التواؤم مع المتغيرات: هل اختلفت مرتكزات ومحاور مرحلتى الإصلاح الاقتصادي في مصر؟

منذ أكثر من ثلاثة عقود ماضية، شرعت مصر في تطبيق برامج الاصلاح الاقتصادى بالاتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وكانت المرحلة الأولى خلال الفترة ( 1991-1993)، ثم المرحلة الثانية للفترة (1993-1997). وكان الهدف من المرحلتين، هو إعادة التوازن بين العرض والطلب داخلياً وخارجياً على السواء، وخفض العجز في الموازنة العامة، وتوحيد سعر صرف العملة المحلية وإصلاح النظام الضريبي.
وفى عهد الرئيس السيسى، أطلقت مصر المرحلة الأولى من برنامج الاصلاح الاقتصادى (2016-2021) بمجموعة كبيرة من الأهداف طويلة وقصيرة الأجل. واستمراراً للجهود المصرية من أجل دعم الاقتصاد المصري، أعلنت الحكومة المصرية فى يوم 27 ابريل 2021 – وخلال مؤتمر موسع – المرحلة الثانية من البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية للاقتصاد المصري، الذي يهدف إلى التركيز على مكتسبات الإصلاح الاقتصادي التى تم تحقيقها فى المرحلة الأولى وتعزيز الحماية الاجتماعية. وفيما يلى يمكن رصد أهم ملامح المرحلة الأولى والثانية من الإصلاح الاقتصادي المصري، وذلك على النحو التالي:
المرحلة الأولى من برنامج الاصلاح الاقتصادى (2016-2021):
استهدف البرنامج في مرحلته الأولى معالجة الاختلالات الاقتصادية الداخلية والخارجية لاستعادة استقرار الاقتصاد الكلي، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وذلك من خلال تحرير سعر الصرف وجعله أكثر مرونة بهدف رفع القدرة التنافسية الخارجية، ودعم الصادرات والسياحة وجذب الاستثمار الأجنبي وإعادة بناء الاحتياطيّات الدولية، بالإضافة إلى استهداف ضبط أوضاع المالية العامة وتقليص عجز الموازنة.
وتعتبر من أهم الإجراءات التي اتخذتها مصر خلال المرحلة الأولى من الاصلاح الاقتصادى ما يلى :-
(*) محور سياسات المالية العامة: وفى هذا الإطار تبنت الحكومة سياسة مالية تتضمن وضع الدين العام على مسار نزولى، وتخفيض عجز الموازنة العامة، وتعديل منظومة الضرائب، وبدء تطبيق ضريبة القيمة المضافة في أكتوبر 2016، وتحريك سعر المواد البترولية.
(*) محور السياسات النقدية: انتهجت الدولة سياسة نقدية تهدف إلى احتواء التضخم والنزول به إلى خانة أحادية، فضلاً عن رفع كفاءة أداء سوق النقد الأجنبي، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، كذلك تعويم للجنيه المصري فى نوفمبر 2016.
(*) محور الإصلاحات الهيكلية: والهدف منها خلق بيئة استثمارية أكثر تنافسية، وتعزيز المساءلة ومحاربة الفساد بكافه أنواعه. حيث أصدر المجلس الأعلى للاستثمار 17 قراراً بهدف تحفيز الاستثمار، ومراجعة السياسات الاستثمارية للدولة وتحديد المشروعات ذات الأولوية سواء على المستوى القطاعي أو الجغرافي، فضلاً عن مراجعة سياسات الإصلاح التشريعي والإداري للبيئة الاستثمارية. كما تعتبر استراتيجية التنمية المستدامة “رؤية مصر 2030” محطة أساسية في مسيرة التنمية الشاملة في مصر، كما تمثل خارطة الطريق التي تستهدف تعظيم الاستفادة من المقومات والمزايا التنافسية، وتعمل على تنفيذتطلعات الشعب المصري في توفير حياة لائقة وكريمة.
(*) محور سياسات الحماية الاجتماعية: وتهدف إلى إعادة هيكلة نظام الدعم، ومد مظلة الحماية الاجتماعية للفئات الفقيرة عن طريق زيادة أعداد المستفيدين من برنامج “تكافل وكرامة، وزيادة الدعم على السلع الغذائية، والتحويلات النقدية للمسنين والأسر محدودة الدخل.
نتائج المرحلة الاولى من الإصلاح الاقتصادي:
نجحت الحكومة المصرية في تحقيق مستهدفات هذه المرحلة ، حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلى الاجمالى إلى 5.6 % في العام المالي 2018/2019، مقارنة بـ 2.9 % خلال العام 2013/2014، وذلك في إطار الظروف الطبيعية قبل حدوث جائحة كورونا. كما انخفض معدل التضخم ليسجل 4.3 % في سبتمبر 2019، بعد أن وصل إلى 34.2% في يوليو 2017. كما انخفض معدل البطالة في الربع الثاني من عام 2019 ليسجل 7.5%، مقارنة بـ 12.4 % في الربع الثاني من عام 2016. كما ارتفعت قيمة الاحتياطيات من النقد الأجنبي، ووصلت إلى 45 مليار دولار في سبتمبر 2019، والتي كانت قد سجلت 13.4 مليار دولار في مارس 2013، فيما وصل عجز الموازنة العامة كنسبة من الناتج المحلى الإجمالي في العام 2018/2019 إلى 8.1%، مقارنة بـ 11.4% خلال العام المالي 2014/2015. كما انخفض معدل الفقر في مصر لأول مرة، حيث سجل 29.7% خلال العام 2019/2020، مقارنة بـ 32.5 خلال عام 2017.
وبعد انتهاء عام جائحة كورونا 2020، مازال الاقتصاد المصري أفضل من غيره فى العديد من الاقتصادات الناشئة والنامية، ومن أهم عوامل صمود الاقتصاد المصري في مواجهة أزمة كورونا، هي تنوع هيكل الاقتصاد الذي ساهم فى مواجهة الأزمة، كذلك نتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، الذى بدأته الحكومة المصرية في 2016، والذي شهد تحسن كل مؤشرات الأداء الاقتصادي .وتعتبر مصر الدولة الوحيدة فى الاقتصادات الناشئة والنامية التى حققت معدل نمو للناتج المحلى الإجمالي موجب خلال أزمة وباء كورونا، حيث انخفض معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من العام2020 ليصل إلى 6.3% مقارنة ب 6.5% فى عام 2019 كما هو موضح بالشكل رقم (2):
المصدر: البنك المركزى المصرى، النشرة الاحصائية الشهرية، العدد 283، ( القاهرة : البنك المركزى المصرى: اكتوبر 2020 )، ص 142.
كما أكدت المؤسسات الدولية على أن الاقتصاد المصرى شهد تحقيق أداء أفضل من المتوقع فى ظل الجائحة، وذلك بفضل حزمة الإجراءات التنشيطية السريعة والشاملة والمتوازنة التي اتخذتها الحكومة، واستجابة السياسة النقدية، ومبادرات القطاع المالي الموجهة للقطاعات والفئات المتضررة. كما ورد فى تقارير صندوق النقد الدولى لعام 2020 أن مصر تُعد من أسرع اقتصاديات العالم، وثاني دولة على مستوى الدول العربية من حيث الناتج الإجمالي المحلى، بناتج محلي إجمالي تجاوز 360 مليار دولار، ومعدل نمو 3.6 %، كما تأتي مصر ضمن 16 دولة على مستوى العالم حققت معدل نمو من 1% أو أكثر، في الوقت الذى حققت فيه 11 دولة معدل نمو من 0% إلى 1%، و167 دولة عانت من الانكماش ، بعد أن وصل معدل النمو بها إلى أقل من صفر%.
ملامح المرحلة الثانية من برنامج لاصلاح الاقتصادى (2021-2024):
أطلقت الحكومة المصرية المرحلة الثانية من برنامج الاصلاح الاقتصادى التى تبدأ من العام الجارى ولمدة ثلاث سنوات قادمة (2021-2024)، وتستهدف لأول مرة جانب العرض الكلي للاقتصاد، وهو ما يأتي على غير العادة على ما سبق من برامج كانت تستهدف جانب الطلب، حيث يتضمن برنامج الإصلاح الهيكلي حزمة من السياسات تؤثر بشكل رئيس على مستويات الإنتاجية، من خلال ستة محاور رئيسية كما هو موضح بالشكل رقم (3).
(&) المحور الأول: يهدف إلى خلق بيئة داعمة للمنافسة، وتسهيل وتطوير حركة التجارة مع إزالة القيود المُعرقلة، ورفع كفاءة النقل بكافة وسائله وتوفير النقل متعدد الوسائط لرفع كفاءة سلاسل الإمداد، إلى جانب تنظيم شراكة القطاع الخاص وتفعيل دوره، وتطوير الإطار التنفيذي وتيسير الإجراءات الاستثمارية.
(&) المحور الثاني: ويركز على تنويع الهيكل الإنتاجي للاقتصاد المصري بالتركيز على ثلاثة قطاعات، تشمل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والزراعة والصناعة. فالمحور الأساسي لبرنامج الإصلاح يرتكز على زيادة الوزن النسبي لقطاعات الصناعات التحويلية، والزراعة، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حيث كانت نسب مساهمة القطاعات الثلاث في الناتج المحلي الإجمالي عام 19/2020 نحو 26%، ومن المستهدف أن تصل هذه النسبة إلى ما بين 30-35% في 23/2024. كما يسعى البرنامج إلى زيادة مساهمة قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 5% في عام 2024 مع الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة للقطاع في حدود 16%، ورفع إنتاجية القطاع وقدرته على خلق فرص عمل وزيادة أعداد المتدربين في البرامج التي تقدمها وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وجهاتها التابعة في مجالات التكنولوجيا المختلفة بمعدل نمو 20-25% سنويًا، وتوفير 120-140 ألف فرصة عمل جديدة بحلول 2024. كذلك العمل زيادة إنتاجية القطاع الزراعى وتحسين تنافسيته، وتحقيق الأمن الغذائي والمائي، مع زيادة الصادرات الزراعية، وخلق فرص عمل جديدة وزيادة دخول صغار المزارعين، بالإضافة إلى إنفاذ اتفاقات الزراعة التعاقدية، وإنشاء مجمعات المراكز اللوجيستية، وتعظيم القيمة النقدية للمتر المكعب، وإعادة هيكلة التعاونيات، والتوسع في دعم وإنشاء وتفعيل دور الجمعيات الزراعية، فضلًا عن تحديث قانون الزراعة الصادر عام 1966.
أما الأهداف المتعلقة بالقطاع الصناعى فتتمثل في زيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي، والإندماج الأعلى في سلاسل القيمة وزيادة نصيب الصادرات الصناعية ذات المكون التكنولوجي المرتفع من إجمالي الصادرات الصناعية بمعدل لا يقل عن 20% سنويًا، وزيادة نصيب الصادرات الصناعية ذات المكون التكنولوجي المتوسط من إجمالي الصادرات الصناعية بمعدل لا يقل عن 10% سنويًا، مع زيادة تنافسية صادرات القطاع الصناعي من خلال زيادة صادرات السلع الصناعية كمكون من إجمالي الصادرات بمعدل سنوي لا يقل عن 15% .
(&) المحور الثالث: يتضمّن هذا المحور أهدافًا تتعلق بتعزيز الشمول المالي، وزيادة فرص التمويل المتاحة لشركات القطاع الخاص، وتنشيط سوق المال.
(&) المحور الرابع: ويهدف هذا المحور إلى لإسراع في إتمام عملية التحول إلى الاقتصاد الرقمي، خاصة بعد ما أبرزت جائحة كورونا أهمية الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة.
(&) المحور الخامس: وهو الهدف النهائي لكل الإصلاحات الهيكلية، ويركز على تنمية رأس المال البشري من خلال رفع كفاءة الخدمات الصحية وتوسيع نطاقها، وتنمية الأسرة المصرية، ورفع كفاءة النظم التعليمية، وتحسين استهداف دعم الغذاء.
(&) المحور السادس: يرتكز هذا المحور على تحقيق مستهدفاته من خلال تعزيز الإصلاح الإداري والمؤسسي، مع تمكين وحدات الإدارة المحلية وتعزيز قدراتها، وتعزيز شفافية السياسة المالية وإدارة الدين.
استخلاصاً لما سبق، يمكن التأكيد على أن هذا البرنامج يستهدف للمرة الأولى القطاع الحقيقي بإصلاحات هيكلية جذرية وهادفة، بحيث تساهم تلك الإصلاحات في زيادة مرونة الاقتصاد المصري، ورفع قدرته على امتصاص الصدمات الخارجية والداخلية، وتحويل مسار الاقتصاد المصري إلى اقتصاد إنتاجي يتمتع بمزايا تنافسية؛ مما يدعم قدرة الاقتصاد على تحقيق النمو المتوازن والمستدام، كما تسعى الحكومة المصرية من خلال المرحلة الثانية للاصلاح إلى تحقيق 32 هدف أهمها ما يلى:
(*) خفض الدين خلال المرحلة القادمة، من خلال منع الدين من العودة للتصاعد، بل السعي لتثبيت الدين خلال العام المالي القادم في الوقت الذي تتصاعد أرقام الدين بصورة كبيرة في دول العالم، على ان ينخفض تدريجياً خلال السنتين القادمتين بعد ذلك في المسار التنازلي.
(*) سيتم من خلال تلك المرحلة التركيز على إصلاح عدد من المنظومات، منها منظومة التشريعات، من خلال العمل على تسهيل التشريعات وتبسيطها وتوحيدها، ومنظومة الأداء الحكومي، عبر تيسير كافة المعاملات الحكومية والميكنة والرقمنة وتحديد دور الدولة، هذا إلى جانب منظومة اللوجستيات، من خلال تحسين كفاءة النقل واللوجستيات لخدمة المواطنين ومجتمع الأعمال، ومنظومة التمويل، عن طريق مواصلة تحقيق الشمول المالي وتيسير وتنويع الحصول على الخدمات، وأخيراً منظومة الديمغرافيا وخصائص السكان، من خلال تطوير التعليم والمنظومة الصحية، مع تعزيز الحماية الاجتماعية لتنمية الأسرة المصرية.
(*) تنفيذ برنامج طموح لتحقيق الحماية الاجتماعية، وتطوير الأسرة المصرية، من خلال مشروع “حياة كريمة” الذي أطلقه فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، والذي تنفذه الدولة المصرية على مدار السنوات الثلاث القادمة، بصورة مكثفة بهدف رفع مستوى حياة المواطنين في الريف المصري الذين يمثلون 58% من عدد سكان مصر.
(*) تعزيز مفهوم الاقتصاد الأخضر، وهو موضوع مهم نصب أعين الدولة والحكومة، من خلال التركيز في كل مشروعاتنا وفي كل استثماراتنا العامة أو الخاصة، على أنشطة اقتصادية تحقق موضوع خفض انبعاثات الكربون والتلوث، وكذا تعزيز كفاءة الطاقة والموارد الطبيعية، إلى جانب الحفاظ على التنوع البيولوجي.
(*) استهداف رفع معدل النمو الاقتصادى الى 5.2% في العام المالى 2021-2022، واستمرار ارتفاعه ليصل الى ما بين 6 – 7% في السنوات الثلاث المقبلة. كما من المستهدف خفض العجز الكلي للموازنة إلى 5.5% في العام المالى 2023-2024.
وخلاصة القول، تجدر الإشارة إلى أن المرحلة الثانية من برنامج الاصلاح الاقتصادى اختلفت فى أهدافها لتتواءم مع المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية، فلا تسعى على الإطلاق إلى تحميل المواطنين بأعباء مالية جديدة، بل على العكس فهذه المرحلة الجديدة تركز على ضرورة شعور المواطن بثمار الإصلاحات الاقتصادية التي أجريت في المرحلة الأولى. كما يستهدف البرنامج للمرة الأولى القطاع الحقيقي بإصلاحات هيكلية جذرية وهادفة، بحيث تسهم تلك الإصلاحات في زيادة مرونة الاقتصاد المصري، وتحويل مساره إلى اقتصاد إنتاجي يتمتع بمزايا تنافسية؛ مما يدعم قدرة الاقتصاد على تحقيق النمو المتوازن والمستدام، ورفع قدرته على امتصاص الصدمات الخارجية والداخلية، واحتواء الاثار السلبية لوباء كورونا مع تعزيز قدرة الدولة على ايجاد فرص في إطار اقتصاد عالمي جديد تشكّلت ملامحه في إطار تلك الأزمة، وارتبط بتحديّات وفرص غير مسبوقة على المستوي الدولي.