الجمهورية الثانية وعقد اجتماعي جديد
عبدالفتاح الجبالي
أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى أن الانتهاء من العاصمة الإدارية الجديدة والانتقال إليها يمثل مرحلة جديدة فى سيرورة المجتمع أطلق عليها الجمهورية الثانية، وهو ما نصبو إليه جميعا ويتطلب ذلك بالضرورة أيضا إعادة النظر فى خيارات السياسات الحالية ودورها المستقبلي فى تشكيل المسار الاقتصادي على المدى البعيد. وبالتالي إعادة النظر فى العقد الاجتماعي الحالي خاصة بعد أن فقد قدرته وبلغ حدوده القصوى.بعد أن أدت استراتيجيات التنمية التي طبقت خلال الفترات السابقة الي نتائج ضعيفة وتدهور مستويات الخدمات من صحة وتعليم وبنية أساسية، فضلا عن تدني الإنتاجية السلعية(الصناعة والزراعة)مع إهمال الصناعات التحويلية وازدياد الاستثمار في الصناعات الاستخراجية والقطاعات العقارية. أي أنها فشلت تماما في تحقيق الأهداف المنوطة منها، وأدت الي فقدان معني العيش معا، ومعني المنفعة العامة، وانعدام الأمان الوظيفي والاجتماعي وكان العقد الاجتماعي الحالي قد قام أساسا على ضرورة تقليص الدور الاقتصادي للدولة وتفعيل دور القطاع الخاص، والاندماج فى الاقتصاد العالمي والخصخصة، وهو ما تزامن مع الصعود الفكري لمدرسة شيكاغو وما تدعو إليه من أفكار وآراء ساعد على رواجها ما آلت إليه التجارب التنموية التي تمت فى البلدان النامية خلال ستينيات القرن الماضي.الأمر الذي أصبح يتطلب إجراء تغييرات في مجموعة العلاقات الاقتصادية والسياسية بين المواطنين والدولة والبحث عن نموذج تنموي يتلاءم مع الواقع الجديد، ويبني على الثقة والاحتواء والشفافية والمساءلة. ويتعامل بصورة أفضل مع المرحلة الجديدة القائمة على الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا ويشجع الإبداع والابتكار ويساعد على توفير فرص عمل جيدة للداخلين إلي سوق العمل، ويجعل النمو أكثر احتواء لكل الشرائح الاجتماعية، وقادرا على الاستدامة وهي بعبارة أخري صياغة عقد اجتماعي جديد بين المجتمع والحكومة يقوم على الشرعية والعدالة والنفع للجميع ومضمون بالقوة العامة والسلطة العليا،كما ذكر جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي. وتأتي أهمية هذه المسألة في ضوء ما أشار إليه المفكر الاقتصادي الهندي والحائز على جائزة نوبل أمارتيا صن في كتابه المعنون التنمية حرية الي أن التنمية هي عملية توسيع في الحريات الحقيقية للناس وبالتالي فهي ليست فقط نموا في الناتج أو زيادة في الدخول ولكنها بالأساس توسيع نطاق الحريات التي يتمتع بها الأفراد والحقوق السياسية والمدنية وحق التعبير والاختيار جنبا إلى جنب مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ولذلك ينبغي أن يقوم العقد الاجتماعي الجديد على دور أكبر للدولة خاصة فيما يتعلق بتعزيز النمو وتحقيق العدالة الاجتماعية، باستخدام أدوات السياسة المالية وذلك لكونها القادرة على إحداث فروق كبيرة في معالجة عدم المساواة. وأصبح الإنفاق العام يلعب دورا أكبر عن ذي قبل في تعزيز النمو الاحتوائي والمستدام وأصبح ينظَر إليه باعتباره أداة فعالة لتشجيع النمو الاحتوائي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. كما أن الإنفاق العام على الصحة والتعليم يسهم مباشرة فى تحسين نوعية الحياة ويؤدى إلى جودة النمو، ويزيد من رأس المال البشرى وبالتالي يعد بمثابة استثمار قومي جيد يقوم بتغطية تكاليفه من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة الدخول وبالتالي لابد من زيادة الإنفاق العام وضمان كفاءته، وتوسيع الحيز المالي القابل للاستدامة، وبما يسمح بتنفيذ السياسات المرغوبة لتحقيق التنمية الاحتوائية ويسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي ويعمل على ضمان وصول ثمار النمو الي الجميع. كما إن الخدمات الاجتماعية تقع ضمن ما يطلق عليه فى علم المالية العامة السلع العامة، وهى السلع التي لا يمكن إنكارها على أى شخص بمجرد إنتاجها، ولا يؤدى استخدام شخص ما لها إلى إنقاص استخدامها من جانب الآخر مثل مكافحة الأمراض المتوطنة وعلاج انتشار الأوبئة وغيرهما. وهذه الأمور لا تحقق حافزا اقتصاديا قويا للقطاع الخاص لإنتاجها لذا فهى تتطلب التدخل الحكومى المباشر. وهنا يثار الحديث عن تسعير الخدمات العامة حيث يفرق علم الاقتصاد بين السلع والخدمات من حيث المرونة فى علاقتها بالأسعار، فهناك سلع مرنة بحيث يؤدى ارتفاع أسعارها الى اللجوء لبدائل أخري، وهناك سلع مكملة لبعضها البعض، مثل السيارات والبنزين، وهناك سلع عديمة المرونة، أى أن الطلب عليها لا يتأثر بمستويات الأسعار، ومن أهمها الأدوية أو السلع الضرورية. وهنا نلحظ أن الخدمات العامة مثل مترو الإنفاق والمياه والكهرباء تدخل فى نطاق السلع عديمة المرونة بمعنى أن الزيادة فى السعر لا تؤثر على الطلب، حيث يضطر المواطن إلى استخدامها والانصياع التام للسعر الجديد مثلها مثل الكهرباء والمياه. وبالتالي ينبغي على السياسة السعرية أن تأخذ بعين الاعتبار هذه المسألة وذلك مراعاة لاعتبارات العدالة الاجتماعية. وينطبق نفس القول على برامج الحماية الاجتماعية التى لا ينبغي النظر إليها باعتبارها غير قابلة للاستمرار أو انها ضارة بعملية التنمية أو أن تكلفتها ليست فى المتناول وغير قابلة للاستمرار لأنها كلها انطباعات خاطئة تماما. ويرتبط بما سبق الحديث عن كفاءة هذا الإنفاق وعدالته. ونقصد بالعدالة هنا تحقيق التكافؤ الحقيقي فى الفرص المتساوية للحصول على الخدمة وذلك بتوزيع الإنفاق العام بشكل متساو وفقا للاحتياجات لكل منطقة جغرافية والعمل على الوصول الى الأماكن المحرومة منه.خاصة في ضوء القيود الشديدة على قدرة الفقراء في الحصول على الخدمات. وهكذا يصبح النمو وحده ليس كافيا، إذ يجب أن يكون مواليا للفقراء وموسعا لقدرتهم وفرصهم وخيارات حياتهم. وهي مسألة يجب، أن تتم في إطار رؤية تنموية متكاملة ومن منظور شامل وواسع، وينعكس فى عقد اجتماعي جديد.