مساحات جديدة: اتجاهات العلاقات القطرية الإيرانية خلال الفترة القادمة

دوماً ما وُضعت العلاقات القطرية مع إيران تحت المجهر، وهناك من يضعها في دائرة الإتهام المستمر، بسبب الوضع الخاص لهذه العلاقات والمنحنى الصاعد لها، على عكس مؤشر العلاقات الخليجية الإيرانية خلال السنوات الأخيرة، والذي يغلب عليه طابع التوتر في معظم الفترات.  لقد طرأ متغير جديد على مسار العلاقات القطرية الإيرانية مع بداية هذا العام، وهو المصالحة الخليجية، جعل البعض يتوقع تراجعاً في علاقات الدوحة بطهران، ارتباطاً بأن الأزمة الخليجية كانت من ضمن عوامل تقوية العلاقات القطرية الإيرانية، فهل بالفعل سيكون للمصالحة الخليجية دور في تحجيم مستوى الإندفاع القطري باتجاه إيران، أم أن مسار العلاقات الثنائية بينهما سيظل على نفس مستوياته، بمعزل عن هذا المتغير الجديد؟.

لمحة تاريخية عن مسار العلاقات القطرية الإيرانية:

لم يشهد تاريخ العلاقات القطرية الإيرانية، خاصة منذ الثورة الإيرانية في عام 1979 أي هزات عنيفة، حيث ظلت ضمن سياقات طبيعية ومستقرة، رغم ما عصف بمنطقة الخليج من أحداث وصراعات سياسية وتوترات وحروب، والسبب في ذلك يرجع لمحددات الجغرافيا السياسية التي يدركها المسئولون في البلدين، حيث يتشارك البلدان في حقل “غاز الشمال” المعروف بـ”فارس الجنوبي” في إيران، وهو الحقل المُكتشف عام 1971، والذي شُرع بتطويره عام 1989، وهو حقل الغاز الطبيعي الأكبر في العالم. والذي يضمُّ 50.97 ترليون متر مكعّب، وتبلغ مساحته نحو 9,700 كيلومتراً مربّعاً، وتبلغ الحصة القطرية منه قرابة الثلثين.

ويرجع التاريخ الحديث للعلاقات القطرية مع إيران إلى عام 1969، ففي 20 سبتمبر من نفس العام، تم إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية وتقسيم الجرف القاري بين إيران وقطر، وفي عام 1971، حصلت قطر على استقلالها السياسي، وكانت علاقتها السياسية مع شاه إيران طبيعية، مثلها مثل باقي الدول الخليجية إلى أن وقعت حرب الخليج الأولى التي أثرت بالسلب على العلاقات الخليجية الإيرانية بشكل عام، حيث وقفت دول مجلس التعاون الخليجي في صف العراق.

فقد شهدت هذه الفترة جمود في علاقات قطر بإيران، إلى أن وضعت الحرب أوزارها، وأعلنت إيران عن تحولات جوهرية تمثلت في التخلي عن فكرة تصدير الثورة وإقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار والمحيط العربي وحتى الدولي. لقد وجدت هذه السياسات الإيرانية “التصالحية” صداها في مبادرات لتطوير العلاقات بين البلدين، وعليه شهدت العلاقات القطرية الإيرانية في حقبة التسعينات من القرن الماضي محاولات جادة من الطرفين لتجاوز حالة الجمود أو الفتور الذي ساد خلال حقبة الثمانينات مع حرب الخليج الأولى، تجلى ذلك في الزيارة التي قام بها ولي عهد دولة قطر آنذاك الشيخ حمد بن خليفة ال ثاني لجمهورية إيران عام 1991، تم خلالها مناقشة العلاقات المشتركة وفرص التعاون الاقتصادي بين البلدين.

كما عبرت إيران عن مساندتها لموقف الدوحة في الخلاف الحدودي مع السّعودية على منطقة “الخفوس” عام 1992. وفي العام 1996 زار وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم جمهورية إيران والتقى بالرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني وسلمه رسالة من أمير قطر أكد فيها على ضرورة تعزيز العلاقات بين الجانبين، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي.غير أن مرحلة الانفتاح الواضح في العلاقات بين البلدين قد جاءت مع وصول التيار الإصلاحي للحكم في إيران في عام 1997م، برئاسة محمد خاتمي، وإعلانه عن سياسة إيرانية جديدة تجاه دول الخليج العربي، واستمرت هذه الفترة طوال العقد الأول من القرن الحالي، حيث انتهجت إيران سياسة خارجية تدعو دول الخليج للانفتاح عليها والتقارب والحوار المشترك معها، وعليه تقاربت قطر مع إيران من خلال الزيارات المتبادلة، ومنها الزيارة التي قام بها  أمير دولة قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة إلى طهران في سنة 2000م.

لقد كانت هذه الزيارة، بمثابة الأولى التي يقوم بها حاكم دولة خليجية لإيران منذ اندلاع حرب الخليج الأولى، وتم خلال هذه الزيارة تنشيط وتفعيل العلاقات من خلال مجموعة من الاتفاقيات المتعددة في مختلف المجالات، كذلك الزيارة التي قام بها أمير قطر إلى طهران أواخر عام 2006، حيث جاءت في ظل ظروف عصيبة عصفت بالمنطقة في تلك الفترة، خاصة مع حرب لبنان 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وما ترتب عليها من أحداث ومواقف.

لكن الحدث الذي لفت الإنتباه بقوة لحجم العلاقات بين الدوحة وطهران كان دعوة قطر الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد لحضور القمة الخليجية رقم 28 بالدوحة كضيف شرف، ومشاركته بكلمة خلال القمة، طرح خلالها على دول الخليج عدة مشروعات تعاون في المجال الاقتصادي والأمني ( منظمة للتعاون الاقتصادي، منطقة تجارة حرة، منظمة للتعاون الأمني)، تشمل إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، وتبعها زيارات لمسئولين قطريين لطهران، ثم الزيارة التي قام بها الرئيسالإيرانيالسابق أحمدينجادللدوحةفيسبتمبر 2010.

غير أنه خلال الفترة من 2011 وحتى 2017 شهدت العلاقات القطرية الإيرانية  ظهور تناقضات وتقاطعات في المواقف السياسية، وذلك على خلفية ما حدث في البحرين في 2011، وتدخل قوات درع الجزيرة لحفظ الاستقرار في البحرين، علاوة على موقف دولة قطر من الثورة السورية، علاوة على قيام قطر باستدعاء سفيرها لدى طهران في عام 2016، بعد الاعتداءات من جانب متظاهرين إيرانيين على السفارة السعودية في طهران، إثر إعدام السلطات السعودية رجل الدين الشيعي نمر النمر.

الملاحظة العامة، على مسارات العلاقات القطرية الإيرانية خلال هذه الفترات المتعاقبة، أن  قطر قد حافظت على سياسة خارجية طبيعية إزاء إيران،  وكانت محددات الجغرافيا السياسية، هي الحاكمة لمسار العلاقات، وقد حاولت قطر خلال فترة ما قبل الأزمة الخليجية أن توفق وتوازن بين علاقاتها مع إيران من جانب، ومستلزمات عضويتها في إطار منظومة مجلس التعاون الخليجي من جانب أخر، فعلى مدى نحو أربعة عقود، هي عمر جمهورية إيران الإسلامية لم تصل العلاقات إلى حد الخصام، وإن كانت لم تتسم بالحرارة في بعض الفترات، كما سبق أن ذكرنا.

فترات ضاغطة:

لقد كانت الفترة من 2017 وحتى نهاية 2020 من أكثر الفترات الضاغطة على صانع القرار القطري، فيما يخص العلاقة مع إيران، فالأزمة الخليجية في 2017 سلطت الضوء في جانب من أسبابها على مسألة علاقات الدوحة بطهران، حيث طالبت دول المقاطعة ضمن شروطها الثلاثة عشر الدوحة بقطع علاقاتها مع إيران، باعتبار أن سلوك إيران في المنطقة يهدد الأمن القومي العربي والخليجي. بينما كانت المحطة الثانية من الضغوط التي تعرض لها صانع القرار القطري هي مرحلة ما بعد مايو 2018، عقب اتخاذ الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي، وما أعقبها من توقيع حزم متتالية من العقوبات، الهادفة لعزل إيران عن العالم ومنع الدول من التعامل معها سياسياً واقتصادياً.

ولما كانت العلاقات القطرية الإيرانية في تلك الفترة في أفضل حالاتها، كإنعكاس للأزمة الخليجية، التي لم تجد قطر من خلالها مفر سوء اللجوء لإيران كمنفذ وحيد لها، وصفته بعض الكتابات القطرية في حينه ” بالرئة التي تتنفس منها قطر”بعد  إغلاق الدول الخليجية المجاورة لها حدودها البرية والبحرية وأجوائها أمام الحركة القطرية- فقد تسبب ذلك التقارب في إنزعاج أمريكي واضح ومطالبات غير رسمية للدوحة بإيقاف علاقاتها وتعاونها الاقتصادي مع إيران، بينما كان للدوحة حجة تدافع بها أمام هذه المطالبات وهي” أن مطالبة قطر بقطع اتصالاها مع إيران تعني الحكم عليها وعلى شعبها بالموت، فالطيران القطري ليس له مسار أخر في ذلك الوقت إلا عبر إيران، وهو الذي تعتمد عليه إيران بصورة كبيرة في تأمين احتياجاتها المختلفة، كما أن الحركة البحرية للسفن الداخلة لقطر والخارجة منها خاصة السفن الحاملة لشحنات الغاز المسال ليس لها طريق بحري إلا عبر المياة الإيرانية أيضا، وكانت تطالب قطر من الولايات المتحدة أن تبذل جهوداً لحل الأزمة، بدلاً من مطالبتها بشىء لا تقدر عليه.

الآن، وبعد المصالحة الخليجية وبعد أن عادت الأمور لطبيعتها بين قطر ودول الخليج، وفتحت الحدود والأجواء، هل لا تزال هناك مبررات منطقية لإستمرار قطر في نفس مسار التقارب مع إيران، أم أن هناك تغيرات قادمة في هذا المسار؟ ولا يمكن تقديم إجابة دقيقة على هذا السؤال دون الرجوع لمحددات العلاقات القطرية الإيرانية، أو ما يمكن تسميته بالثوابت من وجهة نظر القطريين ومن وجهة نظر الإيرانيين.

متغيرات جديدة:

لا شك أن بوصلة العلاقات القطرية مع إيران خلال الفترة القادمة ستشهد بعض التغيرات التكتيكية في مضامين العلاقات بين البلدين، بفعل تغيرات كثيرة جرت خلال الفترة الماضية، ربما يكون أهمها متغيرين أساسيين، هما:

(&) الأول: المصالحة الخليجية التي تمت في يناير الماضي وعودة الاتساق السياسي ولو من الناحية الشكلية لمواقف دول مجلس التعاون الخليجي الجماعية من إيران، وهو ما عبر عن نفسه في البيان الأخير الصادر عن مجلس التعاون الخليجي ( 17 مارس 2021) باتجاه إدانة السلوك الإيراني في اليمن وإدانة الاعتداءات التي تعرضت لها السعودية، وإعادة التأكيد على أن أمن دول المجلس وحدة واحدة، علاوة على التطرق لمسألة احتلال إيران للجزر الإماراتية واعتبار أي أعمال تقوم بها إيران في الجزر الإماراتية الثلاث باطلة ولاغية”، علاوة على التأكيد على موقف دول مجلس التعاون الخليجي من أي مفاوضات مستقبلية مع إيران، والمطالبة بأن تشمل الصواريخ الباليستية والملف النووي. وهو بلا شك يمثل عنصر ضاغط جديد على إيران في الخليج، لذلك رفضت إيران البيان واعتبرته أنه جاء نتيجة ضغوط سعودية على دول المجلس.

(&) الثاني: وصول إدارة أمريكية جديدة للبيت الأبيض، تحمل في جعبتها تصورات مختلفة إزاء التعامل مع إيران، حيث تريد واشنطن أن تعود إيران لطاولة المفاوضات مرة أخرى، وهو ما يستلزم السير في اتجاهين متوازيين، أحدهما الاستمرار في الضغط الاقتصادي عبر عقوبات” معقولة”، مع ضغوط سياسية من الحلفاء الدوليين ( أوروبا) والإقليميين ( دول الخليج)، والاتجاه الثاني محاولة تشجيع إيران على الحوار من خلال بعض القنوات غير الرسمية، والتي يمكن لقطر أن تلعب فيها دوراً ما، وقد عبرت قطر عن ذلك بشكل رسمي على لسان مسئوليها أكثر من مرة.

تقدير مستقبلي:

نتوقع أن العلاقات القطرية الإيرانية لن تشهد تغيرات على المستوى الاستراتيجي، فقطر ستظل حريصة على علاقات طبيعية مع إيران، لإعتبارات جيواستراتيجية أهمها حقل الغاز المشترك، والرؤية القطرية  لإيران على أنها موازن إقليمي في منطقة الخليج يمكنه لعب دور لصالحها، في حال تعرضت قطر لتهديدات من دول أخرى، بينما ستتعامل قطر مع متغير المصالحة وما يفرضه عليها من استحقاقات تتعلق بإيران من خلال الإلتزام بالتوافق مع السياسة الجماعية لدول مجلس التعاون فيما يخص البيانات الجماعية الصادرة عن المجلس بين الحين والأخر تجاه إيران، مع محاولة قطر لعب دور الوسيط أو قناة الحوار التي يمكن من خلالها تسهيل عملية إذابة الجليد في العلاقات الإيرانية الخليجية بشكل عام، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين السعودية وإيران. كما ستلعب قطر دور في الترويج لبعض المبادرات التي تقدمها إيران نحو دول الخليج، ومنها مبادرة هرمز التي طرحت في 2019 ولا تزال طهران تتحدث عنها وتروج لها، باعتباره مقاربة للتعاون الإقليمي في منطقة الخليج.

بالتالي، لن يشهد منحنى العلاقات القطرية الإيرانية تحولات استراتيجية، بفعل المصالحة الخليجية أو غيرها، وربما يشهد تغيرات محدودة في المستوى التكتيكي فقط، وربما عملية إعادة هندسة لإتجاهات هذه العلاقة، وللكيفية التي يمكن أن يستفيد بها كل طرف من الأخر، حسب رؤيته الخاصة لمصالحه الوطنية، وحسب تطورات البيئة الاستراتيجية الخليجية والبيئة الاستراتيجية للدولة الإيرانية وفق المنظر الثلاثي ( المحلي والإقليمي والدولي)، وعليه سيظل مسار العلاقات القطرية الإيرانية في نفس مساره المعتاد، وفق الثوابت المعروفة لدى البلدين، بل أنه قد يتعزز خلال الفترة المقبلة، في حال سُمح لقطر بأن تلعب دور حقيقي في المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني لصالح الولايات المتحدة، أو في حال تمكنت من فتح قنوات حوار بين إيران والسعودية، بما يعيد ترتيب التوازنات الإقليمي في منطقة الخليج بصورة مغايرة.

د.أكرم حسام

خبير في الشؤون الخليجية، دكتوراه علوم سياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ٢٠١٣، عمل في عدة مراكز بحثية داخل مصر أخرها المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، وعمل خبير في الأمن الإقليمي بالعديد من مراكز الدراسات بدول الخليج. شارك بأوراق بحثية في بعض المؤتمرات الدولية، بدعوة من مركز نيسا بالولايات المتحدة الأمريكية بواشنطن (2017-2018)، ومعهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الإيطالية بروما (2019-2020).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى