسي في تباطئ عملية التعلية، بيد أن الأهم هو المؤشرات والدلالات التي يعكسها هذا الإعلان، والتي توحي في مجملها إلى تصاعد احتمالات التوصل إلى اتفاق شامل بشأن السد، وتجنب الخيار العسكري الذي باتت الدولة المصرية على أتم الاستعداد له حال تطلب الأمر ذلك لحماية حقوقها المائية المشروعة.