نزيف مؤلم: هل يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي الصمود في ظل التصعيد مع غزة؟
تتخذ المواجهات بين الشعب الفلسطيني والقوات الإسرائيلية منحى تصعيدياً بدأ باشتباكات في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، وانتقل هذا التصعيد إلى قطاع غزة وسط مواجهات قتالية بين الطرفين أسفرت عن وقوع عشرات القتلى أغلبهم من الجانب الفلسطيني الذي يقف بمنتهى القوة والثبات أمام الطغيان الإسرائيلي.
وبعيدا عن الأسباب السياسية للنزاع، فقد أثارت تلك المواجهات الدموية التي استهدفت فيها إسرائيل الشعب الفلسطيني الباسل، التساؤل حول طبيعة قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تحمل التكاليف الاقتصادية لهذه المواجهات، خاصة وأن إسرائيل تضررت ومازالت تضرر من انعكاسات وباء كورونا على اقتصادها.
ملامح الاقتصاد الإسرائيلي قبل كورونا:
تواجه إسرائيل قضايا اقتصادية هيكلية على المدى الطويل، أهمها انخفاض معدلات المشاركة في العمل لشرائحها الاجتماعية، حيث تتزايد البطالة بشكل كبير، حتى في قطاع التكنولوجيا التقدمي والتنافسي العالمي القائم على المعرفة في إسرائيل، فهو لا يستخدم سوى 8% تقريباً من القوى العاملة، بينما يعمل الباقي في الغالب في الصناعات التحويلية والخدمات ذات الأجور المتدنية.
كما تعانى إسرائيل من معدلات فقر مرتفعة، حيث كشفت دراسة لمركز (أدفا) للمعلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل فى مارس 2019، أن ربع العائلات في إسرائيل تعيش تحت خط الفقر،- أي أن 26.6% من المواطنين الإسرائيليين تحت خط الفقر أو بالقرب منه. يضاف إلى ذلك تراجع معدل النمو الاقتصادي لإسرائيل خاصة مع تراجع حجم الاستثمارات المنفذة بها، ودخول لاعبين جدد في مجال البحث والتطوير وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذي يتميز ويتفوق بها ناتجها المحلى، إذ بلغ معدل النمو بها نحو 47.3 % عام 2019 مقارنة بمستوى بلغ 6.5% فى عام 2010.
انعكاسات كورونا على الاقتصاد الإسرائيلي:
يعاني الاقتصاد الإسرائيلي من انعكاسات جائحة وباء كورونا، إذ تراجع معدل نمو الاقتصاد بنسبة 5.5% فى نهاية عام 2020، وهذه هي المرة الأولى في سجل الاقتصاد الإسرائيلي التي يعاني فيها من تراجع ضخم كهذا. يضاف إلى ذلك سلسلة كبيرة من التداعيات الاقتصادية التي طالت معظم القطاعات، حيث انخفضت الحركة الجوية بنسبة 98٪ في مطار بن غوريون. علاوة على ذلك، انخفض عدد مسافري شركات الطيران بنحو 1.6 مليون، وانخفض مستوى الإشغال فى الفنادق إلى 10٪ من 80٪، كما تراجع بشكل كبير قطاع السياحة فى إسرائيل، الذي يعد أحد مصادر الدخل الرئيسية للبلاد.
كما أدت الأزمة إلى زيادة الإنفاق الحكومي، وانخفاض الإيرادات، وتوسيع عجز الموازنة العامة والديون. وقد وعدت الحكومة بخطط مساعدة من أنواع مختلفة تصل إلى 135 مليار شيكل، منها 65 مليار شيكل تم توزيعها بالفعل. وقد اقترضت الحكومة 98 مليار شيكل لهذا الغرض. ووفقًا لإحصاءات بنك إسرائيل، فقد بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 78٪ بنهاية عام 2020 مقارنة بـ 60٪ في عام 2019.
كما كان هناك ما يقرب من 500 ألف شخص عاطلين عن العمل (عاطلون عن العمل، وأشخاص في إجازة غير مدفوعة الأجر، وغيرهم)،- أي ما يعادل 12 % من القوى العاملة، ومعظم العاطلين عن العمل هم في القطاع الخاص، ومن القطاعات المتأثرة بالتباعد الاجتماعي، مثل السياحة، وأعمال المطاعم، والثقافة والترفيه، والنقل، وتجار التجزئة، والشركات الصغيرة ومتناهية الصغر، حيث تم إغلاق أكثر من 70 ألف شركة صغيرة. ويوضح الشكل رقم (2) اتجاه نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي إلى الانخفاض فى نهاية عام 2020 نتيجة وباء كورونا، كذلك اتجاه معدلات البطالة نحو الارتفاع.
كما تضرر القطاع المالي والمصرفي في إسرائيل، حيث خسرت البورصة الإسرائيلية نحو 27% من قيمتها السوقية، وأفاد المكتب المركزي للإحصاء أن الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل انكمش بنسبة 2.4٪ في عام 2020، ونتج هذا الانكماش الاستثنائي عن جائحة كورونا والقيود التي فرضتها الحكومة لوقف انتشار الوباء.
نزيف مستمر نتيجة التصعيد العسكري مع فلسطين:
تكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر بملايين الدولارات جراء قصف المقاومة الفلسطينية الكثيف على المدن والمستوطنات الإسرائيلية، والذي استهدف مصالح اقتصادية وصناعية وتجارية ليضيف المزيد من الأعباء على اقتصاد إسرائيل الذي سبق وتكبد خسائر ضخمة فى مواجهات مماثلة مع الشعب الفلسطيني الباسل، فعلى سبيل المثال قدرت التكلفة الاقتصادية التراكمية للاحتلال الإسرائيلي، فقط من الإغلاق المطول والعمليات العسكرية في غزة خلال الفترة 2007-2018، بنحو 16.7 مليار دولار، وذلك وفقًا لبيانات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتستمر تلك الخسائر الاقتصادية مع استمرار المواجهات بين الطرفين.
ففي كل حرب تخوضها إسرائيل المحتلة ضد الشعب الفلسطيني تكون تكلفتها الاقتصادية من ثلاثة أنواع كالتالي: مسّ مباشر بالاقتصاد جراء فقدان نشاط اقتصادي وأيام عمل، إضافة إلى إلحاق أضرار بالأملاك العامة والأرواح كقوى بشرية، وإنفاق عسكري يشمل ذخيرة ومخزون أسلحة وتعطيل قوات الاحتياط عن العمل.
وقد أشارت تقديرات للإدارة الاقتصادية لاتحاد المصنعين الإسرائيليين إلى تخطي الأضرار المالية التي لحقت بإسرائيل جرّاء التصعيد العسكري مع حركة حماس الفلسطينية فى بداية شهر مايو 2021 إلى حاجز الـ150 مليون دولار أمريكي، وتتزايد بشكل يومي نتيجة الأضرار التي لحقت بالمؤسسات والمصانع الإسرائيلية التي قلصت أنشطتها وحجم العمالة بها، حيث فقد نحو 35% من العمال في المدن الإسرائيلية الجنوبية وظائفهم، وحوالي 10% من العمال في مدن الوسط. هذا بالإضافة إلى انخفاض أرباح المصانع وعدم قدرتها على الوفاء بمواعيد تسليم بضائعها. وتتعدد مظاهر الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية فيما يلى:-
(*) ارتفاع تكلفة النشاط العسكري إلى 200 مليون دولار حتى تاريخه. فإذا أخذنا بالاعتبار أن كل صاروخ للقبة الحديدية يكلف 50 ألف دولار وكل طلعة جوية للطائرات الحربية تكلف 100 ألف دولار، وكل صاروخ يقصف نحو غزة 30 ألف دولار، فإن الحرب حتى الآن تكلفت نحو نصف مليار دولار. بينما تقدر تكلفة غارة واحدة لسلاح الجو الإسرائيلي بعشرات الآلاف من الدولارات، وقد تم بالفعل تنفيذ مئات الغارات، الأمر الذي يرفع من فاتورة الخسائر الإسرائيلية والضغوط على الموازنة العامة الإسرائيلية التي هى بالفعل منهكة.
(*) الخسائر بالممتلكات العامة والخاصة، حيث تضرر أكثر من 2500 مبنى سكنى فى إسرائيل نتيجة إطلاق الصواريخ الفلسطينية، كما أصيبت منطقة صناعية بالقرب من عسقلان بصاروخ من غزة، مما ألحق أضرار بهريج تخزين تابع لشركة مملوكة للحكومة تدير شبكة من خطوط أنابيب نقل الوقود. هذا بالإضافة إلى أن نحو 150 صاروخاً تجاوزت رادارات القبة الحديدية وسقطت في مدن وقرى إسرائيلية في مناطق مأهولة، تمتد من شمال مرج ابن عامر في الشمال، وحتى القدس وبئر السبع شرقاً، وتل أبيب ومنطقتها، إضافة إلى البلدات المحيطة والقريبة بقطاع غزة، مثل مدينتي أسدود وأشكلون الكبيرتين ومدينة سدروت الصغيرة، التي أحدثت هلعاً بين المواطنين، وتركت هدماً ودماراً في نحو 200 بيت ومبنى وفرضت على أكثر من 4 ملايين مواطن إمضاء ساعات طويلة في الملاجئ.
(*) تعطيل مصادر الطاقة فى إسرائيل، حيث أغلقت شركة شيفرون الأمريكية للطاقة منصة تمار للغاز الطبيعي قبالة ساحل إسرائيل في شرق البحر المتوسط بناء على تعليمات من وزارة الطاقة الإسرائيلية، وذلك بعد أن أعلنت فصائل المقاومة الفلسطينية استهداف منصات الغاز الإسرائيلية بابحر برشقات صاروخية، وهو ما يعتبر مساسا بسوق الطاقة الإسرائيلي. ويكلف إغلاق منصة تمار للغاز الطبيعي الجانب الإسرائيلي 5 مليون دولار يوميا، حيث أن منصة تمار تعود بدخل قيمته 1.8 مليار دولار سنويًّا على إسرائيل مع استخراج 8.2 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
(*) أضرار قطاع الطيران الإسرائيلي، حيث قامت عدة شركات طيران بتعليق رحلاتها من وإلى إسرائيل، وقررت شركات الطيران الأمريكية إلغاء الرحلات المباشرة المخطط لها بين الجانبين، كذلك فعلت خطوط الطيران النمساوية والبريطانية. كما نبهت الوكالة الأوروبية لسلامة الطيران الشركات إلى ضرورة مراقبة العنف المتصاعد في إسرائيل، بما في ذلك تبادل إطلاق الصواريخ والضربات الجوية.
(*) تراجع الطلب واضطراب حركة الأسواق، حيث أن الوضع الأمني المضطرب ضرب بشكل كبير مراكز التسوق والمجمعات التجارية التى أصبحت فى حالة يرثى لها، كما فرغت المطاعم والملاهي الليلية فى تل أبيب من الأشخاص بشكل كامل تقريبا؛ بسبب تصعيد التوتر بين الجانبين وإطلاق الصواريخ، حيث تراجعت القيمة اليومية للمشتريات بنحو 300 مليون دولار بنسبة 14%.
(*) موجة من التضخم وارتفاع الأسعار فى السوق، ليشمل جميع السلع والخدمات، حيث يؤدي الارتفاع غير الطبيعي فى الأسعار مع استمرار الحرب على غزة لفترة طويلة إلى ضعف القوى الشرائية للعملة الإسرائيلية، وانخفاض فرص العمل والنمو.
(*) تراجع الاستثمارات، حيث أن هناك مخاوف بأن استمرار الحرب على غزة لأيام طويلة من شأنه أن يؤدي لتراجع الاستثمار في الاقتصاد الإسرائيلي في المستقبل القريب، خاصة مع العلاقات المتوترة بين الكثير من الدول كذلك العرب وإسرائيل.
(*) انخفاض وتراجع غير مسبوق للمعاملات التجارية والاقتصادية في سوق المال والبورصة والمصارف الإسرائيلية، فيما سجلت العملة الإسرائيلية (شيكل) انخفاضا قبالة الدولار بنسبة 1.4%؛ وتعود أسباب التراجع إلى التخوف من استمرار الحملة العسكرية والتصعيد على جبهة غزة، خاصة بعد أن حذرت وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية، من أن العنف المتصاعد بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قطاع غزة قد يكون له أثر سلبي على التصنيف السيادي لإسرائيل ليصل إلى تصنيف سلبى، وذلك بعد أن كانت فيتش قد أكدت في يناير 2021 تصنيف إسرائيل عند A+، لكنها تراجعت مرة أخرى مؤكدة على أن المخاطر السياسية والأمنية سيكون لها تأثير خطير وطويل الأمد على الاقتصاد يمكن أن يكون دافعا “لتصنيف سلبي”.
وخلاصة القول ما سبق، يتضح أن الاقتصاد الإسرائيلي الذى يقف داعما للتصعيدات السياسية والأمنية مع فلسطين، ما هو إلا اقتصاد ينتابه العديد من جوانب القصور والمشكلات، التى لم تظهر فقط مع تفشى تداعيات وباء كورونا على اقتصادات العالم، بل كان بعضها يعود لفترة ما قبل كورونا. ومع صمود الشعب الفلسطيني ومواجهته القوية للطغيان والاعتداء الإسرائيلي على غزة، فقد أصاب إسرائيل فى قلب اقتصادها لينزف المزيد من الخسائر واحدة تلو الأخرى، الأمر الذي من شأنه أضعاف الكيان الإسرائيلي مع الوقت، ومناصرة الشعب الفلسطيني المناضل الحر.