تصعيد اضطراري: كيف تتجه حرب العملات الرقمية بين “بكين” و”واشنطن”؟

أعلنت الصين – أحد أكبر الاقتصادات في العالم – مؤخراً عن تطوير عملة رقمية تابعة للبنك فيما يعرف بتجربة (اليوان الرقمى). وهو النسخة الرقمية من اليوان العملة الوطنية للصين. وأصبح يتعين على البنوك تحويل جزء من احتياطاتها باليوان إلى شكل رقمي. كما يدرس بنك الشعب الصيني أيضًا إمكانية استخدام اليوان الرقمي في المدفوعات عبر الحدود، وتعد بكين من أوائل الدول التي خططت لطرح عملة وطنية إلكترونية منذ عام 2014، وبدأت أخيراً بتجربة استخدام “اليوان الرقمي” في مناطق عدة فيها كوسيلة دفع إلكترونية.
والفرق بين اليوان الرقمي والعملات المشفرة الحالية، هو وضعها القانوني؛ فاليوان الرقمي مقبول كعملة قانونية، لكن قانونية استخدام العملات المشفرة لا تزال غير واضحة. أما الفرق الثانى، يتمثل فى سيطرة الحكومة الصينية على اليوان الرقمى، فى حين صعوبة السيطرة على العملات المشفرة التى تعتبر لامركزية. ويعد الاختلاف الثالث، بين العملة المشفرة القياسية واليوان الرقمي هو إخفاء الهوية؛ فالأول مجهول؛ بدرجات متفاوتة اعتمادًا على العملة المشفرة، في حين أن الأخير ليس كذلك. فسوف تكون الحكومة الصينية قادرة على تتبع حركة العملة من خلال اقتصادها ومراقبة استخدامها.
أهداف الصين من إطلاق اليوان الرقمى:
جاءت أزمة كورونا، وما رافقها من إجراءات وقائية تفادياً من مخاطر تتعلق باستخدام النقود الورقية والمعدنية، وأصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً لتسريع طرح “العملات الرقمية” لتحل محل الأولى، بينما تظل متحكماً بها من قبل البنك المركزي. ومن هذا المنطلق، قامت الصين بإصدار اليوان الرقمي ليتم استخدامه بديلاً للأوراق النقدية والعملات المعدنية، بهدف تقليل الإقبال على استخدام العملات المشفرة، بحيث يلغى إحدى المميزات الرئيسة لعملة “بيتكوين”، التي لا تكشف عن هوية المستخدم، ومكافحة الأنشطة غير المشروعة، ومكافحة الفساد بطريقة أسرع وأكثر فاعلية. هذا بالإضافة إلى استكمال نظام المدفوعات الإلكترونية الذى تتبناه الحكومة الصينية. كما جاء إطلاق اليوان الرقمى للمزيد من السيطرة على كيفية إنفاق الناس لأموالهم، حيث يمكن من الوصول إلى الحسابات المصرفية، وغيرها من الخدمات المالية التقليدية. بل قد تمكن العملة الرقمية الحكومة الصينية من تتبع تدفق الأموال بشكل أفضل من خلال اقتصادها واتخاذ قرارات تخطيط أفضل، لأن تتبع الرموز الرقمية أسهل من تتبع النقود، كما وصفته الصين بأنه عملة مستقبلية من شأنها أن تجعل شراء الأشياء أكثر ملائمة وأماناً. كما يسمح للحكومة بإدارة المعروض النقدي في البلاد بشكل أفضل، كذلك يرضي رغبة الصين في الحد من النفوذ المتزايد لشركات التكنولوجيا الخاصة، وخدمات الدفع الرقمية الخاصة بها على النظام المالي في البلاد. والأهم أنه سيوفر قاعدة بيانات غير مسبوقة عن حال الاقتصاد الصيني، ما يساعد على وضع سياسات نقدية أكثر كفاءة، وأكثر قدرة على تحفيز الاقتصاد.
وإن كان من ناحية أخرى ، يرى البعض أنه من الممكن لاستخدام تقنية كهذه أن تكون أداة قوية في الحد من الحريات الفردية في حال استخدمات من جهات سلطوية. حيث أن التعامل الإلكتروني الكامل يمنح المنصة المركزية قدرة غير مسبوقة على المراقبة والتحكم بحركة الأموال والقرارات الشخصية، وهو أمر قد يكون سيئاً في حال كانت الجهة المركزية المتحكمة تمتلك رغبات لا تتماشى مع الحريات الفردية مثلاً.
حدود تهديد اليوان الرقمى للدولار الأمريكى:
ظهرت مخاوف كثيرة بشأن تأثير اليوان الرقمى على الدولار الأمريكى، وهل سوف يساعد الصين في التخلص من سيطرة الدولار في التجارة والمدفوعات الدولية، خاصة أن إدارة الرئيس الأمريكي (جو بايدن)، تعمل عن كثب على مراقبة خطط الصين لإطلاق اليوان الرقمي، في ظلِّ سيطرة حالة من القلق على المسئولين جراء تلك الخطوة، التي يعدُّها بعضهم بداية لمحاولة طويلة الأجل بهدف إسقاط الدولار بصفته عملة الاحتياطي المهيمنة دولياً. كما يريدون فهم كيفية توزيع اليوان الرقمي وما إذا كان يمكن استخدامه للتهرب من العقوبات الأمريكية، خاصة بعد انزعاج الصين من العقوبات الأمريكية على أكثر من 250 فرد وشركة صينية؛ وبالتالي قد يشكل اليوان الرقمي فرصة لإضعاف قوة العقوبات الأميركية ليس على الأفراد والشركات الصينية فحسب، إنما أيضاً على حلفاء بكين، وبخاصة الدول التي تصفها واشنطن بالمارقة، وعلى رأسها إيران وكوريا الشمالية.
تأسيساً على ما سبق، يمكن تحديد مدى تهديد اليوان الرقمي للدولار على مستويين، وهما: الأجل القصير، والثاني في الأجل الطويل، وذلك على النحو التالي:
(*) فى الواقع وتحديداً فى الأجل القصير، ربما لا يمثل اليوان الرقمى تهديدات واضحة للدولار الأمريكى لعدة أسباب، فمثلاً يتم تسعير السلع الحيوية مثل النفط والنحاس بالدولار الأمريكى، كما أن العملة الأمريكية تستخدم الآن لإكمال حوالي 88 ٪ من تداولات العملات الأجنبية الدولية بما يجعل الولايات المتحدة صاحبة الكلمة الفصل في تلك الأسواق، مقارنة بحوالي 4 ٪ لليوان الصينى، ويتم الاحتفاظ بأكثر من 60٪ من جميع احتياطيات البنك المركزي العالمي في أصول مقيمة بالدولار الأمريكى.
كما أن معظم المدفوعات عبر الحدود سواء للتجارة أو التمويل رقمية بالفعل، لذلك من الصعب تخيل تأثير كبير لليوان الرقمي على المدفوعات الدولية، فليس من الواضح ما إذا كان اليوان الرقمي سيدعم هدف إسقاط الدولار كعملة احتياطية في العالم، فقد يكون له تأثير إيجابي على التجارة عبر الحدود، بالإضافة إلى دعم جهود الحكومة الصينية للترويج لليوان كعملة عالمية، لكنه لا يمثل تهديدًا للدولار الأمريكي، خاصة فى ظل ضالة استخدام اليوان فى المعاملات الدولية، فمثلاً فى يوليو 2020 تم استخدام اليوان الصيني في نحو 1.9 % من جميع المدفوعات الدولية، في المقابل تم استخدام الدولار واليورو في 38.8 و36.5 % من المعاملات الدولية على التوالي.
كما أن الوضعية الراهنة للدولار في مواجهة اليوان تجعل من المستبعد أن يطيح اليوان الرقمي بالدولار، لكن يمكنه أن يحدث بعض الأثر خاصة بين الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وكذلك في بلدان القارة الإفريقية التي تستثمر فيها الصين بكثافة. وقدرت الزيادة في مدفوعات قارة إفريقيا باستخدام العملة الصينية 123 % في الأعوام الثلاثة الماضية (2018-2020)، بينما ارتفعت مدفوعات القارة السمراء بجميع العملات بنسبة 28%..
(*) أما فى الأجل الطويل، ثمة من يعتقد أن على الولايات المتحدة أن تحافظ على الظروف التي خلقت هيمنة الدولار في المقام الأول، كالإبتكار والإبداع والتقدم التكنولوجي والعسكري، لمواجهة تهديد اليوان الرقمي أو غيره من العملات، ومع أن الولايات المتحدة لا تزال أكبر مُنفق على الحروب والتسلّح في العالم، إلا أنها لم تعد صاحبة المركز الأول في الابتكار حيث تتعرّض لمنافسة شرسة من الصين في ميدان التكنولوجيا عموماً والاتصالات خصوصاً، كما هو الحال في تكنولوجيا الجيل الخامس على سبيل المثال لا الحصر. كذلك يمكن لعوامل مثل حجم الاقتصاد الصيني وتوقعات النمو المستقبلية، واندماج الصين أكثر في الاقتصاد العالمي أن تجعل من اليوان ذي طابع دولي أكثر من أي يوم مضى، وهذه العوامل مجتمعة قد تساهم في توسيع انتشار العملة الرقمية الصينية ومواجهة الدولار الأمريكى بشكل كبير فى الأجل الطويل، علماً أن هذه الخطوة تتطلّب مشروعاً سياسياً – اقتصادياً، وليست أمراً تقنياً فقط.
وفي النهاية يمكن القول، إن المستقبل القريب سيشهد تحولاً كبيراً من المجتمع النقدى إلى مجتمع لا نقدى من خلال نشر العملات الرقمية وتسهيل عمليات التجارة الإلكترونية ومراقبة السوق الرسمية بشكل أكثر دقة. كما أن حكومات العالم ستسعى جاهدة صوب إصدار العملات الرقمية لمواجهة العملات المشفرة، التى شهدت نموا متزايدا بهدف تحجيم دورها فى جذب المواطنين للسوق غير الرسمية بعيدا عن الرقابة، مما يفتح الباب للأعمال غير المشروعة بشتى أنواعها، وزيادة حالات التهرب الضريبي. فعلى سبيل المثال هناك مساعى من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي على إصدار(الدولار الرقمي)، كما يخطط البنك المركزي الأوروبي فى دراسات واسعة لاطلاق ( اليورو الرقمى). وفي السويد أصبح حجم النقد المتداول لا يتجاوز نسبة 1% من الناتج المحلي، وهى نسبة ضئيلة للغاية، كما أنها تتجه لنظم المدفوعات الرقمية بشكل كبير وبدأ لديها اختبار عملة “الكرونة” الرقمية E-Krona، تمهيدا لجعلها عملة رسمية، ما يجعل السويد أول دولة في العالم لديها عملة رقمية مشفرة تابعة لبنكها المركزي. وسوف تستمر محاولات التحول الرقمى فى مجال العملات الرسمية للبلاد خاصة مع تفشى وباء كورونا عالمياً، الأمر الذى أصبح له تأثير كبير جدًا على دعم انتشار العملات الرقمية ونظم الدفع الإلكترونية بشكل عام.