السكك الحديدية وإعادة الهيكلة
عبدالفتاح الجبالي
أثارت سلسلة حوادث القطارات الأخيرة وما أعقبها من تداعيات العديد من النقاشات والتساؤلات تدور جميعها فى البحث عن نهاية لهذه الكوارث التى أصبحت تحدث بشكل متكرر وبمعدلات آخذة فى التزايد، رغم جهود الإصلاح المبذولة. وللأسف فإنه، فى كل مرة، كان العلاج يقتصر على بعض الجوانب الجزئية والمؤقتة المتعلقة بالموضوع ونقصد بها إقالة رئيس هيئة السكك الحديدية وضبط بعض الأمور على المستوى الأمني، ولكن مؤخرا أعلن وزير النقل الفريق كامل الوزير فى كلمته أمام البرلمان المصرى، أنه قد تم وضع خطة شاملة للنهوض بالمرفق وإحداث نقلة نوعية فى مستوى الخدمة من خلال تطوير كافة عناصر المنظومة الحالية التى تصل أطوال شبكتها إلى 10 آلاف كم طولي بالتوازى مع إنشاء شبكة من خطوط القطار الكهربائى السريع وربطهما معاً وترتكز علي خمسة محاور رئيسية (الوحدات المتحركة )جرارات–عربات)-البنية الأساسية(السكة – المحطات – المزلقانا) وسائل السيطرة علي مسير القطارات (كهربة الإشارات) – تطوير الورش- تطوير العنصر البشري والارتقاء به).
وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوات وضرورتها إلا أنها لا تعالج مكمن الخلل الرئيسي الذي يسبب هذه الكوارث. ونقصد بذلك تحديدا أوضاع هيئة السكك الحديدية باعتبارها إحدى الهيئات التي ينظم إدارتها القانون رقم 152 لسنة 1980 .
وجدير بالذكر أن مرفق السكك الحديدية يعد الشريان الحيوي الثاني لمصر بعد نهر النيل ويأتى في الأهمية قبل قناة السويس، فإذا كانت الثانية تعد مصدرا للدخل من العملات الأجنبية فإن السكك الحديدية تعد شريان حياة للمصريين. هذا مع ملاحظة أنها تعد ثاني أقدم سكك حديدية فى العالم إذ بدأ العمل بها فى عام 1851. وعلى الرغم من هذه الأهمية إلا أنها لم تحظ بعد بالاهتمام الواجب أن تحظى به. إذ يجب أن يأتى فى أولى أولويات المجتمع، وينبغي أن تنشغل به كافة المؤسسات والهيئات والمنظمات الحكومية والأهلية.
وتعانى هيئة السكك الحديدية من عدة إختلالات أساسية تبرز فى إختلالات في اقتصاديات تشغيلها ومراكزها المالية وهو ما يتمثل فى اختلال التوازن بين التكاليف والأسعار وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات فلا تزال الهيئة غير قادرة على تغطية مصروفاتها الجارية من إيراداتها الجارية، حيث بلغت تكلفة النشاط نحو 5.2 مليار جنيه مقابل إيرادات النشاط بنحو 2.8 مليار وفقا لختامى 2019/2020 ما أدى الى ارتفاع خسارة النشاط الى 2.3 مليار جنيه، ولذلك ارتفعت الخسائر السنوية الى 12.7 مليار جنيه عام 2019/2020. الأمر الذي أدى إلى ازدياد العجز المرحل سنويا حيث وصل الى 79.3 مليار جنيه فى نهاية يونيو 2020. وترتب على ذلك ارتفاع المديونية المستحقة عليها وزيادة كبيرة فى السحب على المكشوف من الجهاز المصرفى. ناهيك عن تآكل الأصول الحقيقية وإرتفاع قيمة مصاريف الصيانة وتهالك وتقادم أسطول العربات وتناقص حركة البضائع عبر السكك الحديدية، يضاف إلى ذلك عدم الاستغلال الأمثل لما تملكه الهيئة من أصول، بل وتعرضها للسرقة، وبلغت قيمة ما تم حصره حتى نهاية يونيه 2020 نحو 3.329 مليون جنيه، والتعدي على الأراضي المملوكة لها فوصلت المساحة المتعدى عليها نحو 1.227 مليون متر مربع، يضاف الى ذلك عدم تحصيل المديونيات المستحقة لها على الغير، مع تحميل الهيئة بالعديد من الأعباء الإضافية. وكلها أمور لا تؤدى إلى الكثير من الخسائر المادية وفقط، ولكنها تؤدى بالأساس إلى الإضرار بأغلى ماتملكه مصر من ثروات وهى البشر، فلاشك أن فقدان العشرات من الضحايا سنويا نتيجة لهذه الحوادث يؤدى إلى خسائر بشرية جسيمة.
من كل ما سبق أصبحت الهيئة فى حاجة ماسة لإعادة الهيكلة الشاملة على كافة المستويات إداريا وفنيا واقتصاديا، ونرى أن أفضل طرق تطوير الهيئة هو تحويلها من هيئة اقتصادية إلى شركة قابضة نوعية، مثلما تم فى مصر للطيران، يتبعها عدة شركات تابعة كل في مجال واختصاص معين. على أن تقوم الشركة القابضة برسم السياسات العامة للمرفق ككل، في ضوء الخطط التنموية للدولة وتضع الآليات الكفيلة بتحقيق هذه السياسات، ويناط بها تحقيق الاستخدام الأمثل للأصول غير المستغلة المملوكة للهيئة وهى كثيرة ومتنوعة مثل الأراضي المقدرة بنحو 192 مليون متر مربع، فعلى الرغم من إنشاء الشركة المصرية لإدارة مشروعات الهيئة إلا إنها لم تحقق النتائج المرجوة منها حتى الآن، وهناك أيضا الورش والمطابع وغيرهما، مع رقابة وتقييم أداء الشركات التابعة المقترح إنشاؤها. وإنشاء شركة لتصنيع قطع الغيار وإنتاج القطارات كما كان مخططا سابقا ولم يتم حتى الآن. وفى هذا السياق أيضا يمكن إنشاء شركة للصيانة وإدارة ورش الهيئة تنقل إليها العمالة الفنية المدربة وتتولى القيام بهذه العمليات.
وشركة تابعة لنقل البضائع عبر السكك الحديدية وهى مسألة غاية فى الأهمية ليس فقط بالنسبة لهيئة السكك الحديدية ولكن وهو الأهم بالنسبة للمجتمع المصري ككل. بالإضافة لإنشاء شركة تابعة لنقل الركاب تتولى إدارة هذه العملية بطريقة اقتصادية سليمة وفقا لحسابات التكلفة والعائد وتوفير المرونة فى نظم التسعير بما يتفق مع التغير فى التكلفة والأرقام القياسية للأسعار ووفقا للدراسات الخاصة باقتصاديات التشغيل. ويمكن أن تتم هذه العملية دون التأثير على محدودي الدخل بعدة سبل أولها إتباع سياسة التمييز السعرى وفقا لشرائح الركاب والقدرة المالية، على أن يتم ذلك من خلال الخزانة العامة وليس من خلال الهيئة أو الشركات التابعة المقترحة. مع الاستمرار فى دعم الخطوط غير الاقتصادية بالمحافظات، والمقدر بنحو 5.2 مليار جنيه فى مشروع موازنة 2021/2022.
وفى هذا السياق أيضا يقترح أن تنشأ شركة تابعة لإدارة وتشغيل بعض الخطوط ذات الطبيعة الخاصة إما خطوطا سريعة أو خطوطا استثمارية لخدمة مناطق سياحية أو صناعية معينة، مثل مشروع (قنا – سفاجا – ابو طرطور) والاستفادة منه فى نقل خام الفوسفات من الوادى الجديد إلى موانى البحر الأحمر.
وهذا الاقتراح يحقق العديد من المزايا أولها انه يضمن إدراة المرفق بطريقة اقتصادية سليمة وثانيا يقضى على أوجه الإسراف وضبط الإنفاق وتفعيله. مع تعميق المحاسبة عن الأداء على مستوى مراكز المسئولية، كما يتيح الاهتمام بالصيانة واستغلال الطاقات العاطلة. مع التخلص من الأنشطة غير الاقتصادية. ويساعد على فض التشابكات بين الهيئة والخزانة العامة للدولة. وأخيرا يتيح الفرصة للقطاع الخاص الجاد للمشاركة فى هذا النشاط الحيوي والهام.
نقلاً عن صحيفة الأهرام.