“بايدن” يقترب: هل يتغير الموقف الإثيوبي من مفاوضات سد النهضة؟
شهدت الأيام الأخيرة تغييرات هامة فيما يتعلق بملف سد النهضة، عكست مؤشرات هامة بشأن المآلات التي يتجه إليها هذا الملف، والدفع نحو مرحلة الحسم النهائي لهذه الإشكالية، وإنهاء التأرجح بين الدبلوماسية والمواجهة العسكرية، وربما يمثل التغيير الواضح في الموقف الأمريكي إزاء الموقف الإثيوبي المتعنت أحد أبرز المتغيرات التي طرأت على السياق المحيط بهذه القضية المعقدة، في خطوة ربما تمثل نقطة فاصلة في حلحلة هذه الأزمة.
تغيرات جذرية في الموقف الأمريكي:
عكست الأيام الأخيرة إعادة صياغة للموقف الأمريكي إزاء منطقة الشرق الأوسط، فبعد أربعة أشهر من المكابرة، أدركت الإدارة الأمريكية للرئيس “جو بايدن” محورية الدور المصري في المنطقة، وعدم إمكانية تجاوز دور القاهرة في أي ملف يخص السياق الإقليمي، ولقد عكست أزمة غزة الأخيرة أهمية الدور المصري وعدم إمكانية الاستعاضة عنه بأي فواعل إقليمية أخرى، لذا، قام الرئيس الأمريكي بأول مكالمة هاتفيه لنظيره المصري “عبد الفتاح السيسي” منذ دخوله البيت الأبيض في يناير الماضي، أقر فيها بأهمية الدور المصري، وهو ما يمثل انتصار دبلوماسي واستراتيجي عزز من مكانة الدولة المصرية، وقد عكست الصحف ومراكز الفكر الأمريكية هذا الأمر.
أيضاً، بعد أيام قليلة من مكالمة الرئيس الأمريكية الأولى، قام “جو بايدن” بمكالمة هاتفية أخرى بالرئيس “السيسي” تم خلالها بحث التعاون المشترك في العديد من الملفات الإقليمية المشتركة، أبرزها ملف سد النهضة وليبيا.
واستمراراً للتغيير في توجهات الإدارة الأمريكية، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بياناً شديد اللهجة للحكومة الإثيوبية بشأن الانتهاكات الراهنة في إقليم التيجراي، مشيراً إلى فرض عقوبات اقتصادية وأمنية على أديس أبابا، فضلاً عن فرض قيود على التأشيرات للمسئولين الإثيوبيين والإريتريين الذين ثبت تورطهم، كما دعا البيان المجتمع الدولي للتحرك والانضمام إلى واشنطن في الإجراءات التي أتخذتها.
بين التلويح ببكين ومغازلة واشنطن:
جاء الرد الإثيوبي من خلال البيان الصادر عن خارجيتها، حيث اتهمت أديس أبابا الولايات المتحدة بالتدخل في شئونها الداخلية، وقد عمد البيان إلى مغازلة الاتحاد الأوروبي من خلال الإشارة إلى الدور الإثيوبي في المشاركة في قوات حفظ السلام لبعثات الاتحاد الإفريقي في عدة دول مثل السودان والصومال فضلاً عن مراقبة المتشددين في منطقة القرن الإفريقي، مشيرةً إلى أنها كانت تتوقع دعما من واشنطن وتفهماً للتطورات الراهنة، كما أكد البيان الإثيوبي على أن العقوبات الأمريكية ربما تقوض العلاقات الثنائية بين البلدين، وأختتم البيان الحديث بالإشارة إلى أن أديس أبابا ستقوم بإعادة تقييم علاقتها بواشنطن.
وضمنياً، حمل البيان الإثيوبي رسائل تهديد للجانب الأمريكي، مفادها إمكانية التوجه نحو الصين حال لم تستمر واشنطن في دعم أجندة أديس أبابا نحو الهيمنة، ويجب الأخذ في الاعتبار أن هذه الأمر كان من أبرز محددات الموقف الأمريكي السابق في الدعم الكامل للحكومة الإثيوبية، إذ لم تكن واشنطن ترغب في خسارة حليف هام في منطقة القرن الإفريقي، بيد أن الاستفزازات الإثيوبية، إلى جانب التصدعات الداخلية في الداخل الإثيوبي ربما تمثل العامل الأبرز في إعادة تشكيل الموقف الأمريكي، خاصةً بعدما أشارت بعض مراكز البحوث الأمريكية إلى أن احتمالات تفكك الدولة الإثيوبية بات مرجحاً بقوة خلال المدى القصير والمتوسط، وإذا أخذنا في الاعتبار تنامي الدور الإقليمي المصري خلال الفترة الأخيرة، فضلاً عن التقارير التي سلمها المبعوث الأمريكي” جيفري فيلتمان” إلى البيت الأبيض بشأن الموقف الإثيوبي المتعنت، يمكن أن يشكل ذلك صورة أكثر اكتمالا ووضحاً بشأن أبعاد الموقف الأمريكي الجديد، وقد أشار تقريرا صادر عن مجلة Foreign Policy أن الإدارة الأمريكية باتت محبطة من طريقة تعامل الحكومة الإثيوبية، وقد رجح التقرير من حدوث تحولات نوعية في العلاقات الأمريكية-الإثيوبية خلال الفترة المقبلة.
لكن، على الرغم من هذا الموقف الإثيوبي الملوح بقوة بتقارب محتمل مع الصين، إلا أن أديس أبابا عمدت إلى مغازلة الولايات المتحدة ومحاولة تهدئة التوتر الراهن، وقد انعكست هذه المراوغة الإثيوبية في إعلان أديس أبابا عن فوز مشروع مدعوم من واشنطن (تحالف الشركات العالمية من أجل إثيوبيا GPE تقوده شركة فودافون البريطانية) على حساب آخر مدعوم من بكين (تابع لمجموعة MTN الجنوب إفريقية والتي تعد شريكاً طويل الأجل لهواوي وZET) لبناء شبكة اتصالات الجيل الخامس، كما أعلنت الحكومة الإثيوبية عن إدانة ثلاثة جنود بتهمة الاغتصاب في أول إدانة من قبل الحكومة الإثيوبية لعناصر من جيشها بارتكاب إدانة في إقليم التيجراي، وهو ما يعكس استراتيجية إثيوبيا المخادعة التي تتبع سياسة المد والجذر لعدم خسارة واشنطن.
ورقة ضغط قوية:
أشارت جريدة Bloomberg الأمريكية إلى أن العقوبات الأمريكية ستؤثر بشكل أساسي على التمويل لدعم ميزانية إثيوبيا، إذ أنها تتضمن توجيهاً البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بوقف أي تمويل إلى أديس أبابا، ويمكن فهم حجم التداعيات المحتملة لهذه الخطوة الأمريكية إذا ما علمنا أن إثيوبيا تمثل أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأمريكية في إفريقيا، فقد تلقت الحكومة الإثيوبية نحو مليار دولار في 2020.
ويجب الأخذ في الاعتبار أن الموقف الأمريكي يأتي في أعقاب قرار صادر عن الإتحاد الأوروبي في مارس 2021 بفرض عقوبات على وكالة الأمن القومي الإريترية بسبب الانتهاكات في إقليم التيجراي، بينما أشارت مصادر دبلوماسية وفقاً لجريدة Bloomberg أن بروكسل تعد حالياً قائمة أخرى بالعقوبات الموجهة لمسئولين إثيوبيين، وربما يحفز القرار الأمريكي الأخير من الإسراع بإصدار هذه القائمة، وربما ينعكس ذلك في البيان الأخير الصادر عن الإتحاد الأوروبي الذي يطالب فيه الحكومة الإثيوبية بفتح تحقيق في مقتل الصحافي إثيوبي (مراسل شبكة أوروميا الإذاعية) وطرد مراسل نيويورك تايمز وبوليتيكو ” سيمون ماركس” والذي كان قد وثق الكثير من الانتهاكات التي نفذتها الحكومة الإثيوبية.
من ناحية أخرى، يأتي القرار الأمريكي قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة في إثيوبيا، والتي أعلنت أديس أبابا أنها سوف تنطلق في 21 يونيو المقبل، وتمثل هذه الانتخابات اختبارا حقيقياً لرئيس الوزراء “آبي أحمد”، ولا تستبعد التقارير الأمريكية احتمالات أن يمثل الموقف الأمريكي الراهن محدداً هاماً في نتائج هذه الانتخابات ومستقبل “آبي” في السلطة.
وقد سبق القرار الأمريكي موافقة مجلس الشيوخ بالإجماع في 20 مايو الجاري على قرار يدعو إلى الانسحاب الفوري للقوات الإرترية من التيجراي، ما يعكس توجهاً متشدداً داخل الكونجرس الأمريكي إزاء أزمة التيجراي، حيث يضغط الكونجرس (المسئول عن الميزانيات والمساعدات الخارجية) على إدارة الرئيس “بايدن” للتحرك بقوة لمحاسبة المسئولين الإثيوبيين والإرتريين.
هل نذر حرب تلوح في الأفق؟:
أعلنت الخارجية أنها تراقب التطورات في السودان، في إشارة إلى المناورات العسكرية المشتركة بين القاهرة والخرطوم “حماة النيل”، وقد أشارت بعض المصادر إلى قيام الحكومة الإثيوبية بدفع حشود عسكرية مسلحة من عرقية الأمهرا إلى الحدود المتاخمة للسودان، بيد أنه لم يتم تأكيد هذه التحركات حتى الآن.
وتجدر الإشارة إلى أن مناورة “حماة النيل” بين مصر والسودان تمثل رسائل مباشرة لكافة الأطراف والفواعل الإقليمية والدولية بأن مصر (والسودان) جادة في حماية حقوقها وأمنها المائي، فضلاً عما تمثله هذه المناورة من التلويح بالردع، وهو ما يعكسه اختيار اسم “حماة النيل” بدلاً من “نسور النيل” على غرار المناورات السابقة، ويضاف لذلك نوعية المشاركة في هذه المناورات، حيث تشارك قوات برية وبحرية وجوية.
سيناريوهان محتملان:
يتجه ملف سد النهضة بسرعة نحو نقطة فاصلة، في ظل متغيرات متلاحقة تهيمن على هذه الأزمة، وفي إطار المعطيات السابقة التي تعكس السياق الراهن لملف السد، يمكن طرح سيناريوهان رئيسيان قد يمثلان المساران الأكثر ترجيحاً خلال المرحلة المقبلة، وهما:
(*) السيناريو الأول، الخيار العسكري: ففي ظل التغيير الراهن في الموقف الأمريكي، ربما يمثل هذا التغيير داعماً “نسبياً” لهذا المسار، خاصةً في ظل الإحباط الأمريكي من الحكومة الإثيوبية، والذي تضاعف بعدما كشف تقرير المبعوث الأمريكي إلى القرن الأفريقي عن مدى التعنت الإثيوبي، إلى جانب مؤشرات تصدع الداخل الإثيوبي والذي أشارت إليه مراكز البحوث الأمريكية والتي نصحت الإدارة الأمريكية بضرورة الاستعداد للتعامل مع “إثيوبيا مفتتة”، ومن ثم فربما يقلل ذلك من أهمية الدعم الأمريكي لحكومة “آبي أحمد”، خاصةً إذا ما أختار الأخير تعزيز التقارب مع الصين بدرجة أكبر.
(*) السيناريو الثاني، التوصل إلى أتفاق شامل ملزم: ربما تدفع الضغوطات الراهنة للإدارة الأمريكية على الحكومة الإثيوبية إلى تراجع الأخيرة عن التعنت في موقفها، ومن ثم العودة إلى مفاوضات تحت رعاية الإتحاد الإفريقي (شكليا) والولايات المتحدة (فعليا)، تفرز اتفاقا شاملاً وملزم يحفظ لمصر والسودان حقوقهما، وربما يكون هذا السيناريو هو الأقرب، خاصةً إذا ما أخذنا في الاعتبار عودة المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي “جيفري فيلتمان” لبدء جولة جديدة من مباحثات سد النهضة، وهي ما تأتي بالتوازي مع الجولة المرتقبة لوزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” إلى منطقة الشرق الأوسط، والتي سوف تتضمن زيارة إلى مصر، يرجح أن تشهد مباحثات بشأن سد النهضة، ويدعم هذا السيناريو أيضاً ما أعلنته الخارجية الأثيوبية في 25 مايو الجاري من أنها تتوقع استئناف المفاوضات قريباً.
وفي النهاية، يجب الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من حلحلة أزمة ملف سد النهضة تحتكره الولايات المتحدة، ومن ثم فالانخراط الأمريكي المكثف في هذا الملف ربما يمثل مؤشراً هاماً بشأن احتمالات الوصول إلى حل نهائي لهذه الأزمة، وفيما يتعلق بالسيناريوهات المطروحة، فكما أشرنا سابقاً إلى أن هناك سيناريوهان رئيسيان، ويبقى الترجيح في الوقت الراهن هو مسار التوصل إلى اتفاق شامل وملزم، بيد أن فشل هذا المسار يعزز بقوة من فرص حدوث السيناريو الأول (المواجهة العسكرية)، خاصةً في ظل التطورات الراهنة والتي يعد تغيير الموقف الأمريكي أحد أبرز ملامحه.
المراجع
- Samuel Gebre and Simon Marks, S. to Restrict Economic Aid to Ethiopia Over Tigray War, Bloomberg, May 24, 2021.
- Samuel Gebre and Simon Marks,S. Weighs Financial Sanctions Against Ethiopia Over Tigray War, Bloomberg, May 22, 2021.
- Robbie Gramer, Biden Administration Plans Visa Restrictions on Ethiopian Officials Over Tigray, Foreign Policy, MAY 21, 2021.
- DAVID M. HERSZENHORN, EU ‘seriously concerned’ about press rights in Ethiopia, Politico, May 23, 2021.
- Ethiopia Calls US Visa Sanctions ‘Regrettable,’ Says It Will ‘Reassess Its Relations’, AllAfrica, 24 MAY 2021.
- Randa Slim, Monday Briefing: Secretary Blinken travels to the Middle East, Middle East Institute, May 24, 2021.