هل تنجح الوساطة العراقية في تحقيق التهدئة بين طهران والعالم العربي؟

تركز إيران سياستها في الحفاظ على نفوذها في العراق على أساس تشكيل حكومات مركزية يقودها الشيعة مع الحرص على ألا تخرج هذه الحكومات النفوذ الإيراني، وذلك نظرًا لامتلاك إيران لأوراق ضغطٍ قوية على الأرض في الساحة العراقية، مثل قوة السلاح، وانتشار واسع النطاق في ربوع الدولة العراقية والمحافظات الجنوبية الغنية بالنفط، وورقة الديون والمتأخرات المالية، وامتلاكها لأذرع سياسية ممثلة في البرلمان قادرة على التأثير في مهام الحكومة العراقية، والتجارة المتنامية بين البلدين مع الرغبة القوية في استخدام العراق كمنفذٍ للالتفاف على العقوبات.
ولتعزيز هذا الهدف الإيراني؛ فقد زاد الطموح لطهران في تطويد العلاقات مع العراق حتى تصبح بمثابة الوسيط لها في المنطقة العربية. وفي هذا التحليل لا نتطـرق لأهداف إيران ونفوذها في العراق فقط، بل أيضاً النفوذ الإيراني في العراق واستخدامها في دعم الوساطة في تطوير علاقاتها مع العالم العربي.
المكاسب القصيرة إلى متوسطة المدى:
عمليًّا، فقد حققت إيران الكثير من المكاسب المختلفة في العراق على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً، فأصبح لها وجود مسلح على الأرض العراقية وجماعات موالية في البرلمان والحكومة وبعض أجهزة الدولة. كما عززت علاقاتها الاقتصادية خلال السنوات الماضية إلى أن أصبح العراق ضمن أكبر الوجهات الخارجية للصادرات الإيرانية من غير النِّفط على مدى العاميْن الماضيَيْن، وهيمنت البضائع الإيرانية على حوالي أكثر من 25% من احتياجات السوق العراقي من المنتجات المستوردة خاصة الغذائية، كما صدرت إيران للعراق الكهرباء والغاز إلى أن أصبحت العراق مديونة لإيران وتتراكم عليها المتأخرات حاليا؛ لتكتمل بذلك حلقة إحكام القبضة على مفاصل الدولة العراقية من جهات مختلفة.
ولذلك، لن تقبل طهران فقدان مكاسبها في العراق، خاصة في الوقت الراهن الذي تمر فيه بأزماتٍ اقتصادية خانقة؛ بسبب العقوبات الاقتصادية الأمريكية وآثار تفشِّي فيروس كورونا؛ ما أسفر عن انكماشٍ اقتصادي حاد لن يقِل عن 6% خلال العام الجاري وَفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وتحقيق انهيارٍ قياسي في قيمة عملتها المحلية أمام الدولار واليورو، وتزايد عجز الموازنة والميزان التجاري، فضلاً عن تضخم مزمن فاق 40% خلال العام الماضي، وتفاقم أزمة البطالة مع انتشار كورونا وتوقف السياحة وتعطل التجارة الحدودية.
ولذا، فإيران في حاجة إلى البحث عن منافذ لتخفيف معاناتها الاقتصادية والشعبية، والالتفاف على الحصار المصرفي والنِّفطي والتجاري المفروض عليها، وتضع العراق على رأس هذه المنافذ. وعلى ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن إيران تمارس إيران نفوذها منذ سقوط صدام حسين، من خلال ثلاث سبل لمد نفوذه على السياسات العراقية، يمك تحديدها كالتالي:
(*) تعزيز نفوذه الديني والترويج لولاية الفقيه.
(*) التموضع على أنه المتحكم الرئيسى في النزاعات السياسية العراقية، حيث تساعد إيران حلفاءها على اختلافهم باكتساب المزيد من القوة خلال العملية السياسية العراقية، ثم تعمل على نشوب الخصومة فيما بينهم لتأتي منفذاً وتفض نزاعاً غالباً هي المسبب فيه.
(*) معايرة الأنشطة العنيفة بين الميليشيات الشيعية الموالية بمثابة وسيلة للضغط على الجهات الفاعلة السياسية.
النفوذ الإيراني ” الحلم الإيراني”:
تأسيساً على ما سبق، فإن طهران تسعى بشكل حثيث لتعزيز نفوذها الإقليمي لأنها تملك الطموح والإرادة والإمكانات، لكن المثير في الأمر أن البحث عن “دور” و”نفوذ” يتركز بشكل خاص على الدول العربية، وبشكل لا يخدم علاقات حسن الجوار ولا يساهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي، ويمكن الإضافة هنا أن الدعم الإيراني للميليشيات والتنظيمات السياسية والمسلحة في المنطقة العربية دائماً ما كان انتقائياً تحكمه دوافع مصلحية ضيقة ومشبوهة ساهمت بشكل واضح وكبير في زيادة حدة الاحتقان الطائفي والمذهبي في المنطقة، وعززت الانقسام والفرقة بين هذه التنظيمات، والأمثلة على ذلك كثيرة، كما في الدعم الإيراني لحزب الله في لبنان، وانتشار الميليشيات المسلحة في العراق، والزحف الحوثي في اليمن، وشق الصف الفلسطيني من خلال دعم حماس.
هكذا يبدو، جلياً أن إيران تعتبر الجناح الشرقي للعالم العربي نطاقًا استراتيجيًا مهمًا لأمنها القومي، وهكذا كانت الحال منذ إنشاء الدولة الصفوية في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وسنحت الفرصة لتحقيق هذا “الحلم الإيراني” بعد سقوط نظام صدام حسين وتعزز بشكل واضح بعد الانسحاب الأميركي من العراق، حيث سعت إيران إلى ملء الفراغ السياسي والأمني، ما جعل طهران صاحبة النفوذ الأبرز في العراق في الوقت الحاضر، وهي تحاول الآن فعل نفس الشيء في سوريا، وفي لبنان خلق الدعم الإيراني اللامحدود لحزب الله دولة داخل الدولة اللبنانية، الأمر الذي عزز الانقسام اللبناني، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أصبحت صنعاء العاصمة العربية الرابعة التي تقع في فلك النفوذ الإيراني.
حقيقة الوساطة العراقية:
يدرك العراق جيداً أهمية تواجده في نسقه الاستراتيجي العربي، وعمقه الاستراتيجي العربي، ويدرك المصلحة المشتركة بينه وبين مجموعة الأطراف في دول الخليج على وجه أخص، كما أنه في ذات الوقت يتمتع العراق بعلاقات استراتيجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هذا التنسيق والتواصل يدفع نحو بيئة مشتركة لمواجهة أهم المخاطر والتحديات التي تعصف بالمنطقة، وهو ما دفع إلى هذه الوساطة، وسعى العراق لتطوير علاقات التعاون والتقارب بين إيران والدول العربية، والعمل على التقارب، والتي من شأنها تنعكس على منظومة الأمن الشامل لكل الأطراف الفاعلة في المنطقة، وقد أعلنت الجمهورية الإسلامية موافقتها الرسمية ودعمها لتلك الوساطة لتقريب الرؤى مع الدول التي حدث فتور في العلاقات معها.
وهنا يأتي الدور الفاعل للعراق كمنصة متقدمة بوصف العراق المحور، الذي يعمل على تعزيز ذاته وفق قاعدة الشراكات المتعددة مع جميع الأطراف وبناء الدوائر الاقتصادية المتعددة مع كل الأطراف. ولتوضيح ما سبق، يمكن طرح هذا السؤال والإجابة عنه، هو: أي مدى ستؤثر الوساطة العراقية على العلاقات مع دول الخليج؟:
فمن الواضح، أن العراق يثمن مستوى ومعدلات الارتقاء الملحوظة بين العراق وبين دول الخليج، ومستوى العمق الاستراتيجي مع الدول العربية بشكل أعم، وفي الوقت الذي يتم رفض واستنكار لأي اعتداء يقع على أي دولة عربية، ويهدد أمنها واستقرارها، لكن في الوقت ذاته فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذات أهمية للعراق، حيث قدمت للعراق الدعم اللوجستي والاستراتيجي خلال مواجهته مع عصابات داعش التكفيرية، كما يثمن العراق دور الأشقاء العرب ودول الخليج بشكل أخص، بشأن اعتزامها الوقوف إلى جانب العراق في مرحلة ما بعد “داعش”، وهي مرحلة إعادة الاستقرار والإعمار والاستثمار، وهنا يبرز أهمية الدو العربي الذي من شأن أن يلعب دوراً بارزاً في مقاربات عربية عربية تعزز الاستقرار في المنطقة.
وساطة عراقية بين طهران والرياض:
عملت طهران على تشجيع وساطة الحكومة العراقية لتقريب علاقات إيران بالرياض، وذلك بعد المحادثات بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين في العراق، حيث أكد مسئول حكومي عراقي أن وفداً سعودياً برئاسة رئيس المخابرات “خالد بن علي الحميدان”، ووفداً إيرانياً برئاسة مسؤولين مفوضين من قبل الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي “على شمخاني، وتعد هذه المفاوضات التي جرت في بغداد بين الخصمين الإقليميين، بعد 5 سنوات من قطع العلاقات الدبلوماسية، فقد اجتمعا في بغداد مطلع أبريل الجاري، واستهدفت المباحثات على تحسين العلاقات” بين إيران والسعودية، حيث”كانت هناك خلال الشهرين الأخيرين العشرات من الزيارات المتبادلة بين كبار مسؤولي ووزراء البلدين ومشاوراتنا وثيقة جدا”، وقد شملت ملفات التوتر الخلافية بين الجانبين، بما فيها هجمات الحوثيين المتحالفين مع ايران في اليمن نحو الأراضي السعودية.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول إنه نظرًا لتلك العلاقة الجيدة التي تربط بغداد وكل من طهران والرياض في الوقت الراهن، هذا الأمر يؤهلها للعب دور محوري وفاعل، كما أن هناك ضرورات لمثل هذا الدور، حيث وصلت الأحداث في اليمن إلى مرحلة تتطلب توافقات تخرج السعودية من المستنقع اليمني، وهو ما يعطي انطباعاً بأن هذا الأمر قد يكون مطروح أو موجود بالفعل، لكن التأكيد الرسمي غير موجود أو غير معلن حتى الآن.
كما أنه لا يمكن التغافل عن بعض النقاط الخلافية والتي لا يمكن تجاوزها بين السعودية وإيران، من بينها تخلي إيران عن سياساتها القديمة تجاه المنطقة والعالم العربي على وجه التحديد، حيث تستطيع السعودية التحدث بشكل مباشر مع طهران، لكن السلوك الإيراني هو الذي يجعل الدول تتخذ الكثير من الاحتياطات، مثل سلوكهاالتمددفي المنطقة العربية ودعم الإرهاب، التدخل في الشأن الداخلي والسلاح النووي، وكذا المخاوف البيئية والأمنية.
في النهاية، يمكن القول إن نمو الدور المستقبلي لإيران في المنطقة العربية، بات يشكل تهديداً صريحاً للمصالح العليا للدول العربية، ما لم تتبن تلك الدول استراتيجية أشمل، قائمة على أسس ومعطيات تتجاوز ما أفرزته الثورات العربية من تقاطعات وتحالفات، تتلخص ملامحها في الأتي:
(&) التصدي للدور الإقليمي المتنامي للمشروع الطائفي الإيراني-نشر النفوذ الشيعي- والحد من حالة”الاستقطاب السياسي” السائدة في المجتمعات العربية وما نتج عن ذلك من عنف، الذي سيساهم في تشكيل “شريط سني”، لا يكون هدفه إقصاء الأقليات المذهبية والعرقية بقدر ما يسعى إلى تفويت الفرصة على القوى الخارجية، الإقليمية والأجنبية، التي تسخر الورقة المذهبية والدينية لتعزيز نفوذها في الثغور العربية، في الوقت ذاته الذي سيؤدي ذلك إلى عزل وتهميش قوى التطرف والعنف والإرهاب في المنطقة.
(&) تشكيل محور إقليمي عربي، ومثل هذا التوجه يتطلب بعض السياسات التصحيحية، بحيث يتم تقريب وجهات النظر بين الدول العربية، يتم من خلاله تجاوز الخلافات العربية، والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والعمل على خلق علاقات تعاونية أساسها التوافق وليس الاختلاف.
(&) مواصلة تعزيز العلاقة مع بعض الدول الغربية المتفهمة للهموم العربية، التي تتبنى سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يجعلها أكثر تفهماً وأكبر قدرة على مساندة التوجهات السياسة العربية، وما ينتج عنه من سياسات إقليمية أشمل.