صناعة الرؤية: كيف تشكل مراكز الفكر والدراسات ضرورة لدعم سياسات الدولة المصرية؟
منذ أن ظهرت لأول مرة في عام 1831، ومراكز الفكر والدراسات في تنامي مستمر، فمع تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية في بريطانيا، والجمعية الفابية البريطانية التي تعنى بدراسة التغيرات الاجتماعية عام 1884، وتصاعد حركة تأسيسها في الولايات المتحدة والعالم مطلع القرن العشرين، حتى وصل عددها في عام 2019، إلى (8248) مركز على مستوى العالم.
هذا التنامي الكمي والنوعي، ما كان ليأتي لولا إدراك أهمية مراكز الأبحاث والفكر الإسراتيجي، في بلورة رؤية علمية تجاه ما يقع من أحداث وتطورات محلية ودولية، وما تقدمه من تحليلات وتفسيرات ومعالجات علمية للقضايا الراهنة، وما يتوقع حدوثه مستقبلا.
وتتوارد في الذهن الكثير من الأسئلة؛ حول أهمية مثل هذه المراكز، وطبيعة أدوراها، ومدى إسهاماتها في عملية بناء النموذج الحضاري للدولة المصرية؟، لا سيما وهناك مراكز بحثية تابعة للجامعات والمؤسسات الحكومية والأجهزة التنفيذية؟
الأهمية والأدوار:
تستدعي مقتضيات العصر الاستعانة بكل المؤسسات التي يمكنها الإسهام في نهضة الفكر والحضارة الإنسانية المعاصرة، حيث يؤكد “جيمس جي ماكغان ولورا ويلان- James G McGann and Laura Whelan” في كتابيهما “مؤسسات الفكر العالمي”، أن حالة عدم اليقين وانعدام الأمن؛ التي نعيشها في عصرنا الحالي، والذي يشهد تغيرا مستمرا في كل شيء من حولنا؛ تتطلب هذه التغييرات والتحولات المزدوجة والمتزامنة، أن تكون مؤسسات الفكر والرأي في المقدمة.
وحسب تقرير مؤشر مراكز الفكر العالمي، )2019 (Global Go To Think Tank Index، الصادر عن جامعة بنسلفانيا، الذي يشير إلى أن مراكز الفكر، هي “منظمات تُعِد البحوث والتحليلات والمشورة الموجهة نحو السياسات؛ بشأن القضايا المحلية والدولية التي تمكن صناع السياسة والجمهور من اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن قضايا السياسة العامة”.
وانطلاقا من هذا المفهوم يمكن تحديد أهم أدوار مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية، على النحو التالي:
(&) صناعة الأفكار والرؤى الجديدة: إن أهم ما يميز مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية هو دورها الحيوي في بناء فكر متطور وطرح رؤى جديدة ومبتكرة، حول مختلف القضايا والمشكلات، والتي لا يتم الوقوف عند طرحها للنقاش، بل يتم بحثها وتحليليها وتقديم بدائل بشأنها، والعمل على نقلها للمجتمع ولصانع القرار السياسي.
(&) إنتاج المعرفة المتخصصة: تهتم مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية بكثير من مجالات البحث وحقول المعرفة، ويحرص المتميز منها، على ضم كفاءات فكرية وعلمية وسياسية، للاستفادة بخبراتهم وفكرهم في مجالات تخصصاتهم المختلفة، للوصول إلى تصور واضح واستراتيجي عن الظاهرة المرتبطة بتخصصاتهم، وبالتالي فهي تمثل بيئة حاضنة لخبراء ومتخصصين، يمكهم العمل بكفاءة في مجالات تخصصية متعددة.
(&) مساندة جهود الدولة في معالجة القضايا والمشكلات: في ظل ما نعيشه من واقع شديد التغير والتعقيد، ينبري أهل الخبرة والاختصاص في المراكز البحثية، في دراسة الظواهر الناتجة أو المصاحبة لما يقع من أحداث محلية وإقليمية ودولية، ووضع رؤى واحتمالات واردة، حول تطوراتها المستقبلية، يمكنها مساندة مؤسسات وأجهزة الدولة في مواجهة ما يطرأ من مشكلات.
(&) إثارة دوائر الاهتمام: فمن خلال تناول مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية، للقضايا والمشكلات، وطرحها للحوار والنقاش العلمي، يمكن أن تجذب الانتباه لقضايا قد تبدو هامشية، خاصة وأنها تخاطب النخبة والعامة في الوقت ذاته، وتخاطب الرأي العام العالمي أيضا، إذا ما أمكنها نشر أبحاثها وأعمالها بلغات أخرى.
(&) محاولة أكثر للفهم: فهناك الكثير من القضايا والموضوعات التي تحتاج إلى معلومات متخصصة ومفهومة وموثوقة ومفيدة، يمكن الوصول إليها، وهو ما تحاول مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية القيام به، مما يجعل مهمتها أكثر صعوبة، خاصة وأنها تخاطب العامة والنخبة على حد سواء.
من هنا، أصبحت مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية، علامة على رقي الدول وتقدمها وكفاءة مؤسساتها البحثية والأكاديمية، في المرحلة التي تشهد تحولات عميقة متسارعة، والتي لا يمكن فهمها والمشاركة فيها والتأثير بمجرياتها، من دون رصيد معرفي كبير، يساعد في الفهم واستشراف المستقبل.
وتزداد أهمية هذه المراكز، كلما قدمت أطروحات متميزة ومبدعة، ودراسات رصينة، وأبحاث ذو قيمة علمية، ترتبط بالواقع المعاش والمصالح الحيوية للدولة، مما يثري المعرفة العامة بها، ويدعم ويساند أدوار وسياسات مؤسسات وأجهزة الدولة.
معايير التميز:
حدد تصنيف Global Go To Think Tank Index لعام 2019 -لأفضل مؤسسات الفكر والرأي في العالم- مجموعة من المعايير التي يستند إليها في عملية التقييم، ويمكن لأي مركز بحثي أن يقيس مدى فاعليته وجودة إنتاجه المعرفي، من خلال تطبيقها، وتشمل ما يلي:
نوعية القيادة ومدى التزامها بتحقيق رسالة المركز وأهدافه، كفاءة فريق العمل بالمركز وسمعتهم، جودة الأعمال البحثية المنجزة، وعددها، مستوى الضبط الأكاديمي التي تتوفر بها، والقدرة على ضم النخبة والكفاءات البحثية المتميزة إلى الفريق البحثي والاحتفاظ بهم، ومدى تأثير بحوث المركز وبرامجه على صنّاع القرار وغيرهم من الفواعل السياسية، وتوظيف صناع القرار لتقارير المركز وتوصياته واستخدم منجزاته، والسُمعة الحسنة مع صنّاع القرار، والإلتزام الواضح بإنتاج بحوث وتحليلات مستقلة.
وكذلك، القدرة على جسر الهوة بين الأكاديميين وصناع القرار، والقدرة على التواصل مع المؤسسات الأساسية في الدولة، وتطوير شبكة فعّالة وشراكات مع مراكز الأبحاث الأخرى والجهات السياسية الفاعلة، ونوعية البرامج البحثية في المركز، وحضور المركز في وسائل الإعلام، ونوعية الموقع الإلكتروني للمركز على الإنترنت، والقدرة على إنتاج معرفة جديدة، وأفكار مبتكرة ومبدعة، وطرح بدائل ومقترحات لتطوير السياسات، وعدد آخر من المعايير.
تحديات وعقبات:
تواجه معظم مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية تحديات عميقة ومؤثرة، تعرقل عملها وتطورها، ويأتي من أهم تلك التحديات:
(*) محدودية الوعي المجتمعي بدور وأهمية المراكز البحثية في معالجة القضايا والمشكلات، ارتباطا بعدم إدارك أهمية البحث العلمي واعتباره أولوية لرقي المجتمع وتقدمه، وإن زاد الوعي بذلك في السنوات الأخيرة، ولكن ليس بالشكل المأمول.
(*) ضعف الموارد المادية اللازمة لتمويل البرامج البحثية التي تقوم بها المراكز البحثية، مما يجعل مهمة استقطاب كفاءات وطاقات علمية، مسألة صعبة، خاصة في المراكز المستقلة، التي تعاني بالأساس من غياب الدعم المادي والمعنوي، سواء من قبل المؤسسات الحكومية أو المنظمات الأهلية.
(*) غياب ثقافة التخصص الدقيق، فمعظم مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية في الدول العربية، تلجأ إلى أن تكون متعددة المهام، وتشتبك مع الكثير من التخصصات، مما يؤثر في عمق التحليلات والدراسات التي تقدمها، وعادة ما يدفعها ذلك إلى الاهتمام بالمحتوى الكمي على حساب نوعية المضمون وكيفته.
(*) البيئة غير المواتية التي تنشأ بها مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية -خاصة في العالم العربي- لتفعيل دور تلك المراكز، نظرا لارتباطها بطبيعة الأوضاع المعاشة، والمناخ السائد في الدول العربية، سواء (السياسي أو الاقتصادي أو الأكاديمي، أو البحثي)، مما يهمش أي دور للمراكز البحثية في عملية صنع القرار.
التفكير خارج الأطر التقليدية:
ورغم التحديات السابق الإشارة إليها، ولأن الزمن لا ينتظر، كذلك الفكر والبحث والتطوير لا يجب أن يتوقف، من المهم إعداد جيل جديد من الباحثين والمفكرين الاستراتيجيين، لفهم أكثر، لما يدور في هذا العالم بكل تعقيداته، مع الاعتراف الكامل بكل الجهود العلمية والبحثية السابقة ومنجزاتها، والتي تمثل مرتكز أساسي للأجيال الحالية واللاحقة في مسيرتهم البحثية القادمة.
وقد كان من الأهمية التأسيس لمرحلة بحثية جديدة، تقوم على التفكير المؤسسى، النابع من مراكز بحثية تحاول مواكبة أطوار التكنولوحيا فائقة الذكاء، من خلال توظيف هذه التكنولوحيا في أعمالها البحثية، وطرح رؤى تحليلية ضمن هذا الإطار، في ضوء مفهوم المصلحة القومية المصرية، ونأمل أن يكون مركز “رع” خطوة فى هذا الإتجاه.
خاصة إذا ما علمنا أن حركة تأسيس هذه النوعية من المراكز البحثية في العالم، آخذه بالتصاعد، ويتصدرها الولايات المتحدة بعدد (1871) مركز، تليها كلا من الهند (509)، والصين (507)، أما في المنطقة، نجد جنوب أفريقيا تتقدم دولها بعدد (92) مركز، ثم إسرائيل (69)، إيران (64)، وكينيا (56)، ونيجيريا (51)، وتركيا (48)، في حين أن مصر بها (39) مركز فقط أغلبهم غير فاعلين، ما يعني أن هناك حاجة مصرية حقيقية لإنشاء المزيد من مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية.
من هنا يأتي مركز “رع” للدراسات لينشط في تحليل السياسات (المحلية والإقليمية والدولية)، وهو قائم بذاته، غير تابع لمؤسسات أكاديمية أو سياسية، وبالتالي فهو يعمل بفكر مستقل وموضوعي وغير متحيز، ويأمل في تقديم تحليلات عميقة وإنتاج أبحاث رصينة عالية الجودة. حيث يسعى “رع” إلى القيام بعمل استثنائي في المجال البحثي وتحليل السياسيات، للمساعدة في سد الفجوة بين المعرفة والسياسة، ويأمل أن يرقى لمصاف مراكز الفكر الرائدة في المنطقة والعالم. كما يحاول مركز “رع” للدراسات الإستراتيجية، تغيير النمط السائد في مراكز الأبحاث المصرية من متابعة الأحداث أو القضايا المثارة بالرصد والتحليل والتفسير، إلى الانخراط فى إنتاج رؤية مستقبلية حول حدود تأثيرات تلك القضايا وكيفية مآلاتها، وذلك من خلال المبادرة بدلا من ردود الأفعال.
فغالبية مراكز الأبحاث العربية تتحرك وفق الأحداث الطارئة والمستجدة، حتى وإن كان لديها خطط مستقبلية، لكن أغلبها، تمارس عملها بسياسة ردود الأفعال، وهو ما يسعى مركز “رع” لتجاوزه، من خلال تطوير خطط بحثية مستقبلية، قائمة على وضع مسارات افتراضية للقضايا والمشكلات، وأن يكون أكثر تفاعلا مع البيئة المحيطة، ومحاولا تقديم مساهمة فاعلة لصانعي السياسات ومتخذي القرار، بناء على أسس معرفية موضوعية.
في النهاية، فإن مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية، لها دور غاية في الأهمية، في رصد وتحليل مجموعة واسعة من القضايا والموضوعات المحلية والدولية، والتي تعمل على إثراء الحوار والنقاش حولها، سواء مع النخبة أو العامة، وهو ما يمكن أن يشكل بالفعل مصادر حيوية للقوة الناعمة المصرية، لكن لا تزال هناك حاجة إلى زيادة الوعي العام بتلك الأهمية، ودورها المؤثر في البنية السياسية والثقافية والاجتماعية في المجتمع المصري خاصة، والعربي عامة.