المشهد الليبي وتطوراته.. ما هي دلالات زيارة رئيس الوزراء المصري إلى طرابلس؟
في مرحلة تتسم بالسلام الهش غير اليقيني، والقابل للتحول في أي وقت، يشهد الملف الليبي زخماً دولياً وإقليمياً ملحوظاً، بيد أن الصبغة الغالبة على هذا التنافس قد تغيرت خلال هذه المرحلة، فلم تعد الأدوات العسكرية تتمتع بأولوية في إدارة ملامح هذه المرحلة، بل أضحت الأولوية للأدوات الاقتصادية، في إطار مساعي كل الفواعل لتعزيز مكاسبهم الاقتصادية في هذا الملف الملتهب منذ نحو عقد كامل، حيث تسعى كل دولة إلى الظفر بنصيب من مشروعات إعادة الإعمار التي قدرتها بعض المؤسسات الدولية بعشرات المليارات، وقد جاء قرار مجلس الأمن الدولي الأخير ليعزز من فرص إنجاح المسار السياسي للأزمة الليبية بعد سنوات من الإنقسام والصراع، وفي ضوء ذلك تأتي الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء “مصطفى مدبولي” إلى طرابلس في 20 أبريل الجاري – بتكليف من الرئيس عبد الفتاح السيسي- لتدشن مرحلة جديدة من الحضور المصري في ليبيا، وتعزيز العلاقات بين البلدين في كافة المجالات.
أهمية خاصة:
تمثل هذه الزيارة أهمية خاصة بالنسبة لمصر، فهي وإن تأتي في إطار الجهود المكثفة لتعزيز العلاقات المصرية بدول القارة الإفريقية، بيد أن ليبيا تمثل حالة فريدة بالنسبة للدولة المصرية، نظراً للجوار الجغرافي والذي فرض تشابكات مختلفة في العديد من الملفات، فضلاً عن أن ليبيا تمثل محدداً هاماً بالنسبة للأمن القومي المصري.
وفي الواقع، تأتي هذه الزيارة لتعكس تتويجاً للجهود المصرية خلال السنوات الماضية في الملف الليبي، والدور الفاعل الذي تمخض عنه الوصول إلى خارطة الطريقة الراهنة والتي أفرزت حكومة ليبية موحدة، وحالة من السلام، حتى وإن أتصفت بالهشاشة، لكنها تبقى قاعدة يمكن البناء عليها لتحويلها لسلام دائم يمهد الطريق نحو الاستقرار في ليبيا، التي تمثل معادلة هامة للأمن والإستقرار في منطقة شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
وتأتي زيارة رئيس الوزراء – برفقة عدد من الوزراء- بناء على تكليف من الرئيس “عبد الفتاح السيسي”، والذي يرجح أن يقوم بزيارة إلى ليبيا خلال الفترة المقبلة، ويتوقع أن تشهد زيارة “مدبولي” إلى طرابلس توقيع عدة إتفاقيات، لعل أبرزها إنشاء محطات كهربائية، فضلاً عن بحث ملف العمالة والاستثمارات المصرية في ليبيا، إلى جانب مناقشة تطورات إعادة فتح السفارة المصرية في طرابلس.
تحركات خارجية مكثفة:
وفعلياً، تأتي زيارة رئيس الوزراء المصري إلى ليبيا في ظل تحركات خارجية مكثفة لقادة السلطة التنفيذية الليبية خلال الفترة الأخيرة، في محاولة لحلحلة الملفات المعقدة التي تواجه خريطة الطريق الموقعة في جينيف، والعمل على حشد الدعم الدولي للمسار السياسي القائم، للدفع نحو إنجاح المرحلة الإنتقالية والوصول إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية بنهاية العام الجاري.
وفي هذا الإطار، قام رئيس المجلس الرئاسي الليبي “محمد المنفي” بزيارة إلى اليونان، بالتوازي مع الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الليبي “عبد الحميد الدبيبة” إلى تركيا، وهو ما حمل مؤشرات بشأن تصاعد حدة التنافس التركي- اليوناني في الملف الليبي والبحر المتوسط، وهو ما عكسته التحركات اليونانية المتسارعة لتوسيع إنخراطها في الملف الليبي، حيث تم التأكيد خلال زيارة “المنفي” إلى أثينا على توطيد الشراكة الاقتصادية والثقافية والأمنية بين الجانبين، وضرورة تفعيل آليات التعاون المشترك، كما شهدت الفترة الأخيرة إعادة فتح سفارة اليونان في ليبيا، بينما أشار “المنفي” إلى الحكومة اليونانية إلى عدم القدرة على إعادة النظر في الاتفاقية الموقعة مع تركيا بشأن ترسيم الحدود، وذلك وفقاً لخارطة الطريق التي تحكم الفترة الإنتقالية.
أما بالنسبة لتركيا، فقد نجحت أنقرة خلال زيارة رئيس الحكومة الليبية في الحصول على التزام حكومته بالاتفاقيات الموقعة بين أنقرة وطرابلس، كما تعمل الحكومة التركية في الوقت الراهن إلى محاولة تحويل تواجدها العسكري في ليبيا إلى مكاسب إقتصادية، تجسدت أبرز ملامحها في الاتفاقيات الاقتصادية الخمسة التي أبرمتها أنقرة مع رئيس الوزراء الليبي “عبد الحميد الدبيبة”، ويبدو أن أنقرة تعمل على تأجيل خطوة سحب المرتزقة التابعين لها لحين ضمان تحقيق مصالحها الاقتصادية في ليبيا، وجني ثمار إنخراطها.
وقد أعقب ذلك زيارة أخرى قام بها رئيس الحكومة الليبية إلى روسيا، حيث تم بحث العديد من القضايا الحيوية على رأسها ملف سحب عناصر “فاغنر” الروسية من ليبيا، فقد دعا “الدبيبة” موسكو بشكل مباشر بضرورة خروج هذه العناصر من ليبيا في أقرب وقت.
وتعكس الجولات الخارجية للسلطة الليبية الراهنة محاولات تطبيق سياسة “الاستثمارات مقابل الاستقرار”، حيث تعمل الحكومة الليبية على بث رسائل طمأنة لكافة الفواعل المنخرطة في الملف الليبي، مفادها ضمان مصالح هذه الأطراف في ليبيا، والتأكيد على المشاركة في مشروعات التنمية وإعادة الإعمار مقابل التوصل إلى تفاهمات بشأن القضايا الأمنية المعقدة الخاصة بالمرتزقة والمليشيات المسلحة، وربما هذا ما أتضح بشكل جلي في زيارة رئيس الحكومة الليبية إلى موسكو، حيث تم الاتفاق على التعجيل بتوريد جرعات من لقاح فيروس كورونا إلى ليبيا، وتفعيل عمل اللجنة الليبية – الروسية المشتركة، لتعزيز التعاون الاقتصادي بين طرابلس وموسكو، كما أكد “الدبيبة” عن رغبة حكومته في عودة شركات الغاز والسكك الحديدية الروسية للعمل في ليبيا، واستكمال العقود الموقعة قبل عام 2011، كما قدم “الدبيبة” دعوة لوزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” لزيارة طرابلس وعودة السفير الروسي إليها.
عودة النفوذ الإيطالي:
وفي الواقع لا يقتصر الانخراط الخارجي في ليبيا على تركيا وروسيا والولايات المتحدة، بل ثمة تحركات أوروبية مكثفة لتعزيز الدور الأوروبي في هذا الملف، وضمان المصالح الاقتصادية الأوروبية، لكن ربما تعد حالة إيطاليا الأكثر نضوجاً، فثمة ملامح دور إيطالي جديد في الملف الليبي بات في طور التبلور خلال الفترة الأخيرة، تجسدت بعض ملامحه في إعلان وزير الخارجية الإيطالي ” لويجي دي مايو” أن بلاده تعمل مع واشنطن للضغط على الأطراف المختلفة لإخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا، وقد أشار الوزير الإيطالي إلى أنه سيتحدث مع نظيرته الليبية خلال زيارة الأخيرة إلى روما في 22 أبريل الجاري حول ملف المرتزقة الأجانب في ليبيا.
وتجدر الإشارة، إلى أن رئيس الوزراء الإيطالي “ماريو دراجي” قام بزيارة إلى ليبيا في الـ6 من أبريل الجاري، حيث التقى بنظيره الليبي “عبد الحميد دبيبة”، وهي تعد أول زيارة دولة لرئيس الوزراء الإيطالي منذ توليه منصبه في 13 فبراير 2021، وأكد ” دراجي” على أهمية إعادة بناء الصداقة القديمة بين البلدين، وتعزيز التعاون بين روما وطرابلس في قطاعي الكهرباء والطاقة، فضلاً عن ملف المهاجرين في البحر المتوسط ومكافحة تهريب البشر. وفي هذا الإطار، رجح تقرير صادر عن المجلس الأطلسي Atlantic Council أن إيطاليا ستأخذ زمام المبادرة في إعادة بناء مطار طرابلس، وهو المشروع الذي تم تكليفه لشركة البناء الإيطالية “إينيس” Aeneas قبل ثلاث سنوات، كما يتوقع أن تتولى روما بناء طريق سريع طويل على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط في ليبيا، والذي سيربط تونس بمصر عبر ليبيا.
ووفقاً لتقرير المجلس الأوروبي، فقد عكست زيارة “دراجي” إلى ليبيا بوادر تجديد دور إيطاليا في ليبيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث يشير التقرير أن روما تمهد الطريق لتصبح جهة فاعلة مهمة في إدارة الأزمات والتحديات في المنطقة، وهو ما إنعكس أيضاً في اللقاء الذي جمع بين وزير الخارجية الإيطالي “لويجي دي مايو” بنظيره الليبي “الدبيبة” قبل أسبوعين فقط من زيارة رئيس الوزراء الإيطالي إلى ليبيا، وخلال زيارته، تحدث “دي مايو” عن نية بلاده للمساعدة في تحقيق الاستقرار في ليبيا.
وفي ظل تراجع الدور الألماني بفعل استعداد المستشارة الألمانية أنيجلا ميركل للتنحي عن منصبها بنهاية العام الجاري، فضلاً عن الإشكاليات الداخلية التي تواجهها فرنسا بفعل الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة، تبدو فرص إيطاليا أكبر لتولي زمام المبادرة في تعزيز التعاون عبر الأطلسي في منطقة البحر الأحمر، خاصةً مع تولي “دراجي” رئيسًا جديدًا للوزراء في إيطاليا، والذي يحظى بسجل سياسي جدير بالثقة مستمد من حياته المهنية الطويلة والناجحة في أفضل المؤسسات الدولية في أوروبا، ومن هذا المنطلق، ففي إطار اتجاه الولايات المتحدة نحو الشرق، يمكن أن تعتمد على إيطاليا للقيام بدور الوسيط في حلحلة الأزمة الليبية، وربما يتجسد ذلك في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي “أنطوني بلينكين” خلال لقائه بنظيره الإيطالي في 13 أبريل الجاري.
إجماع تاريخي في مجلس الأمن:
وفي ضوء الزخم الإقليمي والدولي الذي يشهده الملف الليبي، فقد تبنى مجلس الأمن في 16 أبريل الجاري القرار رقم 2571 بالإجماع بشأن الملف الليبي، وقد أنطوى هذا القرار على 22 فقرة، ويمثل هذا القرار أول إجماع دولي بشأن ليبيا منذ سنوات، وقد أعلن مجلس الأمن الدولي عبر هذا القرار عن ترحيبه بالاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وطنية في 24 ديسمبر 2021 على النحو المبين في خارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي المعقود في تونس العاصمة في نوفمبر 2020.
وقد طالب قرار المجلس الحكومة المؤقتة بإجراء تحضيرات لضمان أن تكون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية حرة ونزيهة وشاملة، كما يؤكد على ضرورة نزع السلاح وتسريح القوات وإعادة إدماج للجماعات المسلحة وجميع الفاعلين المسلحين خارج إطار الدولة، وإصلاح القطاع الأمني وإنشاء هيكل دفاعي شامل ومسؤول في ليبيا. كما يدعو السلطات الليبية إلى إتخاذ الإجراءات التحضيرية لتيسير إجراءات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بما في ذلك وضع الأساس الدستوري والقانوني للانتخابات بحلول مطلع يوليو المقبل، من أجل إتاحة الوقت الكافي للمفوضية الوطنية للإنتخابات للتحضير للإنتخابات وفقاً للجدول الزمني المحدد.
وفيما يتعلق بالأوضاع الأمنية المتدهورة في ليبيا، أشار قرار مجلس الأمن إلى ضرورة التخطيط لنزع سلاح الجماعات المسلحة من غير الدول وتسريحها وإعادة دمجها، وتشكيل هيكل جديد للجهاز الأمني في ليبيا خاضع للسلطة المدنية، كما شدد المجلس على وجود محاسبة المسئولين عن انتهاكات القانون الدولي وحقوق الإنسان، ودعوة جميع الأطراف الليبية إلى إحترام قرار وقف إطلاق النار بما يتضمنه من إشارة إلى سحب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.
كذلك، دعا المجلس كافة الفواعل الخارجية بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، مشيراً إلى إمكانية تصنيف الإفراد والكيانات التي تهدد السلم والإستقرار في ليبيا، أو تقوض وتعرقل عملية التسوية السياسية، وفي هذا الإطار وافقت الدول الأعضاء في مجلس الأمن بالإجماع على قرار بإرسال فريق مكون من 60 مراقباً دولياً لمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا، ووفقاً للمتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة “ستيفان دوغاريك”، فإن العناصر التابعة للأمم المتحدة تهدف مساعدة ودعم اللجنة الليبية المشتركة 5+5 التي وافقت على وقف إطلاق النار، وأشار “دوغاريك” أن المراقبين سيقدمون تقريرهم لمجلس الأمن من خلال بعثة الأمم المتحدة في ليبيا حول مراقبتهم لوقف إطلاق النار وما يجري على الأرض، بيد أن المهمة الموكلة للفريق لن تشمل الإشراف ومراقبة انسحاب المقاتلين الأجانب.
وفي النهاية، يبدو أن الملف الليبي يشهد مرحلة إختبار حاسم لمدى هشاشة السلام القائم، في ظل تكالب مكثف من قبل الفواعل الإقليمية والدولية لتعزيز مكاسبها، ومن ثم يرجح أن تشهد المرحلة المقبلة تنافساً حاداً أيضاً في ليبيا لكنه يعتمد على أدوات مختلفة، قوامها الرئيسي هي المصالح الاقتصادية، لذا تبقى التخوفات قائمة بشأن إحتمالات دفع هذا التنافس الاقتصادي إلي العودة مرة أخرى للصراع العسكري، خاصةً وأن تاريخ الأزمة الليبية القريب لا يخلو من مثل هذه التجارب، على غرار ما شهدت ليبيا في 2012 وكذلك 2014، لكن ربما السياق الدولي والإقليمي الراهن يحمل مؤشرات مختلفة ربما تعزز من فرص إنجاح المسار السياسي الليبي.
كذلك، يبدو أن مؤشرات التقارب التركي – المصري باتت تلقي بظلالها على الملف الليبي، فيبدو أن هناك مرحلة جديدة باتت في طور البلورة والتشكيل، ربما تفرز تعاون إقتصادي بين الجانبين في ليبيا، يمكن أن يعزز فرص الاستقرار وتسوية الملف الليبي، ويشكل محدداً هاماً في مرحلة إعادة الإعمار.