دلالات التوقيت: لماذا قررت حكومة آبي أحمد تأجيل الانتخابات الإثيوبية للمرة الثانية؟

على الرغم من إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي – خلال الأيام الأخيرة- عن استعداد حكومته لإجراء الانتخابات البرلمانية المقررة في الـ5 من يونيو الجاري، وإدعائه بوجود مؤامرات داخلية وخارجية تستهدف تعطيل هذه الانتخابات، بيد أن رئيسة مجلس الانتخابات الإثيوبية “بيرتوكان ميدكسا” أعلنت تأجيل الانتخابات الوطنية إلى أجل غير مسمى وذلك لأسباب لوجستية، مشيرةً إلى أن التاريخ الجديد لإجراء الانتخابات سيتم تحديده بعد التشاور مع الأحزاب السياسية.

وعلى الرغم من تأكيد “ميدكسا” بأن فترة التأجيل لن تتجاوز الثلاثة أسابيع، إلا أنها أشارت أيضاً بأن الموعد الجديد سوف يراعي موسم المطر الذي يستمر 3 أشهر (بداية من يونيو وحتى أغسطس)، وهو ما يحمل العديد من الدلالات بشأن مستقبل هذه الانتخابات والتوجهات الحقيقية للحكومة الإثيوبية في ظل التطورات الداخلية والإقليمية الراهنة.

تأجيل جديد للانتخابات:

أعلنت رئيسة مجلس الانتخابات الوطنية الإثيوبية ” بيرتوكان ميدكسا” تأجيل موعد الانتخابات الوطنية التي كانت مقرره في الـ 5 من يونيو القادم إلى أجل غير مسمى، وجاء هذا الإعلان بعد اجتماع أجرته “ميدكسا” مع ممثلي الأحزاب السياسية في 15 مايو الجاري، حيث أشارت إلى الحاجة إلى مزيد من الوقت للانتهاء من طباعة بطاقات الاقتراع وتدريب الموظفين المنوط بهم الإشراف على عملية الاقتراع، بيد أن السياق المحلي والإقليمي الراهن قد يدحض إدعاءات تأجيل الانتخابات بسبب التأخر في طباعة بطاقات الاقتراع، خاصةً وأن موعد الانتخابات لم يكن مفاجئاً، بل تم تحديده منذ عام 2020.

وتجدر الإشارة إلى أن قرار تأجيل الانتخابات الإثيوبية يعد هو الثاني من نوعه خلال الأشهر الأخيرة، فقد كان من المقرر إجراء الانتخابات الوطنية في أديس أبابا في أغسطس 2020، بيد أن حكومة رئيس الوزراء “آبي أحمد” عمدت إلى تأجيل الانتخابات – تحت ذريعة أزمة كورونا- للحيلولة دون خسارته في هذه الاستحقاقات؛ نظراً لتراجع شعبيته بشكل كبير في الداخل الإثيوبي، ومن ثم حاول “آبي” تأخير موعد الانتخابات لحين استيعاب الغضب الداخلي، والتخلص من كافة المعارضة وضمان الهيمنة على كافة الأقاليم، وفي مقدمتها التيجراي التي دخل رئيس الوزراء في حرب شاملة ضدها – بلغت حد الإبادة الجماعية- للقضاء على أبرز قوى داخلية تهدد أطماع “آبي  أحمد” التي تستهدف الهيمنة الكاملة على الدولة الإثيوبية في إطار التوجه نحو تحويلها إلى دولة شديدة المركزية كبديل للنظام الفيدرالي الرهن الذي يمثل عقبة أمام أجندة “آبي”.

لكن، بعد أشهر من هذه الحرب التي شنها رئيس الوزراء الإثيوبي ضد إقليم التيجراي والانتهاكات التي ارتكبتها القوات الحكومية هناك، لم ينجح “آبي أحمد” في تحقيق انتصارا كاملاً على الإقليم، بل على العكس تحولت الحرب إلى صراع مسلح طويل الأجل يستنزف موارد الدولة – التي تعاني بالفعل من أزمة اقتصادية متفاقمة- بشكل هائل، كما أنها أدت إلى إثارة الغضب الدولي والإقليمي ضد الحكومة الإثيوبية؛ بسبب الأزمة الإنسانية التي أفرزتها حرب التطهير العرقي التي تنتهجها ضد شعب التيجراي، والتي وثقتها العديد من التقارير الدولية والأممية، وهو ما أكده أيضاً إعلان رئيس كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية من إدانته لانتهاكات الحكومة الإثيوبية ضد إقليم التيجراي، متهماً حكومة “آبي” بارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد شعب التيجراي، كما أنه قدم دعوة إلى القوى الدولية للتدخل ووقف المذابح التي ترتكبها الحكومة الإثيوبية.

كذا، لم يقتصر الأمر على إقليم التيجراي، فقد اتسعت رقعة الاحتقان الداخلي إلى عدة أقاليم إثيوبية، وهو ما زاد الأمور تعقيداً بالنسبة لخطة “آبي أحمد”، وباتت كافة المؤشرات ترجح أن إجراء الانتخابات في يونيو المقبل سيعني –في الأغلب- سقوط حكومة الأخير، خاصةً في ظل الصراعات الإقليمية المتعددة التي انخرطت فيها الحكومة الإثيوبية خلال الأشهر الماضية.

لماذا الآن؟:

فعلياً، يرتبط قرار تأجيل الانتخابات الإثيوبية بالسياق الداخلي والإقليمي الراهن، وليس كما أشارت رئيسة مجلس الانتخابات الوطنية إلى التأخر في طباعة بطاقات الاقتراع، وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى جملة من المتغيرات التي سبقت قرار الحكومة الإثيوبية بتأجيل الانتخابات الوطنية، والتي تفسر تحركات حكومة “آبي أحمد”، وتتمثل أبرز هذه المتغيرات فيما يلي:

(*) استمرار وتفاقم الأزمة الإنسانية في إقليم التيجراي، وتعثر الحكومة الإثيوبية في وحل حرب واسعة طويلة الأجل، قوضت الكثير من شرعيتها المتآكلة بالفعل، ولعل هذا ما كشف عنه البيان الأخير الصادر عن الخارجية الأمريكية في 15 مايو الجاري، والذي أكد أن واشنطن تشعر بقلق بالغ إزاء انتهاكات الحكومة الإثيوبية في إقليم التيجراي، مشيرةً إلى الفظائع التي تمارسها القوات الإثيوبية والإريترية في الإقليم، وأن الولايات المتحدة ستعمل مع الشركاء الدوليين لتأمين وقف إطلاق النار وضمان وصول المساعدات الإنسانية.

(*) تدهور الأوضاع الأمنية في كافة أنحاء إثيوبيا، فقد شهدت إثيوبيا تصاعد واضح في درجة العنف الداخلي خلال شهري مارس وأبريل الماضيين، لعل أبرزها الاشتباكات التي جرت بين منطقة “عفار” والمنطقة “الصومالية”، وتلك التي جرت بين أكبر مجموعتين عرقيتين في البلاد وهما مجموعتي “الأمهرة” و”الأورومو” والتي خلفت مئات القتلى وخروج بعض المناطق عن سيطرة الأمن الإثيوبي، فضلاً عن تأجج العنف والصراع في إقليم “بني شنقول” (بها سد النهضة) وسيطرة جماعات مسلحة على بعض المناطق في الولاية، ويعزى البعض الصراع الراهن في إقليم بني شنقول إلى السياسات التي انتهجتها حكومة “آبي أحمد” التي حاولت توطين قوميات أخرى في الولاية لإحداث تغيير ديموغرافي في الولاية يسهل من عملية الهيمنة عليها. وقد عكس بيان الخارجية الأمريكية مدى القلق الأمريكي من تدهور الأوضاع في الداخل الإثيوبي وزيادة حدة الاستقطاب السياسي والعرقي في جميع أنحاء البلاد، حيث أشار البيان إلى أن الوضع الراهن في أديس أبابا ينذر بانهيار الدولة الإثيوبية وتفككها، ومن ثم فالوضع الراهن غير قابل للاستمرار.

(*) تفاقم الأزمات الراهنة في منطقة القرن الإفريقي، الأمر الذي بات يحمل مؤشرات خطيرة، ربما تؤدي إلى تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة، والتي تمثل أديس أبابا محدداً رئيسياً في إثارة وتأجيج غالبية هذه الملفات، سواء بالنسبة لملف سد النهضة، والذي لا يزال يشهد تعنتاً إثيوبياً يدفع بالمنطقة إلى حرب واسعة النطاق، بالإضافة إلى الانتهاكات الإثيوبية للأراضي السودانية المتاخمة للحدود بين البلدين، حيث تصر أديس أبابا على احتلال هذه الأراضي والتغلغل بها، فضلاً عن الصراع المستمر في إقليم التيجراي والذي يشهد تغلغلا للقوات الإريترية في هذا الإقليم، على الرغم من الإدانات الدولية والأممية والمطالبات بانسحاب هذه القوات من التيجراي. يضاف لذلك تدهور الأوضاع في إرتريا والصومال (حليفتا أديس أبابا)، حيث تشهد أسمرة تصاعد حدة المعارضة للرئيس “أسياس أفورقي”، ويسعى الأخير من الانخراط في الصراع الراهن في التيجراي إلى التخلص من أعدائه التاريخيين من جبهة تحرير التيجراي، ومن ثم القضاء على جبهة قوية من الأطراف المعارضة لحكمه، قبل أن يتفرغ لمواجهة الأطراف الأخرى خاصة الآتية من ناحية الحدود مع السودان، وثمة تقارير تشير إلى محاولة “أفورقي” الحصول على ضمانات أمريكية قبل أي انسحاب من التيجراي. أما بالنسبة للصومال، فتعاني هي الأخرى من أزمة سياسية حادة بسبب إصرار الرئيس “محمد عبد الله فيرماجو” (المنتهية ولايته) على الاستمرار في الحكم، وهو ما تمخض عنه تعطيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والدخول بالبلاد في نفق مظلم ربما يعيدها إلى براثن الحرب الأهلية مرة أخرى، وهو ما يمثل تكراراً للنهج ذاته الذي يتبعه “آبي أحمد” في إثيوبيا.

تغييرات نسبية في الموقف الأمريكي:

عكست المؤشرات الأولية للجولة التي قام بها المبعوث الأمريكي لمنطقة القرن الإفريقي “جيفري فيلتمان” عن موقف أمريكي منحاز بقوة لأديس أبابا، يعمل على التوصل إلى أتفاق جزئي خاص بالملء الثاني فقط، في خطوة استهدفت الحيلولة دون اتخاذ مصر والسودان لأي خطوة تصعيدية بضرب السد لحين الانتهاء من مرحلة الملء الثاني، ومن ثم فرض سياسة الأمر الواقع وخدمة الأهداف الإثيوبية.

لكن، عكس البيان الأخير الصادر عن الخارجية الأمريكية -بشأن نتائج زيارة مبعوثها الخاص للقرن الإفريقي- عن تغييرات نسبية في الموقف الأمريكي، تجسد أبرز ملامح هذا التغيير فيما تضمنه البيان من الإشارة إلى اتفاقية المبادئ لعام 2015، وبيان قمة الإتحاد الإفريقي في يوليو 2020، والتي أشارت بوضوح إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزم.

كذلك، تعكس إشارة البيان الأمريكي أن منطقة القرن الإفريقي تمر بمنعطف خطير، وأن الأسابيع المقبلة سوف يكون لها تداعيات هامة على المنطقة والمصالح الأمريكية، عن دلالات هامة بشأن مساعي الولايات المتحدة لإنجاز اتفاق شامل وملزم بين أطراف ملف سد النهضة، ولعل هذا ما يفسر -أيضاً- إشارة البيان إلى أن واشنطن تستهدف التوصل إلى التوفيق بين احتياجات أديس أبابا التنموية ومصالح القاهرة والخرطوم.

من ناحية أخرى، أشار بيان الخارجية الأمريكية إلى أن “إثيوبيا ذات السيادة والموحدة تمثل جزء لا يتجزأ من هذه الرؤية” الأمريكية الداعمة لضمان قرن إفريقي مستقر ومزدهر ومعالجة الأزمات الإقليمية به، وهو ما يدعم الطرح الخاص بوجود تغييرات واضحة في تعاطي الإدارة الأمريكية مع القرن الإفريقي، والتي يمكن إرجاعها إلى الموقف المصري الحازم تجاه أزمة سد النهضة، فضلاً عن تماسك التحالف المصري–السوداني في مواجهة التعنت الإثيوبي، وهو ما يجعل من سيناريو الضربة العسكرية أمراً مرجحاً حال استمرت واشنطن في دعمها لموقف أديس أبابا المتعنت، مما سيؤدي إلى تداعيات كارثية تهدد وحدة إثيوبيا التي تعاني بالفعل من درجة حادة من الهشاشة الداخلية، ومن ثم الإضرار بمصالح واشنطن في المنطقة.

ماذا بعد؟:

تعاني إثيوبيا من درجة عالية من الهشاشة الداخلية في العديد من أقاليمها الفيدرالية، في ظل افتقار حكومة أديس أبابا للسيطرة على العديد من المناطق داخل حدودها، وتصاعد حالة الاستقطاب السياسي والعرقي الداخلي، ما بات ينذر بتداعيات خطيرة على تماسك الدولة ووحدتها، فضلاً عن انعكاسات ذلك على منطقة القرن الإفريقي ككل.

وفي هذا السياق، يأتي قرار حكومة “آبي أحمد” بتأجيل الانتخابات خوفاً من تأجيج مزيد من الصراعات الداخلية، خاصةً في ظل إعلان العديد من أحزاب المعارضة الرئيسية عن مقاطعتها لهذه الانتخابات وعدم ثقتها في إشراف حكومة “آبي” على عملية الاقتراع، في ظل وجود تقارير محلية ودولية تشكك في نزاهة هذا الاستحقاق، وقد عزز من هذا الطرح إعلان الإتحاد الأوروبي تراجعه عن المشاركة في مراقبة عملية التصويت.

أخيراً، يرتبط قرار الحكومة الإثيوبية بدرجة كبيرة بالتحول الراهن في الموقف الأمريكي إزاء ملف سد النهضة، حيث تسعى الولايات المتحدة بشكل حثيث لحماية وحدة وتماسك الدولة الإثيوبية، والحيلولة دون أي تطورات من شأنها تهدد استمرارية حليفاها “آبي أحمد”، ومن ثم لا يمكن استبعاد وجود تنسيق بين واشنطن وأديس أبابا بشأن تأجيل الانتخابات لحين التوصل إلى اتفاق شامل وملزم بشأن ملف سد النهضة، لضمان سلامة عملية الملء الثاني للسد، وهو ما سيعزز من فرص إعادة انتخاب “آبي أحمد”، كما سيمهد الطريق أمام فرض هيمنة الأخير –بدعم من واشنطن- على الداخل الإثيوبي، والحيلولة دون وقوع أي تداعيات كارثية في منطقة القرن الإفريقي تهدد المصالح الأمريكية.

لكن، هذا لا يعني استبعاد وجود مناورة أمريكية تستهدف بها كسب مزيد من الوقت، وتهدئة الغضب المصري والسوداني من الموقف الإثيوبي المتعنت، ومن ثم ضمان عدم قيام القاهرة والخرطوم بأي عمل تصعيدي للدفاع عن حقوقهم المائية، وربما يعزز من هذا الطرح فكرة إشارة البيان الأمريكي لبيان الإتحاد الإفريقي في يوليو 2020، وهو ما قد يحمل نوعاً من المناورة، خاصةً وأن هذه المفاوضات لم يصدر عنها بيان واحد مشترك، بل قام كل طرف بإصدار بيان منفصل، وهو ما قد يفرز مزيداً من التعقيد.

عدنان موسى

باحث في الشئون الأفريقية معيد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وباحث سياسي منذ 2013، نشر العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى