مؤشرات متعددة: ما هي دلالات زيارة “حميدتي” لتركيا؟
في أول زيارة رسمية لوفد سوداني إلى تركيا منذ الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام “عمر البشير”، وصل النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول “محمد حمدان دقلو” (حميدتي) إلى أنقرة في الـ 27 من مايو الجاري، في زيارة استمرت ليومين، تم خلالها بحث العديد من الملفات والقضايا المشتركة، بيد أن السياق الإقليمي الراهن والتطورات المتسارعة التي تشهدها قد تضفي أهمية خاصة لهذه الزيارة، خاصةً وأنها تأتي بعد فترة من الفتور والجمود في العلاقة بين البلدين إثر إيواء أنقرة لعدد من رموز النظام السابق والمطلوبين من قبل الحكومة الانتقالية السودانية، وفي إطار العديد من الإدعاءات التي حاولت بعض التقارير من خلالها تفسير دوافع هذه الزيارة، تسعى هذه الورقة إلى قراءة تحليلية لدلالات هذه الزيارة وتفنيد الإدعاءات التي أشارت لها بعض التقارير.
هل هي زيارة مفاجئة؟:
توجه النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول “محمد حمدان دقلو” (حميدتي) في زيارة رسمية إلى تركيا في الـ 27 من مايو الجاري، على رأس وفد كبير تضمن وزير الزراعة والغابات “الطاهر حربي”، ووزير الطاقة والنفط ” جادين علي عبيد”، ووزير الثروة الحيوانية ” حافظ إبراهيم عبد النبي” ووزير النقل “ميرغني موسى”، ووزير التنمية العمرانية والطرق والجسور “عبد الله يحيى، بالإضافة إلى عدد من المسئولين.
وعلى الرغم من مفاجئة الإعلان عن هذه الزيارة من قبل الجانب السوداني، إلا أنها في واقع الأمر لم تأت بشكل مفاجئ، فقد جاءت تلبية لدعوة رسمية من قبل الحكومة التركية، وذلك خلال اللقاء الذي جمع السفير التركي في السودان “عرفات نذير أوغلو” بـ “حميدتي” الأسبوع الماضي، حيث تسلم الأخير رسالة خطية من نائب الرئيس التركي “فؤاد أقطاي” لزيارة أنقرة يومي 27 و 28 مايو الجاري.
اتفاقيات اقتصادية:
وقد أفرزت زيارة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني لتركيا عن توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية بين البلدين، بلغت قيمتها نحو 10 مليار دولار، كما تم بحث القضايا المتعلقة بالاستثمارات السابقة وإحياء الاتفاقيات القديمة، في إشارة إلى الاتفاقيات الـ 22 التي تم توقيعها بين الخرطوم وأنقرة في عدة مجالات في ديسمبر 2017 بعد الزيارة التي قام بها الرئيس التركي “رجب أردوغان” إلى السودان.
وقد تضمنت زيارة “حميدتي” لتركيا جلسة مباحثات مطولة مع نائب الرئيس التركي “فؤاد أقطاي” لبحث تعزيز التعاون المشترك بين البلدين في العديد من المجالات، وقد أعلن “أقطاي” عن دعم بلاده للسودان خلال المرحلة الراهنة، مشيراً إلى سعى أنقرة إلى رفع حجم التبادل التجاري مع الخرطوم إلى مليار دولار(يبلغ حالياً حوالي 481 مليون دولار)، من خلال الاستثمار في مجالات الطاقة والنفط والزراعة والثروة الحيوانية وغيرها من المجالات، وهو ما أكده وزير التنمية العمرانية والطرق والجسور السوداني “عبد الله يحيى” والذي أشار إلى أن شركات تركية متخصصة في البنى التحتية والطرق والجسور سوف تزور الخرطوم خلال الفترة المقبلة.
ويبدو أن تركيا تسعى للاستفادة من قرار رفع السودان من قائمة الإرهاب لتنمية استثماراتها في الخرطوم، كذلك لا يمكن استبعاد فكرة التنافس التركي – الفرنسي في هذا المجال، خاصةً وأن زيارة “حميدتي” لأنقرة تأتي بالتزامن مع مؤتمر باريس الذي رعاه الرئيس الفرنسي “ماكرون” بهدف دعم السودان، ومن ثم فمن ناحية تمثل هذه الزيارة في احد أبعادها محاولة من قبل تركيا للاستفادة من السوق السودانية الواعدة والتي تحتاج إلى استثمارات كبيرة ويتوقع أن تشهد منافسة دولية وإقليمية كبيرة، بالإضافة إلى ذلك يبدو أن الخرطوم باتت تمثل أحد ساحات التنافس بين باريس وأنقرة.
هل هناك وساطة تركية محتملة؟:
لا يرجح أن تكون زيارة “حميدتي” لأنقرة قد تضمنت أي حديث عن وساطة محتملة لتركيا بين السودان وإثيوبيا بشأن الصراع الحدودي القائم بين البلدين، فالحكومة التركية كانت قد تجاهلت طلب إثيوبياً في فبراير الماضي للتوسط بينها وبين السودان لحلحلة الخلافات الحدودية، وهو ما عكس حرص أنقرة على علاقاتها بمصر، خاصةً في ظل مؤشرات التقارب الراهنة بين البلدين، والتي يبدو انها سوف تنعكس في بوادر تعاون مشترك في العديد من الملفات الإقليمية.
بالتالي، يرجح أن تمثل زيارة الوفد السوداني لتركيا أحد إفرازات التقارب المصري- التركي والمصري – القطري، حيث بدأت العلاقات السودانية تتطور بالدوحة وأنقرة خلال الفترة الأخيرة، ولا يمكن استبعاد الربط بين زيارة”حميدتي” لتركيا وزيارة وزير الخارجية القطري ” محمد بن عبد الرحمن” آل ثان للخرطوم. وقد بدأت إرهاصات تفاهم بين السودان وتركيا في نهاية مارس الماضي، عندما التقى وزير التجارة السوداني “على جدو” بالسفير التركي لدى الخرطوم “عفان أوغلو”، وقد أكد آنذاك- الوزير السوداني أن بلاده تتطلع لتطوير علاقاتها الاقتصادية مع تركيا، كما وجه الرئيس التركي بعدها دعوة للقيادة السودانية لزيارة أنقرة، ردت عليه الخرطوم بالترحاب والإعلان عن نيتها لإرسال وفد وزاري إلى تركيا الشهر المقبل.
تنسيق مصري سوداني:
عمدت بعض التقارير إلى محاولة استغلال هذه الزيارة لإثارة الخلافات بين مصر والسودان، والعمل على فك الارتباط والتوافق بين القاهرة والخرطوم، وذلك عبر الترويج إلى أن زيارة “حميدتي” لأنقرة تمثل خطوة منفردة تقوم بها السودان لتعزيز بمنأى عن التنسيق مع مصر، بيد أن قراءة تحليلية للسياق الراهن الذي يسبق هذه الزيارة يدحض هذه الإدعاءات، فقد شهدت الأيام الأخيرة وصول قوات مصرية إلى السودان للمشاركة في المناورات العسكرية المشتركة “حماة النيل” (تعد الأضخم والأشمل) في رسالة قوية عكست مدى التنسيق بين البلدين، خاصةً وأنها تأتي بعد أسابيع قليلة على انتهاء مناورة أخرى بين جيشي البلدين تحت مسمى “نسور النيل2”.
أيضاً، شهدت الأيام الأخيرة مشاركة فعالة من قبل الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في مؤتمر باريس لدعم الانتقال في السودان، وقد تمخض عن هذا المؤتمر إعلان مصر أنها ستستخدم حصتها في صندوق النقد الدولي للمساعدة في تسوية جزء من ديون السودان المستحقة، وقد أعلن الرئيس “السيسي” بأن أمن واستقرار السودان يمثل جزء رئيسي من أمن واستقرار مصر والمنطقة ككل. لذا، ثمة تنسيق راسخ ومستمر بين القاهرة والخرطوم تعكسه المعطيات السابقة، وقد بلغ مستوى هذا التنسيق درجة عالية حتى في التصريحات الصادرة عن المسئولين في الدولتين، فضلاً عن التحركات الإقليمية التي تقوم بها كل دولة، ففي الوقت الذي تستمر الدولة المصرية في تعزيز نفوذها وحضورها في القارة الإفريقية، والعمل على كسب مزيد من الدعم والتأييد الإفريقي لموقف مصر والسودان فيما يتعلق بملف سد النهضة، عمدت وزيرة الخارجية السودانية ” مريم الصادق المهدي” إلى القيام بجولة واسعة تضمنت العديد من الدول الإفريقية لحشد دعم هذه الدول.
كسر الجمود والفتور:
بعد مرحلة من الفتور والجمود في العلاقات بين السودان وتركيا، بدأت بعد الثورة السودانية التي أطاحت بنظام “عمر البشير”، واحتضان أنقرة لقيادات النظام السابق الذين فروا إليها، فضلاً عن إعلان الخرطوم إعادة النظر في الاتفاق الذي كان الرئيس السابق ” البشير” قد وقعه مع الحكومة التركية لإعادة وتأهيل ميناء “سواكن” الإستراتيجي على البحر الأحمر، وفي هذا الإطار تمثل زيارة ” حميدتي” لأنقرة نقطة فاصلة في تجاوز الخلافات بين الجانبين، والعمل على إعادة الاستثمارات التركية للسودان وإحياء الاتفاقيات الموقعة بين البلدين.
بالتالي، مثلت زيارة نائب رئيس مجلس السيادة السوداني إلى تركيا إيذاناً بمرحلة جديدة للعلاقات بين البلدين، إضافة إلى تأكيدها على تراجع تركيا عن استراتيجيتها التي أتبعتها منذ سقوط نظام “البشير” ودعمها لجماعة الإخوان “الإرهابية” ولعل هذا ما أنعكس في مبادرة تركيا لتقديم دعوة رسمية إلى القيادة السودانية لزيارة أنقرة، في إطار استراتيجية شاملة مفادها تخليها عن سياساتها القديمة الداعمة للإخوان ومساعيها لتعزيز التعاون مع مصر ومن ثم السودان. وفي هذا الإطار أشارت بعض التقارير إلى احتمالات أن تتضمن الزيارة التي قام بها “حميدتي” لتركيا بحث ملف إعادة عناصر النظام السابق الفارة إلى تركيا.
هل هناك خلافات؟:
حاولت بعض التقارير الترويج لفكرة أن زيارة “حميدتي” لأنقرة تعكس وجود خلافات بين أعضاء مجلس السيادة الانتقالي في السودان، وقد ربطت هذه التقارير ذلك بإعلان المجلس في وقت سابق بإجراء تعديل في لائحة المجلس الداخلية، من خلال إضافة بند يمنع سفر أعضاء المجلس إلى الخارج إلا بإذن مسبق من رئيس المجلس الفريق أول “عبد الفتاح البرهان”، وذلك بعد الكشف عن زيارات سرية قام بها بعض أعضاء المجلس للخارج بشكل سري.
لكن، لا يبدو أن هناك خلافات بين أعضاء المجلس السيادي بشأن زيارة ” حميدتي” لأنقرة، فالأخير لم يعترض على قرار المجلس بمنع أعضاء المجلس من السفر للخارج دون إذن مسبق، كما أن المجلس السيادي كان قد أعلن منذ أبريل الماضي أنه يرحب بتعزيز العلاقات مع تركيا، وقد طرح “حميدتي” على أعضاء المجلس الدعوة التي وصلته من قبل أنقرة، ولم يبد المجلس أي اعتراض، بل كان قد سبق زيارة “حميدتي” إلى تركيا زيارة أخرى قام بها شقيقه ” عبد الرحيم دقلو” القائد الثاني في قوات الدعم السريع وعضو مجلس شركاء الفترة الانتقالية لتركيا في 16 مايو الجاري، للتحضير لزيارة “حميدتي”، ويضاف لذلك أن الأمين العام لمجلس السيادة السوداني الفريق الركن ” محمد الغالي” هو من كان في وداع حميدتي في مطار الخرطوم.
ما علاقة ليبيا؟:
ربطت بعض التقارير الغربية بين زيارة “حميدتي” لتركيا وبين محاولة بعض القوى الأوروبية الحصول على مساعدة قوات الدعم السريع التي يقودها “حميدتي” في ضبط الهجرة غير الشرعية عبر بوابة ليبيا إلى أوروبا، ومنع دخول أي عناصر إلى ليبيا، وفي هذا الإطار تشير هذه التقارير إلى وجود دعم أوروبي رسمي لحميدتي ممثلاً للحكومة السودانية، حيث ينطوي على الدعم على وجود اتفاق بين الجانبين يتضمن التزام قوات الدعم السريع بضبط عمليات الهجرة غير الشرعية وضبط الحدود مع ليبيا لوقف دخول أي عناصر أو مقاتلين إليها، مقابل الحصول على أنظمة متقدمة للدعم اللوجستي بالإضافة إلى طائرات الدرون التركية.
وقد أشارت هذه التقارير إلى أن هذا الاتفاق قد تم في فبراير الماضي بعد الزيارة التي قام بها حميدتي إلى روما، حيث التقى خلالها بممثلين عن تركيا وإيطاليا وحلف الناتو، لكن على الرغم من إشارة أنصار هذا الإدعاء بأن اختيار “حميدتي” من بين أعضاء مجلس السيادة السوداني للقيام بزيارة أنقرة ربما يدعم طرحهم، بيد أنه حتى الآن يبقى هذا الطرح مجرد افتراض غير مدعوم بأي أدلة حقيقية، خاصةً وأن اهتمام مجلس السيادة والحكومة السودانية في الوقت الراهن منصباً على أزمة سد النهضة وملف استيعاب بقية المجموعات المسلحة، كذلك فالوفد المرافق لـ”حميدتي” كان قد تضمن العديد من الوزراء في مجالات متنوعة، مما يعكس دلالات هامة بأن هدف هذه الزيارة هو اقتصادي بالأساس.
أخيراً، تعكس زيارة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني إلى تركيا أحد ملامح التطورات الراهنة التي تشهدها المنطقة، بما في ذلك تغيير النهج التركي في المنطقة والعمل على تعزيز علاقاتها بمصر وحلفائها (منها السودان)، ويبدو أن هناك تفاعلات بدأت تتمخض عن هذا التغيير في العديد من الملفات الإقليمية، وبالتالي لا يمكن أن تكون مصر بمعزل عن هذه التطورات، فالتحالف المصري- السوداني مستمر في أعلى درجاته، واصحب محط اهتمام الكثير من الفواعل الإقليمية والدولية التي تسعى لتنمية علاقاتها الاقتصادية والسياسية به.