نمط مألوف: ما هي دلالات موقف “بايدن” من التصعيد الإسرائيلي على غزة؟  

تجاهلت إدارة بايدن منذ توليها الرئاسة ملف عملية السلام ومستقبل القضية الفلسطينية في مقابل تركيزها على ملف التفاوض مع إيران وإنهاء حرب اليمن، ولكن تصدرت الآن القضية الفلسطينية أجندة السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة، في ضوء التصعيد الحاد بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية منذ بداية شهر مايو الجاري وتزايد عدد القتلى، على أثر اندلاع اشتباكات في منطقة الحرم القدسي الشريف وحي الشيخ جراح في القدس، الأمر الذي أجبر بايدن على بدء جهد دبلوماسي بهدف إعادة الهدوء إلى المنطقة وحث الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي علي ضبط النفس، وذلك وسط ضغط كبير على بايدن للتحرك ليس فقط من قبل الجمهوريين المؤيدين لإسرائيل، ولكن أيضًا من الجناح اليساري داخل حزبه الديمقراطي المعارض لموقفه الداعم لإسرائيل.

 وفي سياق ما سبق، يحاول هذا التحليل تسليط الضوء على أبرز محطات التصعيد بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي منذ اندلاع المواجهات، وموقف واشنطن الداعم للتحركات الإسرائيلية ومؤشرات هذا الدعم.

أشتباكات دموية واعتداءات مستمرة:

تفجرت المواجهات بين الفلسطينين والجيش الإسرائيلي منذ أسبوع تقريباً، ثم اشتعلت لتنتقل إلى قطاع غزة مع الفصائل الفلسطينية المسلحة، ويمكن تتبع التصعيد بين الجانبين على النحو التالي:

(*) موجة احتجاجات فلسطينية: نظم عشرات الفلسطينيين خلال شهر رمضان فعاليات في حي الشيخ جراح تحذر من “التطهير العرقي”، وذلك بعد قرار المحكمة المركزية بطرد عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح التي تقيم فيها منذ العام 1956، كما شاب التوتر أجواء المدينة المقدسة خلال شهر رمضان، حيث استعملت الشرطة الإسرائيلية القوة لتفريق المحتجين، وتوسعت المواجهات إلى باحات المسجد الأقصى، قبل أن تنتقل شرارة الاحتجاجات إلى قطاع غزة، بل وشملت أيضا بلدات عربية داخل إسرائيل.

(*) تصعيد حاد: ارتفعت حدة القتال بين إسرائيل وحركة حماس منذ يوم الثلاثاء 11 يونيو، حيث شنت إسرائيل مئات الضربات الجوية على غزة في الساعات الأولى من صباح الأربعاء، بينما أطلقت حركة حماس وغيرها من الفصائل المسلحة الفلسطينية وابلا من الصواريخ على تل أبيب وبئر سبع جنوب اسرائيل، بعد تدمير مبنى من 12 طبقة في وسط غزة، يضم مكاتب لمسؤولين في حماس.

(*) استهداف وكالات الأنباء: دمرت غارة إسرائيلية، السبت 15 يونيو، برج “الجلاء” في قطاع غزة، الذي يضم مكاتب وكالة أسوشيتيد برس، وقناة الجزيرة الإخبارية القطرية، ومكاتب شبكات تليفزيونية عالمية أخرى وشققا سكنية، بعد أن أعطت مهلة لإخلائه قبيل تدميره، على غرار الغارة التي استهدفت برج “الشروق” قبل أيام، وجاءت الغارة التي استهدفت برج الجلاء، الذي هددت إسرائيل بتدميره سابقا، بعد سقوط مجموعة من الصواريخ التي أطلقت من غزة، على مناطق متفرقة بإسرائيل، مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة آخرين.

(*) ارتفاع حصيلة القتلى: أعلنت وزارة الصحة في غزة ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين منذ يوم الاثنين10 يونيو إلى 137 من بينهم 31 طفلا و20 سيدة، فضلا عن 950 إصابة بجراح مختلفة، بينما على الجانب الآخر قالت السلطات الإسرائيلية إن ثمانية إسرائيليين لقوا حتفهم جراء قصف البلدات الإسرائيلية من بينهم جندي، وقال الجيش الإسرائيلي إنه تم إطلاق أكثر من ألفي صاروخ على الأراضي الإسرائيلية منذ يوم الاثنين.

ملامح الموقف الأمريكي:

على الرغم من دعوة بايدن إلى تخفيض التصعيد بين الجانبين ومحاولات فرض التهدئة، إلا انه لم يتمكن من إخفاء دعمه الصريح للحكومة الإسرائيلية، ويمكن استنباط مؤشرات هذا الدعم على النحو التالي:-

(&) استجابة متأخرة:  تحدث جو بايدن لأول مرة منذ اندلاع المواجهات مساء الأربعاء 12 مايو، وذلك رداً على سؤال من الصحفيين بعد حديثه عن خطة توزيع اللقاحات، حيث أشار إلى تواصله مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أجل إنهاء الأعمال العدائية وتأكيده على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ولم يذكر الفلسطينين في تصريحاته، كما أجرى  يوم السبت 15 مايو مكالمة هاتفية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس وشدد على ضرورة توقف حماس عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل.

(&) تحرك دبلوماسي أمريكي: وصل نائب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الاسرائيلية والفلسطينية “هادي عمرو” إلى تل أبيب يوم الجمعة 14 مايو الجاري لعقد اجتماعات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين في إسرائيل والضفة الغربية، وتأتي زيارة عمرو بعد مكالمات هاتفية من وزير الخارجية أنتوني بلينكين لنتنياهو، وكذلك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، كما تحدث مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” إلى نظيريه الإسرائيلي والمصري.

(&) عرقلة مساعي مجلس الأمن: قامت واشنطن يوم الأربعاء 12 يونيو بتعطيل تبني إعلان مشترك في مجلس الأمن الدولي حول التصعيد في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين، وقد سبق أن رفضت الولايات المتحدة الاثنين 10 يونيو خلال أول اجتماع طارئ، تبني نص مشترك اقترحته تونس والنرويج والصين يدعو الطرفين إلى تجنب أي استفزاز، كما أنها لم توافق على عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن يوم الجمعة 14 مايو.

(&) حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها: أكد البيت الأبيض في بيان يوم الثلاثاء 11 مايو إن لإسرائيل الحق المشروع في الدفاع عن نفسها في مواجهة الهجمات الصاروخية التي تشنها حركة “حماس”، كما أضافت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي أن الولايات المتحدة تدين الهجمات الصاروخية التي تشنها “حماس” وجماعات أخرى، بما في ذلك الهجمات على القدس، وأن دعم الرئيس بايدن لأمن إسرائيل وحقها المشروع في الدفاع عن نفسها وشعبها أساسي لن يتراجع أبداً.

سجل بايدن إزاء الصراع العربي- الاسرائيلي:

تشير الخبرة السياسية المبكرة لبايدن كسادس أصغر سيناتور في تاريخ الولايات المتحدة منذ عام 1973، إلى تبنيه موقف ثابت وداعم يهدف إلى ضمان أمن إسرائيل، ويمكن رصد سلوكه السياسي تجاه القضية الفلسطينية، على النحو التالي:

  • بداية مسيرته السياسية: كان بايدن من أبزر الأعضاء المؤيدين لإسرائيل داخل الحزب خلال عضويته في مجلس الشيوخ الأميركي عن الحزب الديمقراطي في الفترة 1973 – 2009، وتوج ذلك بأول رحلة خارجية إلى إسرائيل عام 1973 للقاء رئيسة الوزراء الإسرائيلية انذاك غولدا مائير، كذلك خلال رئاسته لجنة العلاقات الخارجية في المجلس في الفترة 2007 – 2009، حرص على التشديد بشكل متكرر على أهمية وجود إسرائيل في المنطقة العربية، من أجل حماية المصالح الأميركية وحماية أمن اليهود في العالم.
  • دعم المجتمع اليهودي: تعطي خطة بايدن بعنوان “بايدن والجالية اليهودية: سجل وخطة صداقة ودعم وعمل” التي صرح عنها أثناء حملته الانتخابية مؤشر حول طبيعة علاقة بايدن بإسرائيل، ففي هذا الخطة شدد بايدن على تضامنه مع إسرائيل، ومحاربة معاداة السامية، والقتال من أجل ركائز العدالة الاجتماعية، والتزامه بضمان حصول الدولة اليهودية والشعب اليهودي والقيم اليهودية على دعم غير محدود من الولايات المتحدة. كما أشار بايدن إلى دوره المهم في خدمة إسرائيل، حيث قاتل في مجلس الشيوخ من أجل حصول إسرائيل على أكبر قدر من المساعدات واصفًا ذلك بأنه “أفضل استثمار بقيمة 3 مليارات دولار”، كما عارض مبيعات الأسلحة لعدد من الدول، بالإضافة إلى ذلك خلال إدارة أوباما بصفته نائب للرئيس، ساعد في ضمان الدعم الثابت لأمن إسرائيل، حيث كان من المدافعين الرئيسيين عن تأمين الدعم التقني العسكري المتقدم لإسرائيل مثل نظام القبة الحديدية، وصواريخ دايفيدز سلينج، وأنظمة أرو 3 المضادة للصواريخ.

كما ساعد بايدن أيضاً في صياغة مذكرة تفاهم غيرمسبوقة بقيمة 38 مليار دولار ومدتها عشر سنوات للمساعدة الدفاعية لإسرائيل تم توقيعها في عام 2016، وهي أكبر حزمة مساعدات عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة، إلى جانب ذلك قاد جهودًا حثيثة لمعارضة نزع الشرعية عن إسرائيل، سواء في المنظمات الدولية أو من خلال حركة المقاطعة داخل الولايات المتحدة التي تشمل سحب الاستثمارات وفرض العقوبات The Boycott, Divestment, Sanctions (BDS) movement.

  • بعد تولي رئاسة الولايات المتحدة: جاء بايدن إلى الرئاسة دون طرح آلية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر منذ عقود، حيث تعهد بدعم حل الدولتين ومعارضة سياسة ضم الأراضي وبناء المستوطنات، وانعكس ذلك أيضاً في خيارات التعيينات، فالمسئول الرئيسي عن الملف هو نائب مساعد وزير الخارجية، كما انه لم يعين مبعوثًا خاصًا للمساعدة في إطلاق محادثات السلام، ولم يختار سفيراً في إسرائيل حتى الآن، كما أكد أنه لن يتراجع عن قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وذلك انطلاقاً من رغبة بايدن في تركيز الأمن القومي الأمريكي بشكل أكبر على مواجهة الصين واعتقاده هو وفريقه أنه لا الإسرائيليين ولا الفلسطينيين في وضع يسمح لهم بالتفاوض على أي حال.

معارضة داخلية شديدة:  

واجه بايدن ضغوطًا داخلية بشأن كيفية الاستجابة حيال تصاعد الصراع الدموي بين إسرائيل وحماس، على النحو التالي:-    

  • انقسام ديمقراطي: أدان عدد كبير من المشرعين الديمقراطيين من الجناح التقدمي الهجمات الإسرائيلية على حماس في قطاع غزة، على سبيل المثال، وصفت النائبة إلهان عمر الضربات الجوية الإسرائيلية على غزة بأنها “عمل إرهابي” في تغريدة يوم الإثنين واتهمت بايدن “بالوقوف إلى جانب احتلال قمعي” في تغريدة أخرى يوم الأربعاء، كما دعا أعضاء آخرون في الكونجرس إلى ضرورة تغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه الدولة اليهودية، ففي حديثها من قاعة مجلس النواب يوم الخميس، قالت النائبة أيانا برسلي “لا يمكننا أن نبقى صامتين عندما ترسل حكومتنا 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية لإسرائيل والتي تُستخدم لهدم منازل الفلسطينيين، وسجن الأطفال الفلسطينيين، وتهجير العائلات الفلسطينية. كما دعت النائبة رشيدة طليب وهي من أصل فلسطيني، الكونجرس إلى اشتراط المساعدة التي ترسل إلى إسرائيل وإنهائها تمامًا إذا لم يتم اتباع هذه الشروط، بينما على الجانب الأخر تمتلك إسرائيل نصيبها العادل من الحلفاء الديمقراطيين البارزين، على سبيل المثال غرد رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السناتور روبرت مينينديز، قائلاً “إن وابل الهجمات الصاروخية من حماس هو إرهاب ولا ينبغي لأي دولة أن تتحمل هذا النوع من التهديد ضد سكانها، وهذه الأعمال تهدد سلامة وأمن الإسرائيليين والفلسطينيين”، كما وصف السناتور مارك كيلي الهجمات الصاروخية بأنها “غير مقبولة، و يجب التأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها لأنها أكبر شريك للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
  • موقف جمهوري ثابت وداعم لإسرائيل: حث جميع أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين بايدن على دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وضرورة الإنهاء الفوري للمفاوضات مع إيران بشأن تخفيف العقوبات الاقتصادية المرتبطة بالمحادثات بسبب دعم طهران النشاط الإرهابي لحركة حماس ضد إسرائيل، على سبيل المثال أكدت رئيسة اللجنة الوطنية الجمهورية رونا مكدانيل في بيان إن “الحزب الجمهوري يقف إلى جانب إسرائيل، وهي دولة لها كل الحق في الدفاع عن نفسها ضد عنف حماس”. كما وجه 44 من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين رسالة إلى بايدن قائلين “خلال اليومين الماضيين شن الإرهابيون الفلسطينيون في غزة الذين تمولهم إيران سلسلة من الهجمات الصاروخية على إسرائيل، وهم يستهدفون المدنيين والمدن الإسرائيلية، بما في ذلك القدس عاصمة إسرائيل، وفي ضوء هذه الهجمات الأخيرة التي شنتها حماس ضد إسرائيل، يتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ جميع الخطوات اللازمة لمحاسبة طهران، وألا تخفف العقوبات عن إيران تحت أي ظرف من الظروف”.
  • ترامب يهاجم بايدن: حاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب استغلال التصعيد الأخير للهجوم علي الرئيس الحالي جو بايدن، مؤكداً على أن ضعف بايدن وعدم دعمه لإسرائيل أدى إلى مزيد من الهجمات علي حلفاء الولايات المتحدة.

خلاصة القول، يبدو أن جهود واشنطن للتوسط بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني تفتقر إلى المصداقية، لاسيما في ظل التفويض المطلق الذي تمنحه لإسرائيل للرد على هجمات حماس فتصريحات بايدن بمثابة ضوء أخر لاستمرار دفاع إسرائيل عن نفسها، وفي سياق ذلك تواصلت إدارة بايدن مع عدد من دول المنطقة من أجل ممارسة نفوذها على حركة حماس لوقف العنف فقد دعت مصر وتونس وقطر للمساعدة في إعادة الهدوء في الشرق الأوسط، لكن حتى الآن لم تحرز محاولات الوساطة الإقليمية والدولية أي تقدم، كما يبدو أن احتمال الوصول إلى هدنة مسألة بعيدة المنال خاصة في ظل النفوذ المحدود الذي تمارسه السلطة الفلسطينية على غزة في مقابل نفوذ حركة حماس التي ترى التصعيد مع إسرائيل فرصة لتهميش محمود عباس وتقديم نفسها على أنها المدافع الوحيد عن الفلسطينيين.

 

 

 

سلمى العليمي

باحثة متخصصة بالشؤون الأمريكية، الرئيس السابق لبرنامج الدراسات الأمريكية، باحث ماجستير في العلوم السياسية، حاصلة على بكالوريوس العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ودبلومة في الدراسات العربية، دبلومة من الجامعة الأمريكية في إدارة الموارد البشرية، نشرت العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة في الشأن الأمريكي والعلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى