من “ترامب” إلى “بايدن”.. هل يحدث تغير في العلاقات الاقتصادية بين بكين وواشنطن؟
على الرغم من بداية فترة جديدة فى الإدارة الأمريكية بتولي “جو بايدن” رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية منذ 20 يناير 2021، إلا أن التوتر فى العلاقات الأمريكية الصينية مازال قائمًا، والذى نشأ فى الأساس بسبب محاولات الإدارة الأمريكية الدائمة لتقييد التنامى السريع للاقتصاد الصينى وحضور بكين المتزايد فى الشرق الأوسط وإفريقيا، سواء من خلال التضييق على الشركات الصينية فى واشنطن والاقتصاد الصينى بشكل عام أو استخدام العلاقات الاقتصادية بين البلدين كسلاح ضغط، وكذلك من خلال الاعتراض والتدخل فى القضايا المتعلقة بتايوان وهونج كونج أو نشاط بكين في بحر الصين الجنوبي أو التعامل مع الإيغور بمقاطعة تشينجيانج وأي قضايا أخرى، وأيا كان التعامل الأمريكى مع بكين، فخطورته لا تكمن فى تأثر اقتصادات البلدين فقط، والتى تمثل أقوى اقتصادين فى العالم، بل تمتد أثاره إلى الاقتصاد العالمى ككل.
وتأسيسا على ذلك، فإن آفاق العلاقات الاقتصادية بين واشنطن وبكين يكمن فى تحليل أوجه التشابه والاختلاف فى تعامل كل من الرئيس الأمريكى الحالي “جو بايدن” والرئيس السابق ” دونالد ترامب”، والتى يمكن من خلالها وضع سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية فى ظل الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة “بايدن”، وذلك فى ظل ما تمثله المنافسة بين بكين وواشنطن من مؤشر على شكل النظام الدولى فى السنوات القادمة.
التشابه بين “ترامب” و”بادين” فى التعامل مع بكين:
تعتبر العلاقات الأمريكية الصينية علاقات معقدة تتراوح بين التقارب حينا والتصارع حينا أخر؛ ويرجع ذلك بالأساس إلى اختلافات مصالح كل منهما عن الأخرى؛ فالولايات المتحدة تنظر إلى الصين على أنها قوة ناهضة بات لها دورها الإقليمى والعالمى بما يمكن أن يهدد مصالحها الحيوية وأمنها القومى، كما تنظر الصين إلى الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة ذات المصالح المتشعبة على مستوى العالم، وضرورة التوجه نحو عالم متعدد الأطراف لا تكون فيه هيمنة أمريكية بل توازن بين القوى المختلفة.
وقد اتفق كل من الرئيس الأمريكى السابق “دونالد ترامب” والرئيس الحالى “جو بايدن” فى أن التنامى السريع للاقتصاد الصينى والحضور المتزايد فى الشرق الأوسط وإفريقيا هو أمر لابد من تقييده، لا سيما وأن تنامى الاقتصاد الصينى والصعود الكبير للشركات الصينية كان له تأثيره السلبى على الاقتصاد الأمريكى، من خلال ما تمارسه الشركات الصينية من قرصنة فكرية للمنتجات ذات الأصل الأمريكى من برامج الكمبيوتر والأعمال الفنية المرئية والمسموعة والكتب والعلامات التجارية، وتشجيع الشركات الأجنبية لنقل تكنولوجياتها إليها، فضلا عن تلاعب الشركات الصينية بالبورصات الأمريكية، وممارسات الإغراق بالسوق الأمريكى.
كما تعترض واشنطن بشكل دائم على ما تسميه الإدارة الأمريكية “بالممارسة غر العادلة” لبكين فى التجارة العالمية، وممارسات الإغراق التى تمارسها الشركات الصينية بالأسواق، واستفادة الصين من انضمامها إلى منطمة التجارة العالمية منذ عام 2011، بصفتها دولة نامية وحصولها على امتيازات الدول النامية، فى حين تعارض واشنطن ذلك باعتبارها بكين دولة متقدمة وليست نامية، وقد أكد “ترامب” على هذا الاعتراض مرات عديدة بداية من حملته الانتخابية حتى توقيع المرحلة الأولى من الاتفاق التجارى مع بكين فى بداية العام السابق 2020.
وقد بدأ التوتر فى العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية فى عهد “ترامب”، منذ بداية بداية حملته الانتخابية عام 2016، وتهديده بالثأر من الصين أكبر شريك تجارى لواشنطن، بسبب اعتراضه على العديد من السياسات التى تنتهجها، ومنها السياسات الخاصة بالملكية الفكرية والتكنولوجيا والابتكار، والتى تجعل الميزان الجارى بين الطرفين فى غير صالح واشنطن وإضرارها بالعديد من المصانع الأمريكية.
وعلى الرغم من، عدم وجود تصريحات حادة من قبل “بايدن” تجاه الصين أثناء حملته الانتخابية وانتقاده لتعامل “ترامب” مع بكين، إلا أن “جينا ريموندو” التي تتولى منصب وزير التجارة بإدارة “بايدن”، تعهدت خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكى فى 26 يناير 2021 بأن تكون حازمة مع الصين بسبب ممارساتها التجارية “المنافية لقواعد المنافسة”، كما أكد “بايدن” خلال مؤتمر صحفى فى 25 مارس 2021، بأن الولايات المتحدة تصر على أن تلتزم بكين بالقواعد الدولية في ما يتعلق بالمنافسة النزيهة والتجارة العادلة.
ولم يغيب الاعتراض على التعامل الصينى مع تايوان وهونج كونج وملف حقوق الإنسان، عن إدارة كل من “ترامب” و”بايدن”، حيث أكد الاثنان اعتراضهما تجاه تلك القضايا، ولكن كانت إدارة “ترامب” تستغل تلك القضايا للتهديد بفرض عقوبات اقتصادية والتضييق على الاقتصاد الصينى.
الاختلاف بين “ترامب” و”بايدن” تجاه بكين:
على الرغم من جود أرضية مشتركة فى أوجه اعتراض كل من “ترامب” و”بايدن” على الممارسات الصينية سواء داخل السوق الأمريكى أو الاقتصاد العالمي، إلا أن هناك أوجه اختلاف فى تعامل كل منهم تجاه تلك المسألة، وهو ما يمكن توضحيه فى النقاط التالية:
(*) “ترامب” السابق:
إذا نظرنا إلى تعامل “ترامب” مع بكين نجد أنه أخذ منحنى ذو اتجاه متذبذب متماشيا مع شعار “أمريكا أولا”، فقد بدأ التوتر فى العلاقات الأمريكية الصنية فى عهد الرئيس السابق “دونالد ترامب” منذ العام 2017، حين صعدت واشنطن من تهديداتها فيما يتعلق بفرض رسوم حمائية على وارداتها من الصلب وصفائح الألومنيوم، بتطبيقها رسوما جمركية فرضتها على وارداتها من صفائح الألومينيوم من بكين والمقدرة بنحو 400 مليون دولار في السنة، وتطور هذا التوتر بين الطرفين إلى أن شهد الاقتصاد العالمى حربًا تجاريًا بين أكبر قوتين اقتصاديين فى العالم استمرت نحو عامين، كما صنفت وزارة الخزانة الأمريكية لبكين فى 5 أغسطس للعام 2019، رسمياً بأنها دولة “متلاعبة بالعملة”، تطبيقاً لقانون التجارة الخارجية والتنافسية الشامل لعام 1988، والذى يتيح لوزارة الخزانة الأمريكية تحليل سياسات سعر الصرف في البلدان الأخرى، وفقاً لما تنص عليه المادة 3004 من هذا القانون “النظر فيما إذا كانت البلدان تتلاعب بسعر الصرف بين عملتها ودولار الولايات المتحدة الأمريكية لأغراض منع تسويات ميزان المدفوعات الفعلية أو الحصول على ميزة تنافسية غير عادلة في التجارة الدولية”.
وقد انتهت الحرب التجارية بين البلدين بالتوقيع على المرحلة الأولى من اتفاق التجارة في 15 يناير 2020، والذى أصبح ساريًا اعتبارًا من 15 فبراير لنفس العام، ولكن استمر التضييق الأمريكى على بعض الشركات الصينية وأشهرها شركة “هواوى”.
ثم عاد هذا التوتر مرة آخرى بعد ظهور فيروس كورونا المستجد بمدينة وهان فى الصين نهاية ديسمبر 2019، وانتشاره السريع فى غالبية دول العالم، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية بداية من شهر مارس 2020، لتصبح أعلى دول العالم فى عدد حالات الإصابات بالفيروس، وتصاعد الاتهامات الأمريكية لبكين بأنها المسئول عن انتشاره ويرجع مصدره إلى مختبر بمدينة وهان الصينية، والتعمد فى إخفاء معلومات بشأنه وممارسة الضغط على منظمة الصحة العالمية معها لإخفاء هذه المعلومات وتأخير إعلانه كوباء عالمى.
والجدير بالذكر، أن الحرب التجارية التى خاضها “ترامب” ضد الصين قد ساعدت في خفض عجز الميزان التجارى الذى تحققه واشنطن مع بكين، ليصبح 310.8 مليار دولار للعام 2020، بانخفاض قدره 26.1% عن عام 2018، و17.4% عن عام 2017، مدفوعًا بتراجع بلغ 19.3% في قيمة الواردات الأمريكية من الصين عام 2020.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على بيانات مكتب التعدادات الأمريكى
(*) “بايدن” الرئيس:
على الرغم من الرئيس الأمريكى الحالي “بايدن” لم يعلن عن أية إجراءات سيتم اتخاذها تجاه الصين أثناء حملته الانتخابية، وقضى معظم حملته في انتقاد سياسات “ترامب” تجاه بكين، كما وصف الاتفاق التجارى الذى وقع “ترامب” المرحلة الأولى منه مع بكين بأنه “فارغ”، لكنه لم يحدد موقف من إذا كان يتم إلغاء التعريفات المفروضة حالياً على السلع الصينية، أو التفاوض لأجل اتفاق تجارى جديد.
ولم يستمر “بايدن” على هذا النهج طويلا، فسرعان ما أكمل مسيرة التقييد الاقتصادى على بكين، حيث أشارفي أول خطاب له حول السياسة الخارجية إلى استعداد واشنطن للعمل مع بكين عندما يكون ذلك في مصلحة أمريكا، وفى وثيقة “التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي” التى أصدرها البيت الأبيض فى 3 مارس 2021 لتحديد ملامح السياسة الخارجية للولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع المقبلة، تم النص صراحة بعمل واشنطن على ردع العدوان الصيني والتهديدات المضادة للأمن الجماعي، ومواجهة الممارسات التجارية غير العادلة وغير المشروعة والسرقة الإلكترونية والممارسات الاقتصادية التي تضر بالعمال الأمريكيين، كما سيتم دعم جيران الصين وشركائها التجاريين في الدفاع عن حقوقهم في اتخاذ خيارات سياسية مستقلة خالية من الإكراه أو التأثير الأجنبي غير المبرر، إلى جانب تعزيز التنمية ذات القيادة المحلية لمكافحة التلاعب بالأولويات المحلية، من خلال دعم تايوان، التي تعد شريك اقتصادي وأمني مهم، والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، بما في ذلك في هونغ كونغ وشينجيانغ والتبت.
وفى أول مؤتمر صحفى رسمى له فى نهاية مارس 2021 منذ توليه منصبه، أكد “بايدن” بأنه أن يرى منافسة شديدة مع الصين، مصرحًا بأن “الصين لديها هدف عام، وأنا لا أنتقدهم على الهدف أن يصبحوا الدولة الرائدة، وأغنى دولة في العالم، وأقوى دولة في العالم، لكن هذا لن يحدث في عهدي”، وفى 8 أبريل 2021 أعلنت وزارة التجارة الأمريكية إضافة 7 كيانات صينية متخصصة في أجهزة الحوسبة الفائقة إلى قائمة الشركات الخاضعة للعقوبات، بحجة تمثيلها تهديدا للأمن القومي الأمريكي.
ويعنى كل ما سبق بأن سياسة الرئيس “بايدن” تجاه الصين لا تزال قيد الإعداد والصياغة، ولم يتم تحديد ملامحها كاملة وكيفية تنفيذها بعد.
سيناريوهات محتملة:
فى ضوء التوتر الذى بات سمة مميزة للعلاقات الأمريكية الصينية فى كافة المجالات، وإكمال “بايدن” مسيرة التقييد الاقتصادى على بكين، هناك ثلاث سيناريوهات محتملة للعلاقات الاقتصادية الأمريكية الصينية، وهى كالتالى:
(&) السيناريو الأول، تصاعد التوتر بين بكين وواشنطن: يؤكد هذا السيناريو التهديد الصريح لـ “بايدن” فى أول مؤتمر صحفى له على رفضه أن تصبح الصين أغنى اقتصاد فى العالم خلال عهده، ومواصلة إدارة التجارة الأمريكية فرض عقوبات على شركات صينية فى عهده، وتأكيدها على إصرار الولايات المتحدة على أن تلتزم بكين بالقواعد الدولية في ما يتعلق بالمنافسة النزيهة والتجارة العادلة.
(&) السيناريو الثانى، يتمثل في سعى واشنطن لتدخل أطراف جديدة فى التضييق على الاقتصاد الصينى مع استمرار محاولات الإدارة الأمريكية للتقييد على هذا الاقتصاد: وهو ما يمكن أن تنجح إدارة “بايدن” فى تنفيذه، باستقطاب تأييد الاتحاد الأوروبى لمنع الممارسات غير العادلة من قبل الصين، واستخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلة للرد على ما تعتبره واشنطن من انتهاكات تمارسها الصين فى ملف حقوق الإنسان والاعتراض على التعامل الصينى فى قضايا تايوان وهونج كونج، ورفض التقارب الصينى الإيرانى.
(&) السيناريو الثالث، وقوف التوتر بين بكين وواشنطن: وهو سيناريو مستبعد، خاصة وأن إدارة “بايدن” لم تتخذ حتى الأن قرارا بإكمال الاتفاق التجارى الذى وقعه “ترامب” مع الصين، أو إلغاء الرسوم الجمركية التى تم رفعها على السلع الصينية فى عهد “ترامب”، وتأكيد هذه الإدارة على منع الممارسات غير العادلة التى تمارسها الصين فى التجارة العالمية، ورفضها تفوق الاقتصاد الصينى على نظيره الأمريكى.
وفى حالة تحقق أيا من السيناريو الأول أو الثانى فسيكون لذلك عواقبه غير المحمودة على الاقتصاد العالمى، ولنا فى ذلك مثال بشأن تداعيات الحرب التجارية بين بكين وواشنطن فى عهد “ترامب” والتى أدت إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى، تأثرا بتلك الحرب بجانب عوامل آخرى، حيث تراجع النمو الاقتصادى العالمى إلى 3.6% للعام 2018 مقارنة بـ 3.8% للعام 2017، ومن المتوقع أن يصل إلى 3% بنهاية العام الحالى 2019، ليسجل بذلك أدنى مستوى له منذ عام 2008-2009.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على قاعدة بيانات صندوق النقد الدولى–أكتوبر2019
وختامًا، يبدو أن إدارة الرئيس “بايدن” أدركت ما أعتنقه “ترامب” بأن العدو الاقتصادى الحالى للولايات المتحدة الأمريكية هى الصين، وأن هذه الدولة ذات التنامى الاقتصادى السريع، لابد من تقييدها بكافة الطرق والوسائل الممكنة، وبتداخل القضايا السياسية ضمن محاولات وإجراءات التقييد الاقتصادى، ولن يكن وضع الميزان التجاري بين البلدين هو العامل الوحيد الذي تتخذ على أساسه القرارات كما كان فى عهد “ترامب”، بما يمهد بمستقبل للنظام الدولى يحمل صراعًا اقتصاديًا لم تتحدد أبعاده ومدته بعد، ولكنه من المؤكد يبشر بوجود نظام دولى جديد تكون للصين فيه دور فاعل ومؤثر.