سيناريوهات محتملة: حدود إتمام المصالحة التركية المصرية
لقد شهدت العلاقات التركية المصرية القطرية خلال الفترة السابقة تطور دراماتيكي لافت للنظر، حيث جاء التودد التركي للقاهرة في مطلع مارس السابق عبر عدة تصريحات متتالية من وزراء الخارجية والدفاع والرئاسة التركية، ليشير إلى أن هناك رغبة تركية في استعاده العلاقات المقطوعة مع القاهرة منذ عام 2013، وهو ما لم تتجاهله القاهرة، حيث وضعت شروطاً مصرية للتجاوب مع الرغبة التركية، وفي خطوة طارئة أعلنت القاهرة تعليق الاتصالات مع أنقرة لحين إقدام الأخيرة على تنفيذ الشروط المصرية. ومن هنا يطرح السؤال، وهو: لماذا هذا التوقيت، ولماذا تعثرت؟، ولماذا تتسارع وتيرة المصالحة بين أطرافها خلال تلك الفترة؟ وما هي أبرز سيناريوهاتها ومساراتها المحتملة؟.
ملامح الإعداد والتجهيز..المصالحة متى بدأت وإلى أين وصلت؟:
لأول مرة منذ 7 سنوات أعلن وزير الخارجية التركي “مولود تشاويش أوغلو ” نية أنقرة إرسال وفداً تركياً لزيارة القاهرة في مطلع مايو المقبل، كما أشار إلى احتمالية لقائه بنظيرة المصري خلال الزيارة، ويأتي هذا التطور بعد إعلان إعلامي قنوات الإخوان مثل محمد ناصر ومعتز توقف برامجهما على قناتي الشرق ومكملين. ثم مؤخراً أرسل “تشاويش أوغلو ” نفسه لنظيرة المصري تهنئة بحلول شهر رمضان المبارك.
تأسيساً على ما سبق، وفقاً لقراءة المشهد الراهن في التطورات الإقليمية، يمكن ملاحظة حدوث تزامن بين التقارب التركي لمصر ودول الخليج مع فوز الديمقراطيين ووصول بايدن لرئاسة البيت الأبيض، أضف إلى ذلك إقدام الرباعي العربي على إنهاء المقاطعة الخليجية لقطر وتوقيع بيان قمة العلا السعودية، حيث اتخذت قطر- أقرب حلفاء تركيا ضمن دول مجلس التعاون الخليجي – طريق المصالحة واستعادة العلاقات مع أشقائها الخليجيين ومصر. وبالتالي، يمكن الإشارة إلى أن أنقرة حاولت أن تحذو الطريق نفسه، ومن ثم استعادة العلاقات والتقرب من دول الرباعي العربي، وهي الخطوة التي اعتبرها البعض محفزة للتقارب التركي المصري والتركي الخليجي، وبمثابة فرصة لتركيا وقطر لمحاولة حل مشاكلهما الاقتصادية الحالية وإنهاء عزلتهما الإقليمية خاصة بعد تيقن القيادتان من متانة النظام المصري مقابل الهشاشة الشعبية التي يتمتع بها تنظيم الإخوان الإرهابي.
وعلى الصعيد المصري، فلقد وضعت القاهرة عدة شروط للتقارب المصري التركي كان أبرزها تعديل السياسة التحريرية لبعض القنوات الإخوان المسلمون وليس إغلاقها، فضلاً عن تسليم المطلوبين من أعضاء الجماعة والمتورطين في قضايا إرهابية وصادر بحقهم أحكاما قضائية، أضف إلى ذلك انسحاب المرتزقة الموجودين في ليبيا وانسحاب المستشارين العسكريين الأتراك من الغرب الليبي، فضلاً عن احترام سيادة الدول ومراعاة مقتضيات الأمن القومي العربي. وبحسب سامح شكري وزير الخارجية المصرية، فإن مصر سوف تتابع أفعال وسياسات الدولة التركية ولمن تكتفي أبدا بالتصريحات الدبلوماسية.
وفي نفس السياق، يمكن التأكيد على أن ردود الفعل المصرية منذ ثورة يونيو2013 تجاه تركيا ظلت متزنة، فلم تتخذ مؤسسات الدولة المصرية على الإطلاق أي موقف عدائي ضد تركيا. فطوال 7 سنوات ماضية شهدت حملات كثيرة شنها الرئيس التركي ونظامه على الدولة المصرية، تلاحظ تماسك الدولة المصرية في تصريحاتها تجاه تركيا، وما يؤكد ذلك، هو ما أشار له “خلوصي أكار” وزير الدفاع التركي، الذي أكد أنه عندما قامت مصر بترسيم الحدود مع حلفائها الأوربيين قبرص واليونان، لم تنتهك القاهرة الجرف القاري التركي، حيث قال إن “القرار المصري المتمثل باحترام الصلاحية البحرية التركية بالمتوسط، يصب في مصلحة حقوق ومصالح الشعب المصري”، كما أعرب عن اعتقاده بإمكانية إبرام اتفاقية أو مذكرة تفاهم مع مصر في الفترة المقبلة بشأن تقاسم الموارد الاقتصادية في شرق المتوسط. وفيما يتعلق بالملف الليبي فقد قامت مصر بتجنيب حليفها “حفتر” ودعمت القاهرة حكومة الدبيبية واستقبلت القاهرة رئيس المجلس الانتقالي الليبي بل ذهبت لأبعد من ذلك حيث افتتحت القنصلية المصري بعد إغلاق دام 6سنوات.
مما سبق، يمكن التأكيد على أن القيادة التركية أدركت أن استغلالها لورقة جماعة الإخوان ضد مصر لم تجدي، خاصة وأن التنظيم أصبح عبئا على أنقرة ومصالحها الاقتصادية والسياسية، وبالتالي جاء التوجيه التركي لقنوات الإخوان بضرورة الالتزام بميثاق الشرف الإعلامي، وهو ما لم يتحقق، وتابعته القاهرة عن كثب، كما طالبت القاهرة بتسليم “يحيى موسى” و”علاء السماحي”، لكن تركيا طلبت التمهل، كما لاحظت القاهرة تلكأ تركياً فيما يتعلق بانسحاب المرتزقة من ليبيا فقد طلبت أنقرة مزيدا من الوقت لسحب مستشاريها العسكريين وعناصرها من ليبيا، فيما طالبت مصر تركيا بانسحاب فوري غير مشروط من ليبيا، ومن ضمن طلبات القاهرة أيضا تسليم عناصر كانت في صفوف داعش وحصلوا على الجنسية التركية بعد العودة من سوريا، أيضا اشترطت القاهرة وقف أي اجتماعات سياسية لقادة الإخوان في تركيا.
ما تأكده الأسابيع الماضية، هو أن تركيا تجاوبت مع بعض طلبات القاهرة، حيث أرسلت أنقرة برقية لمصر تفيد بأنها جمدت إعطاء الجنسية لعدد من عناصر الإخوان، وقالت بعض التقارير الصحفية إن تركيا وقفت أنشطة خيرية لعناصر من الإخوان على أراضيها لحين مراجعة مصادر أموالها، ويبدو أن التجاوب التركي مع المطالب المصرية لم يكن على المستوى المطلوب، وبالتالي طالبت القاهرة بمزيد من الإجراءات الدائمة، وتعليق الاتصالات لحين تنفيذ المطالب المصرية بسرعة- أي أن الخلاف بين الطرفين جاء حول توقيت وسرعة تنفيذ المطالب المصرية، فأنقرة تريد تنفيذ المطالب بشكل تدريجي، ومصر تمسكت بتنفيذها على مرحلتين.
وبالتزامن مع بداية شهر رمضان الكريم، أعلن كلا من “محمد ناصر” و”معتز مطر ” إيقاف بث برامجهما في رمضان في خطوة عدها البعض أبرز التنازلات التركية التي تقدمها أنقرة للقاهرة، واعتبرها أيضا وزير الإعلام المصري أسامة هيكل، بادرة طيبة من الجانب التركي تخلق مناخاً ملائماً لبحث الملفات محل الخلافات بين الدولتين. كما عرضت أنقرة التوسط لحل مشكلة أزمة سد النهضة، والتي اعتبرها وزير الخارجية التركي أنها مشكلة تقنية، ويمكن حلها مع الجانب الإثيوبي، وأنه يمكن لتركيا المساهمة في حلها. وفي خطوة أخرى، أفادت عدة تقارير إخبارية بقيام الجانب التركي بإرسال برقية لمصر تتعهد فيها بالالتزام بخارطة طريق وتنفذها خلال فترة 5 شهوراً لتنفيذ المطالب المصرية-متضمنة بالطبع تسليم 60 من المطلوبين من العناصر الإخوانية عبر الإنتربول إلى القاهرة، هذا بالإضافة إلى متطلبات مسألة الانسحاب من ليبيا- وعقد اجتماعات دورية لمراجعه بنودها.
الأجواء العامة بين الطرفين في الأيام الثلاثة الأخيرة تشير إلى أن الاقتراح التركي قد لاقى قبولا مصريا، ففي خطوة جديدة أعلن وزير الخارجية “تشاويش أوغلو “عن نية بلادة إرسال وفدا تركيا على مستوى الوزراء ونواب الوزراء لعقد اجتماعات في القاهرة، كما أشار إلى إمكانية لقاء نظيرة المصري قائلاً إن “عهداً جديداً يبدأ في العلاقات مع مصر”.
ومن جهة أخرى، أفادت عدة مصادر صحفية نية أنقرة في أن تكون القاهرة طرفاً وسيطا لعقد مصالحة مع عدد من الدول العربية وتقليل الخلاف معها، وأنها على استعداد لتقديم تنازلات للتقارب مع الدول الخليجية مقابل عودة المستثمرين العرب لأراضيها، وعقدة اتفاقات اقتصادية لإنقاذ الاقتصاد التركي التداعي. براجماتية أنقرة المحسوبة بدقة في ملف مصالحتها قد تجعلها تتحرك في مسار إيجابي ولو بطيء، وهو ما أكد عليه المحلل السياسي التركي “جوادغوك، قائلاً إن “التقارب مع مصر ليس مجرد خطاب سياسي أو خطوة تكتيكية، لكنه حقيقة فرضها الأمر الواقع والمصالح التركية”.
سيناريوهات المصالحة التركية المصرية:
في هذا السياق يمكن رسم عدة سيناريوهات تحدد شكل مسار التقارب التركي المصري في الأيام القادمة، وذلك على النحو التالي:
(*) السيناريو الأول (مصالحة مكتملة بطريقة بطيئة): وهو متعلق بعقد اتفاق بين تركيا ومصر وما يستتبعه من تحسين علاقات تركيا مع دول خليجية خاصة بعد التزام الحليف القطري ببنود قمة العلا واستعادة العلاقات القطرية المصرية، وعقد اجتماعات على مستوى وزراء خارجية البلدين خلال الأسابيع الفائتة. ويعتبر هذا السيناريو مرهون بما يمكن أن تقدمة تركيا من تنازلات لصالح مصر ودول الرباعي العربي بشكل خاص السعودية، وما يمكن أن تجنيه أنقرة من مكاسب اقتصادية ودبلوماسية إزاء الالتزام بمقتضيات الأمن القومي العربي، وتلبية المطالب المصرية والخليجية. ويستلزم هذا السيناريو، أيضا وقف الهجوم الإعلامي ضد مصر ودول الخليج وتسريع وتيرة الانسحاب التركي من لبيبا فضلاً عن تسليم المطلوبين على ذمة قضايا إرهابية في مصر، وربما قد تضطر تركيا لترحيل عدد من قيادات الجماعة الإرهابية لبلد أخر وعند تلك النقطة يمكن إقناع القاهرة بعقد اتفاق لترسيم الحدود، ويمكن أيضا للقاهرة أيضاً أن تلعب دوراً جيداً وإيجابياً كوسيط بين تركيا من جانب واليونان وقبرص من جانب آخر.
السيناريو الثاني (تقارب حذر ومؤشراته اتفاق جزئي للتهدئة): وهذا السيناريو يشير إلى عقد اتفاق جزئي- أي التزام تركيا جزئياً ببعض المطالب المصرية وإرجاء تنفيذ البعض الأخر منها، وهو ما يستتبعه استمرار التصريحات الداعية إلى التقارب والمقرونة بعدم مصداقية أنقرة، وعدم اتخاذها أية خطوات جدية لتقريب وجهات النظر مع القاهرة، مع الإبقاء على قنوات اتصال محدودة، استخباراتية وأمنية. وفي هذا السياق نشير لمطالب القاهرة حول فكرة الانسحاب التركي الكامل من أراضي العراق وسوريا وليبيا، فالتواجد التركي في المشرق العربي تعتبره أنقرة جزئا من أمنها القومي، لذلك اتبعت استراتيجية القواعد العسكرية واعتمادها القوة الخشنة في أزمات الشرق الأوسط، وعلى الرغم من وجود تقارير تفيد بسحب أنقرة لبعض المرتزقة في ليبيا، فإن أنقرة لن تتخلى عن التواجد في الغرب الليبي بسهولة.
السيناريو الثالث (التعثر الكامل): وهذا السيناريو متعلق بتعثر ملف المصالحة بشكل كلي، وهو مرهون بعدم الوفاء التركي بالمطالب المصرية والعربية، وعدم التزام أنقرة بخارطة الطريق التي تعهدت بتنفيذها خلال 5 شهور (يتضمن ذلك العودة للتصعيد الإعلامي المعادي للدولة المصرية والخليج ودعم الإخوان، وعرقلة سبيل المصالحة الحالية في ليبيا)، وهنا يمكن الحديث عن تعليق الاتصالات بين الجانب المصري والتركي مثل ما حدث قبل فترة التجاوب الأخيرة بين الطرفين، وهو ما يعني أيضا استمرار العزلة الإقليمية التركية وتداعياتها الاقتصادية السيئة، وهو ما لن تسمح به جهات فاعلة داخل تركيا.