الحصار الدبلوماسي

رغم قوة الطرح الذي يذهب إليه بعض المراقبين بناء علي رأي خبراء السدود، بأن الحملة الإعلامية المصاحبة لقرار إثيوبيا بالملء الثاني، وحتى القرار نفسه، هو ضغط سياسي فقط الغرض منه، هو وضع الخصم تحت أقصي درجات الضغط للحصول علي أقصي حد من التنازلات. فيرى خبراء السدود أن إثيوبيا حتى ولو قامت بتجفيف الممر الأوسط تمهيدا لتعليته، فإن الكتلة الغربية للسد، والتي تقع بجوار بوابات الطوارئ والبالغ طولها700 متر من المفترض أن يتم عليها أعمال معدنية لتركيب التوربينان الـ 10 والتي سيصب عليها خرسانات مسلحة ضمن مرحلة تعلية القطاع الأوسط لزوم الملء الثاني.

ونؤكد أن هناك صور وفيديوهات تظهر المنطقة المذكورة وتأكد ما تم ذكره سابقا، فقد كان أخرها اللقطات التي غرد بها آبي احمد يوم الأحد 18 أبريل، والتي أظهرت بوابات الطوارئ، وتصريفها للمياه، وكذلك أظهرت أن منطقة الكتلة الغربية لا توجد بها أي أعمال حتى الآن. وأيضا ما يؤكد ما ذهب إليه أصحاب هذه النظرية، هو ما أعلنته شركة المقاولات الصينية Voith Hydra Shanghai في 11 ابريل الحالي، وتأكيده على أنها نجحت في تركيب الالواح المعدنية اللازمة للتوربين الأول فقط، مع العلم أن باقي الأعمال المعدنية اللازمة للتسعة الباقين يلزمها وقت لا يقل عن شهرين للانتهاء منها. ومن السابق، يمكن إبراز الطرح القائل، بأن بوروباجندا الملء الثاني سياسية خالصة, غير أن الواقع يشير إلى أن القاهرة قد وضعت في خاطرها ضرورة السعي في إنهاء هذا الملف بصرف النظر عن ألاعيب أديس أبابا أو جديتها بالسير وبكثافة ملحوظة في اتجاهين متوازيين رغم ان كلا منهما يغذي الآخر:-

الاتجاه الأول :- الردع الاقليمي:

إن ما تقوم به الدبلوماسية المصرية هذه الأيام من تحركات في العمق الإفريقي، وخاصة في دول الحوض ضمن استراتيجية العودة إلي الجذور، يأتي داعماً لقضية وتصحيح مسار أزمة سد النهضة، فسواء انتهي ملف السد بالتوافق أو بضربة عسكرية ستكون تلك الحملة الدبلوماسية مهمة، وضرورية لاستكمال استعادة الدور المصري في القارة، الذي بدأت إرهاصاته منذ عام 2014.

فالمقارنة بين مواقف دول الحوض تجاه القاهرة في أبريل 2010، وأبريل الجاري يؤكد وبوضوح على أن هناك جهد مصري مضني قد بذل من خلال مثل هذه القفزات الدبلوماسية، وكذا الأعمال الضخمة التي تقوم بها الشركات المصرية بتكليف رئاسي في دول الحوض محدثة طفرة من الترابط والمشاركة لم تحدث منذ الحقبة الناصرية.

كما، أنه لابد من التأكيد علي أن تلك التحركات الدبلوماسية ئؤسس لمرحلة جديدة وهامة مع هذه المنطقة، لأن القضية التي خلقها السد أو عبر عنها ستظل قائمة بهذا السد أو من غيره، فلابد من التموضع القوي في هذه المنطقة، وعدم ترك أي مساحة من الفراغ تتيح لأي تداخل أو اختراق إقليمي أو دولي يملئ هذا الفراغ حتى لا يهدد الأمن المائي مرة أخري أو تمارس علي القاهرة سياسة شد الأطراف كما هو الحال الآن.

فهذه التحركات، سواء كانت تتجسد في شكل اتفاقات أمنية عسكرية، كالتي تمت مع أوغندا والسودان وبوروندي أو التي تأتي علي شكل تواصل دبلوماسي، مثل ما تقوم به حاليا الخارجية المصرية، ورحلة الوزير سامح شكري إلي كينيا وجزر القمر وجنوب أفريقيا والكنغو الديمقراطية والسنغال وتونس، والتي تهدف بالأساس إلي شرح وجهة النظر المصرية وإظهار التعنت الإثيوبي ومصيرية القضية بالنسبة للشعب المصري، وعدم تقدير الجانب الإثيوبي لما قد تؤل إليه الأمور إذا استمر الموقف لا يراوح مكانه دون إزالة كافة تخوفات دول المصب باتفاق قانوني ملزم يضمن لهما أمنهما المائي.

وكذلك، طرح الرؤية المصرية لمستقبل التعاون بين دول الحوض خاصة دول النيل الشرقي والخطط الاستثمارية التي يجب أيضا أن تتم وفق اتفاق ملزم يمكن الدول من إقامة المشاريع، التي من شأنها زيادة إيراد النيل، وترويض المياه الخضراء التي تسقط علي هضبة الحبشة بأرقام ضخمة، وكذلك إحياء مشاريع قد توقفت بإيعاز إثيوبي كمشروع قناة جونجلي بجنوب السودان. كما أن هناك هدف أخر، يأتي في أخر النفق، وهو تجييش الرأي العام الإفريقي لمساندة الموقف المصري، وخاصة داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، إذا ذهبت الأمور في طريق لا يحمد عقباه، وهو بكل تأكيد سيكون له تاثير قوي علي القرار الدولي إن حدث الصدام.

الاتجاه الثاني :-الردع الدولي:-

ويتمثل هذا الاتجاه في فيما تقدمت به مصر بخطاب شارح لما وصلت إليه مفاوضات سد النهضة، وتخوفاتها من عدم وجود اتفاق ملزم يحكم تصرفات الأطراف، وخاصة الطرف الإثيوبي، ويحفظ حقوق دول المصب، وكذلك مدي تهديد إقدام إثيوبيا علي التصرفات الأحادية كالملء الثاني لحياة الشعب المصري بأكمله. وطالبت الرؤية المصرية إلي ضرورة ضغط المجتمع الدولي علي إثيوبيا للانخراط في تفاوض مثمر بإرادة سياسية مؤهلة للتعاون من أجل الوصول إلي اتفاق ملزم يضمن حقوق جميع الأطراف، لكنها أيضا ألمحت إلي مدي تأثير هذا التازم في ملف السد علي الاستقرار والأمن في المنطقة.

وقد يتساءل البعض عن جدوى مثل تلك المذكرة التي قدمت لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وطلبت مصر تعميمها علي الدول الأعضاء إلا أن الغرض منها واضح بين فقد وضعت القاهرة جل المجتمع الدولي في عين الحدث، وتعتبر هذه المذكرة دعوة لكافة الدول والقوي الدولية بالأخص للتدخل لحلحلة الجمود في المفاوضات، وإنقاذ المنطقة التي تحتوي علي مصالح هامة لتلك القوي. كما تعد هذه المذكرة حجة أدبية هامة، إذ اندلع الخلاف وأخذ منحي عسكري. كما لإثيوبيا أيضا أصوات حالت وستحول دون صدور قرار ملزم لها بإيقاف الأعمال أو حتى الإدانة, وليس أدل علي ذلك من أهمية تلك الخطوة المصرية في سبيل الردع الدولي من قيام اثيوبيا بشكوى مصر والسودان إلي نفس المنبر داعية الي ضرورة الضغط الدولي عليهم للعودة إلي المفاوضات.

في النهاية، يجب أن نذكر بعض الأرقام التي توضح مدي الغبن والتضليل الإثيوبي والجور علي مصر والسودان أيضا بطلبها إعادة تخصيص مياه النيل ناسية أو متناسية أن نظام تقسيم الحصص يشمل جميع ما تحتوي علية أراضي الحوض من مياه ومسطحات بكافة أنواعها ففيما يخص المياه الخضراء، وهي مياه الأمطار تسقط علي إثيوبيا 943 مليار متر مكعب،  وهي مياه متجددة في حين يأتي نصيب مصر حوالي مليار متر مكعب فقط سنويا. وكذلك تستخدم إثيوبيا ودون رقيب ومنفردة مياه بحيرة تانا البالغة 50 مليار متر مكعب وهي مياه متجددة أيضا كذلك لديها مخزون مياه جوفية حوالي 40 مليار متر مكعب، وهي أيضا مياه متجددة بحكم كثافة الأمطار، أيضا تستهلك من مياه الأمطار حوالي 84 مليار متر مكعب في النمو العشبي للمراعي، وتغذية ثروتها الحيوانية الضخمة، يضاف إليهم جميعا 74 مليار متر مكعب، وهو ما سيخزنه سد النهضة. أيضا وبحسب ما نشره موقع Frecked تأتي إثيوبيا في المركز السابع عالميا في تعداد الدول التي تمتلك اكبر مساحات من المسطحات المائية، فهي تمتلك منها ما مساحته 105 كيلو متر مربع بنسبة 1.3% من مساحة إثيوبيا, تبلغ نسبة سكان إثيوبيا 20% من عدد سكان حوض النيل وتنتفع بنسبة 23% من كمية مياهه الخضراء. أما مصر فنسبة سكانها أيضا 20% وتنتفع بنسبة 3% فقط من مياه الحوض الخضراء، لذلك نري أنه بات علي المفاوض المصري أن يطالب بزيادة الحصة المصرية التي مر علي تقديرها أكثر من 60 سنة، حيث تضاعف عدد السكان عشرات المرات وهي ثابتة, ويبقي الإقرار بأهمية تحركات الخارجية المصرية الآن وعلي المدى البعيد وأن كانت متأخرة إلا أنها أتت.

د. عبد الناصر مأمون

المشرف على وحدة الأمن الإقليمي -حاصل على دكتوراه العلاقات الدولية كلية الدراسات الأفريقية العليا. -حاصل على ماجستير العلوم السياسية جامعة القاهرة. -باحث مشارك المؤتمر الدولى حول تحقيق التنمية المستدامة في أفريقيا. -باحث مشارك في المؤتمر العلمي الدولي بجامعة القاهرة حول الأمن في أفريقيا. -محلل زائر في الشأن الأفريقي لدى العديد من القنوات الفضائية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى