الطبقة الوسطى..النكوص المهنى

د. أحمد زايد
يلعب العمل دوراً كبيرًا فى التشكيل التكوينى للطبقة الوسطى، سواء أكان هذا العمل عملاً حراً أو مهنة متخصصة أو عملاً فكرياً أو فنياً، وأياً كان صنف العمل الذى يمارسه الفرد من أعضاء الطبقة الوسطى، فإن هذا العمل هو فى الأصل الذى أكسبه الموقع الطبقى الذى يحتله، بما يؤدى إليه هذا الموقع من أساليب حياة، وما يفتح من آفاق للحصول على مزيد من الفرص. يعنى ذلك ببساطة أن العمل يلعب أهمية محورية فى حياة الطبقة الوسطى. بل يمكن القول إن العمل هو الذى يكسب هذه الطبقة سمتها العام، فهى طبقة تتكون بالعمل وتستمر فى الوجود بالعمل. ويفترض فى أداء الأعمال المختلفة أن يحب الفرد مهنته ويخلص فى ممارستها، وأن يعمل جاهداً على رفع مكانتها فى المجتمع، خاصة أن معظم هذه الأعمال تتصل بإدارة المجتمع، وتسهيل مجريات حياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أى يفترض أن تصب فى النهاية فى تحقيق الخير العام؛ سواء عن طريق تدفق منتجات معينة، أو نقل السلع والبضائع وتوفيرها للمستهلكين، أو تقديم خدمات للمجتمع فى مجالات القضاء والتدريس والطب والأمن، أو إدارة منظمات حكومية أو خاصة، أو تقديم منتجات فكرية وثقافية. ويفترض أيضًا أن تعمل هذه المهن المختلفة على بث القيم الأخلاقية وتدعيم مبدأ الواجب الأخلاقى، بحيث تسهم فى إعادة إنتاج أخلاقيات مهنية وأخلاقيات عمومية مستدامة، بدءاً من أخلاقيات التبادل التجارى، ومروراً بأخلاقيات الخدمة المهنية العامة، وانتهاء بأخلاقيات السمو الفكرى والتذوق الجمالى الرفيع. ويكتسب الارتباط بين الأداء المهنى والسلوك الأخلاقى درجة عالية من الأهمية دفعت المفكرين فى العالم الحديث إلى إثارة النقاش حول ما يسمى بالنداء المهنى، والذى استند إلى تفسيرات دينية لإضفاء الطابع العقلانى الرشيد على المهنة وممارستها. فالمهنة ليست مجالاً للعمل يختاره الشخص وفقاً لقدراته فقط، بل هى ترتبط بأخلاقيات تتطلبها المهنة أو النداء المهنى الذى عبر عنه ماكس فيبر (١٨٦٤- ١٩٢٠) على أنه يفضى الى تقدير أداء الواجب المهنى المتعلق بشئون الحياة الدنيا من خلال أعلى درجة من المسئولية الأخلاقية ، والسعى نحو ممارسة هذه المسئولية فى الواقع. ليست العبرة هنا بالقوانين المنظمة للمهنة من الخارج، بل العبرة بالنداء المهنى القادم من داخل الفرد، والمعبر عن عمق الشعور بالواجب الأخلاقى والمسئولية الأخلاقية. ويمكن القول إنه كلما التزم الأفراد بهذا المعيار، أعيد إنتاج الأخلاق عبر الممارسين المختلفين للمهن؛ وكأن عملية إعادة إنتاج الأخلاق هذه تناط بهؤلاء الأفراد الذين يمارسون أعمالاً مختلفة تنداح مخرجاتها فى الحياة، والتى تزداد كل يوم استقامة وعدلاً عبر تدفق الأخلاقيات التى تصاحب الأداء المهنى، والتى تأتى من أعماق الضمير أو من أعماق النداء المهنى من داخل الفرد. وعند هذا الحد نستطيع أن نطرح السؤال الذى نجادل حوله فى هذا المقال: إلى أى مدى يتجلى النداء المهنى بهذا المعنى فى الممارسات المهنية للطبقة الوسطى؟ وهل تنجح هذه الطبقة فى أن تعيد إنتاج الواجب الأخلاقى المهنى، وأن تبثه فى المجتمع، أم أنها تعانى من حالة من النكوص المهنى ــ ومن ثم الأخلاقى ــ الذى يطفئ شعلتها فى تحريك المجتمع إلى الأمام؟ وبادئ ذى بدء؛ يجب علينا أن نقرر أن التعميم فى هذا الموضوع غير مطلوب، فإذا كانت هناك شواهد على النكوص المهنى، فإن هناك رجالاً ونساءً يتعلقون بالنداء المهنى الداخلى، فتجدهم يحافظون على مستويات عليا من جودة الأداء وأخلاقياته. ولكن هؤلاء يشكلون حالات استثنائية تبدو باهتة أمام زخم الممارسات الدالة على أن النكوص المهنى أصبح سمتاً وصبغة. دعنا نتعرف على عددٍ من هذه الممارسات الشاهدة على هذا النكوص ومنها: عدم إتقان المهارات اللازمة لممارسة المهنة، إهمال عمليات الجودة المهنية والتعلم المستمر لمستجداتها، فهم المهنة على أنها أداة للصعود الطبقى والسياسى، تقدير المهنة على أساس مخرجاتها المادية، السعى نحو الحصول على المهن عبر الواسطة والمحسوبية، عدم الالتزام بالأكواد الأخلاقية للمهنة، تقليص الأداء المهنى (أو تقزيمه)، السماح بممارسات الفساد للتسرب إلى الأداء المهنى، هدر التقاليد المهنية الراسخة، عدم العناية بنقل المهارات المهنية واخلاقيات المهنة الى الاجيال الجديدة وتواتر الإهمال فى الأداء المهنى (الذى يؤدى فى بعض الأحيان إلى كوارث).
والمتأمل لهذه العناصر يكتشف أنها تصلح لبناء مؤشر للنكوص المهنى، الذى يمكن أن نفهمه على وجهين، الوجه الأول يرتبط بعدم الإجادة فى ممارسة المهنة؛ فالممارسون هنا لا يقدرون فى السرد (إذا كان لنا أن نتأول ما جاء فى القرآن عن صنعة السَابِغَات لدى نبى الله داود)، أى أنهم لا يبالغون فى الإجادة والعناية بإتقان الصنعة، ولا يدققون فى تفاصيل الأداء المهنى.
أما الوجه الثانى فيتمثل فى تفوق العناصر المادية للمهنة على ندائها الداخلى، فالمكسب المالى من المهنة، وما تدره من مكانه وسلطة، يسبق الشعور العميق بالواجب الأخلاقى.
وفى هذا الظرف تنطفئ الأخلاق أمام بريق المادة، ويحل الوهن الخلقى محل التوهج الخلقى، فيكون النكوص. ويتمثل الأمر الأكثر أهمية فى هذا الموضوع فى النتائج المباشرة وغير المباشرة التى يمكن أن تسفر عنه.
ويدلنا الاستدلال المنطقى على أن مزيداً من النكوص المهنى يعنى مزيداً من تدهور الطبقة، وشحوب دورها فى عملية بناء الأخلاق العامة، وإعادة إنتاجها عبر الأجيال. تغيب هنا النماذج الخلاقة التى تبث أخلاقها فى جسد المجتمع فيشتد عوده الأخلاقى وتزدهر فيه ذائقة الجمال، كما تنطفى روح التنافس الخلاق، وتقل معدلات الابتكار.
فالسعى نحو إعلاء الجوانب المادية والسياسية فى ممارسة المهنة يحول مسارات التنافس والابتكار من مسارات التطوير المهنى والأخلاقى، إلى مسارات إبداع أساليب واستراتيجيات لتعظم المكاسب المادية وإزاحة النابهين عن الطريق، وتحويل الاهداف المهنية الى اهداف اقتصادية وسياسية ، بحيث يضعف اسهام المهنة فى بناء الأخلاق العامة.
ولعل إمعان النظر فى كل هذه الخسائر يدفعنا إلى إعادة النظر فى فهم الخلل القيمى والأخلاقى فى مجتمعنا، الذى يبدو وكأنه يأتينا من عمق الطبقة الوسطى التى يتسرى أهلها بنقد الأخلاق العامة .
نقلا عن الأهرام.