تقييم من منظور الإدراك الاستراتيجي.. واقع العلاقات الصينية الأمريكية في عهد “بايدن”
دخلت العلاقات الصينية الأمريكية الحالية بلا شك في حقبة من المنافسة الكاملة، وإن كانت لا تزال في المرحلة الأولى. فقد تحول دور الصين من مشارك إلى صانع للقواعد، فهي تسعى دائما إلى تأكيد هذا الدور وتغيير قواعد النظام الدولي، وتعزيز مكانتها في المنظمات الدولية، وتشكيل قواعد مختلطة بين الاشتراكية ذات الخصائص الصينية والليبرالية الغربية.
وترى الصين أن استراتيجية الولايات المتحدة تجاه بكين منذ ترامب وإلى الآن تتركز على “أربعة”: الانقسام بين الحزب الشيوعي الصيني والشعب الصيني، والانقسام الداخلي بين قيادات الحزب الشيوعي الصيني، والانقسام بين قومية الهان والأقليات العرقية، والانقسام بين الشعب الصيني في الصين( البر الرئيسي) و(الشعب الصيني في هونغ كونغ وماكاو وتايوان والصينيون المغتربون). وتحاول الولايات المتحدة من خلال هذه الاستراتيجية تقسيم الصين من الداخل واحتوائها من الخارج.
وبناءاً على هذه الاستراتيجية ومركزاتها الأربعة، كيف يمكن تقييم العلاقات الصينية الأمريكية في عهد الإدارة الأمريكية الحالية؟.
حقبة جديدة من التنافس الشامل ( تعاون، منافسة، مواجهة وصراع):
دخلت الصين والولايات المتحدة حقبة من المنافسة الشامل، والتي تشمل أربعة جوانب، هي: التعاون، والمنافسة، والمواجهة، والصراع. وتحاول الولايات المتحدة منع الصين من أن تصبح قوة بحرية حقيقية عن طريق تعزيز علاقاتها مع دول المحيطين الهندي والهادئ واستخدام قضية بحر الصين الجنوبي لاحتواء الصين كقوة بحرية، ودول الشرق الأوسط من خلال استفزازها أقلية الإغور المسلمة في الصين.
كما أصحبت قضية تايوان الفتيل الذي أشعل الحرب الصينية الأمريكية بعد أن دعمت الولايات المتحدة علانية استقلال تايوان، وأصبحت قضية تايوان القضية الأكثر حساسية وشائكة في العلاقات الصينية الأمريكية. فقد بدأت الولايات المتحدة في الدخول في “ما بعد كيسنجر”، والذي يهدف إلى تحويل العالم إلى مثلث ” أمريكي- صيني – روسي”. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعتبر روسيا تهديدًا، إلا أن وضعها الداخلي يجعلها لا تشكيل تهديدا لمصالح الولايات المتحدة على نطاق عالمي، فالصين الأن هي التي تملك القوة لتشكيل تهديدا حقيقيا للولايات المتحدة. وتتمثل فكرة “ما بعد كيسنجر” في استبدال روسيا بالهند، وتشكيل مثلث “والولايات المتحدة والصين والهند”. بالإضافة إلى ذلك، إذا أرادت الولايات المتحدة الدخول في حرب باردة مع الصين، فهي بحاجة إلى نقطة انطلاق جديدة. فعلى سبيل المثال، خلال الحرب الباردة، ركزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على الأسلحة النووية والفضاء، والآن تركز على الذكاء الاصطناعي، وخاصة عسكرة الذكاء الاصطناعي.
لذلك، ستبدأ الصين أيضا التكيف مع “ما بعد كيسنجر”، وليس التمسك بالفكر القديم للعلاقات الصينية الأمريكي، ولكن سيكون هناك أيضًا انتباه حذر للهند. فالهند هي مفتاح العلاقة بين الولايات المتحدة والمحيط الهادئ، وقد أصبحت جزءًا من نظام الأمن الأمريكي مع اليابان وأستراليا، وبمجرد أن تصبح الهند مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة، سيتم فرض حصار بحري على الصين. بل ستسعى بكين أيضا لكبح انتهاك الهند للمصالح الجوهرية لها بشكل لا يجعلها تقع في صراع لا نهاية له. أما قضية تايوان، فالصين تعتبرها ليست سوى تحدٍ قصير المدى، في حين أن بحر الصين الجنوبي يمثل التحدي طويل الأمد.
الجمود الاستراتيجي:
هناك اختلاف بين مفهومان انحدار الهيمنة الأمريكية وانحدار الولايات المتحدة، فالهيمنة تشير إلى قيادتها ونفوذها وقدرتها على تشكيل العالم .لذلك، ستكون استراتيجية الهيمنة الأمريكية مرحلة هبوط خلال الثلاثين عامًا القادمة- أي من ٢٠٢٠ إلى ٢٠٥٠، بينما ستكون الصين في مرحلة الصعود من ٢٠٢٠ إلى ٢٠٥٠. والسمة الأساسية للسنوات الثلاثين القادمة هي “الموازية لأعلى و لأسفل “، وسيحدد الوضع في السنوات العشر القادمة الثلاثين عاما القادمة.
في هذه الحالة، تتشكل علاقة المنافسة والتعاون الاستراتيجية، ويخضع التعاون للمنافسة، وأحيانًا المنافسة للمواجهة. ومن منظور توازن القوى بين الصين والولايات المتحدة، فإن قوة الولايات المتحدة في تراجع، لكنها بشكل عام أقوى من الصين- أي أنها أقوى من الصين في حالة الانحدار، والصين أضعف من الولايات المتحدة في مرحلة الصعود.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تتفوق بقوة في المجالات الثلاثة: العلوم والتكنولوجيا والقوة العسكرية والقوة الناعمة، إلا أنها تعاني أيضًا من نقاط ضعف تحتاج للوقت والجهد الكبير للتغلب عليها، وهي: أولاً، الدين يحد من قدرة الولايات المتحدة على الهيمنة العالمية، حيث تجاوز الدين الجاري 120٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وبعد الوباء إلى 130٪، وقد يصل إلى 150٪ في العام أو العامين القادمين. والثاني، هو الانقسامات المختلفة داخل الولايات المتحدة، بما في ذلك العرق، والدين، والغني والفقير، والانتماء الحزبي، وبين الفيدرالية والدولة، وغيرها. وربما هذه الانقسام ستزداد في المستقبل وتظهر بشكل واضح، ناهيك عن أن قدرة أو تأثير الولايات المتحدة لم يعد قوى على قيادة الحلفاء أو الشركاء.
وقد تكون هذه الأسباب، هي من دفعت واشنطن لشن حرب باردة واسعة النطاق أو حتى حرب ساخنة ضد الصين. في الوقت نفسه، تمتلك الصين أيضًا جوانب يصعب احتوائها، مثل مزايا السوق ومزايا البنية التحتية للتصنيع ومزايا النظام الوطني تحت قيادة الحزب الشيوعي المتماسكة.لذلك، في السنوات العشر المقبلة، وقد تواجه الصين قيودًا على التكنولوجيا والقواعد للتحالف المناهض للصين، ورفض في مجال العملة أو نظام المقاصة، وربط القضايا الساخنة مع دول الجوار لتهديد حدود الصين، واستغلال الأزمات الداخلية العرقية لإثارة الاضطرابات وقضية تايوان والعديد من الأزمات والتحديات الكبرى الأخرى.
ولكن يجادل بعض خبراء الصين مثل تشو فينغ وتشينغ يونغ نان، وغيرهم بأن الصين تمتلك أيضا بعض الأدوات القوية لتقييد هذه التحديات الكبرى، مثل يعزز السوق الصيني بشكل كبير قدرتها على قيادة الاقتصاد العالمي؛ بما يساهم “الحزام والطريق” في تحويل وإعادة تشكيل السلاسل الصناعية التوريد ورأس المال في العالم؛ قد يخضع النظام النقدي العالمي لتعديلات كبيرة ، وستستمر قيمة الدولار الأمريكي في الانخفاض؛ تواصل الصين الاستثمار بشكل كبير في العنصر البشري لتطوير جيل يمتلك الذكاء الاصطناعي؛ واخيرا تتطلع الصين اعتمادا على قوتها في توحيد البلاد (الصين وتايوان) في المستقبل القريب.
من منظور تاريخي:
سيواجه صعود الصين حتماً العديد من التحديات الخارجية، والمنافسة الاستراتيجية الشاملة بين الصين والولايات المتحدة أمر لا مفر منه. بالمقارنة مع حقبة ترامب، شهدت العلاقات الصينية الأمريكية في عهد بايدن تغيرًا نوعيًا، فقد أغلق الاقتصاد والتكنولوجيا والسوق أمام الصين، وقمع الصين سياسيًا بطريقة شاملة، واحتواء الصين استراتيجيًا بشكل عميق.
فلا تزال الصين في المرحلة الأولى كما ذكرت مسبقا في المنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وما زالت واشنطن تتعامل مع الصين على هذا الأساس، إلا أنها ستنفذ سياسات القوى لاحقًا. لا يمكن الافتراض ببساطة أن عودة الصين والولايات المتحدة الآن إلى مسار التعاون يمكن أن تحسن العلاقات الصينية الأمريكية بشكل فعال .فعلى الرغم من التحديات الداخلية غير مسبوقة التي تواجها الولايات المتحدة غير مسبوقة، إلا أن منطق العلاقات الدولية ينطلق من مبدأ أنه كلما زادت المشكلات الداخلية للولايات المتحدة، كلما كانت أكثر شراسة الصين لأنها تعتبر أقرب ميزان قوى للولايات المتحدة بين جميع دول العالم.
ففي ظل الوضع الجديد للمنافسة الاستراتيجية الشاملة، وبالنظر إلى صعود القوى العظمى في العالم خلال الخمسمائة عام الماضية، فإنه كان بمثابة مد وجزر، ولم تتمكن سوى عدد قليل من البلدان الكبرى في الصعود. وكان صعودها يعتمد بشكل أساسي على التقدم التكنولوجي وتطوير التصنيع. وبالنظر إلى وضع الصين في هذين المجالين، فلا تزال بكين بعيدة أو في المستوى الأدنى ولا يمكنها تحقيق الصعود إلا من خلال الانتقال إلى المستوى الأعلى. كما تحاول الولايات المتحدة الآن قمع الصين في المستوى المتوسط والمنخفض وإعادة فتح فجوة القوة مع الولايات المتحدة لضمان الهيمنة العالمية. ما إذا كان يمكن للابتكار التكنولوجي والتصنيع عالي الدقة في الصين التحرك نحو نهاية المستوى المتوسط والاقتراب إلىالمستوى العالي، هو جوهر المنافسة الاستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة اليوم. ويجادل بعض الخبراء بأن بكين إذا فشلت في الوصول لهذا المستوى فإنها ستصبح مثل أمريكا اللاتينية، بمجرد أن تصبح الصين مثل أمريكا اللاتينية، فإنها لن تكون بعيدة عن كوريا الشمالية والاتحاد السوفيتي.
وأخيرا، تكمن طبيعة المنافسة بين القوى الكبرى في الإدراك القوي بالضيق الاستراتيجي، فلم تكن تنمية الصين سهلة، كما أنها تمر بمرحلة انتقالية تاريخية غير مسبوقة، والتفكير المحلي الحالي حول العالم مليء بالمشاعر القومية المقلقة.
كما أن العلاقات الصينية الأمريكية معقدة للغاية وتشمل أيضا جوانب تعاون لا بد منها، وهي تحويل نظام الطاقة لتغير المناخ. تعد الطاقة نقطة انطلاق مهمة للغاية للتعاون الصيني الأمريكي وتحسين العلاقات في المستقبل من المنظور النظام الحاكم في الصين، وتسعى الولايات المتحدة الضغط على الصين بشأن هذه القضية، لذا ستواصل الحكومة الصينية تقييم العلاقة بين الإدارة البيئية والتنمية الاقتصادية. كما أن بكين تدرك جيدا أن هناك إجماع من الجمهورين والديمقراطيين على أن الصين المنافس والتهديد الأول لأمريكا، ولا ننسى أن طائرات الاستطلاع الأمريكية دخلت الأجواء التايوانية عدة مرات، لأنها النواة الاستراتيجية المهمة للصين، وبمجرد ضربها، سيتم تقليل ردع الصين. وبالتالي مواجهة الجانبين سيكون لها تأثير كبير على الصين.