ترتيب التوازنات: كيف يؤثر التوتر الأمريكي الروسي على مناطق التماس في أوروبا والباسفيك؟
على ما يبدو أن التوتر الذي بدأ في التصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا، منذ وصول بايدن للبيت الأبيض ، قد بدأ يأخذ اتجاهات استراتيجية ، تجاه مناطق التماس الرخوة في أوروبا ومناطق المحيط الهادىء، ومناطق اخرى من العالم، بحيث يحاول كل طرف إعادة ترتيب التحالفات لصالحه، فايدن يريد استعادة القوة للناتو واستعادة الارتباط الاستراتيجي بين ضفتي الأطلسي لما كانت عليه قبل إدارة ترامب، ، بهدف ايجاد جبهة عريضة في مواجهة الصين وروسيا، بينما الجانب الأخر ممثلاً في روسيا يسعى لتوثيق ارتباطه مع الصين، ومحاولة ردع اوروبا عن الاقتراب من حدود الاتحاد الروسي، خاصة ممناطق التماس في أوكرانيا وغيرها.
من هنا تثور عدة تساؤلات بهذا الخصوص، هل تتسع الهوة من جديد بين روسيا والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة التي تعتزم استعادة رونق حلف الناتو من جديد؟ هل نعود لعهد الخلاف والصدام شأن ما كان قائمًا في أعقاب الضم الروسي لشبه جزيرة القرم وذلك بعد فترة من الهدوء النسبي خاصة بين روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ؟ هل ينجح بايدن في مسعاه نحو استعادة الدور القيادي للولايات المتحدة حتى مع تغيير المقومات والمتغيرات الداخلية والخارجية؟ هل تتجدد الخلافات الروسية الأمريكية بعد سنوات المهادنة النسبية في عهد ترامب؟ إلى أي مدى سيدفع الضغط الأمريكي الجانبين الروسي والصيني إلى مزيد من التقارب؟
أزمة كاشفة:
بعد أيام من التلاسن اللفظي المتبادل الذي اتهم فيه الرئيس الأمريكي نظيره الروسي بالقاتل، وتوعده بفعل تدخله بالانتخابات الأمريكية، ورد عليه الأخير بأن القاتل هو من يصف الآخر بذلك، وتمنى له الصحة الجيدة وأنه مستعد لمواجهته. وبعد ساعات من تحذير الكرملين من أن أي تحرك لنشر قوات أمريكية في أوكرانيا أو لتعزيز انتشار قوات الناتو في المنطقة سيجبر موسكو على فعل “كل ما هو ضروري” لحماية أمنها، حيث أجرى الرئيس الأمريكي محادثة تليفونية مع نظيره الأوكراني تعهد فيها الأول بدعم الولايات المتحدة لأوكرانيا في مواجهة “العدوان الروسي المستمر”. وفي هذا السياق قد أشار البيت الأبيض في بيان بعد تلك المكالمة إلى التأكيد على دعم الولايات المتحدة الثابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها في مواجهة العدوان الروسي المستمر في “دونباس وشبه جزيرة القرم”، يأتي ذلك في الوقت الذي تتجدد فيه التوترات الروسية الأوكرانية من جديد وتشهد الحدود بينهما مناوشات في ظل تجدد التوترات من قبل الانفصاليين في دونباس المدعومين روسيًا ، والتي سقط على إثرها بعض القتلى من الجنود الأوكرانيين. وفي خطوة تصعيدية وكرد فعل روسي، غادر سفير روسيا لدى الولايات المتحدة، أناتولي أنطونوف، واشنطن، متوجها إلى موسكو؛ للتشاور، ومراجعة العلاقات مع الولايات المتحدة على خلفية تصريحات جو بايدن، عن نظيره الروسي.
الولايات المتحدة الأمريكية والاستراتيجية الجديدة:
كان من الواضح أن إدارة الرئيس بايدن أرادت أن تقول للعالم وبلغة فظة وغير ديبلوماسية أن الرئيس الاميركي الجديد يختلف جذرياً عن سلفه دونالد ترامب، وأن مرحلة “التراجع” في وجه روسيا قد انتهت، حيث ستسعى واشنطن لإعادة تعزيز تحالفها التقليدي مع الدول الاوروبية لخلق جبهة موحدة ضد روسيا، لتعزيز العلاقات الاطلسية التي تزعزعت خلال ولاية الرئيس السابق ترامب، وأن مسألة حقوق الانسان سوف تكون في طليعة اهتمامات الولايات المتحدة في علاقاتها مع موسكو. وكان من اللافت أن الرئيس بايدن، هو الذي بدأ بتصعيد انتقاداته القوية لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، حين وصفه “بالقاتل” في اشارة الى التهم الموجهة لبوتين بانه حاول تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، قبل سجنه في معسكر يتعرض فيه السجناء لمعاملة قاسية.
وفي هذا السياق لم يكن موقف بايدن المتشدد من بوتين مفاجئاً، حيث جاء في اعقاب الكشف عن تقرير لأجهزة الاستخبارات الأميركية أكدت فيه أن روسيا تدخلت مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية الاخيرة لصالح الرئيس السابق دونالد ترامب. وهذا ما دفع بالرئيس بايدن في مقابلة مع شبكة التلفزيون “أي بي سي” للقول إن بوتين سوف “يدفع ثمن” تدخله في الانتخابات، دون أن يوضح طبيعة الثمن، وإن قال إنه سيأتي في وقت قريب. وجاء موقف بايدن في أعقاب الاعلان عن معاقبة عدد من أركان الحكومة في موسكو اضافة إلى 14 جهاز روسي، بالتالي فإن أي قرار يتخذه بايدن بهذا الشأن ستكون له مضاعفات بعيدة المدى على علاقات واشنطن مع موسكو، وعلى علاقاتها مع حلفائها الاوروبيين.
هناك من ينتقد هذه الاستراتيجية من داخل الولايات المتحدة نفسها، حيث ينتقدون عدم اعتماد سياسة الاحتواء المزدوج من قبل جو بايدن لكل من روسيا والصين، وضرورة استغلال الارتياب المتبادل وعوامل الفرقة والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية المتناقضة بين روسيا والصين وتضخيمها، حيث يرون أن بايدن مستمر في أرتكاب أخطاء ، بسبب بخروجه عن اللياقات الدبلوماسية وقيامه بشن هجوما مزدوجا على الصين وروسيا في آن واحد، متجاهلا كل تحذيرات الاستراتيجيين الأمريكيين الكبار من خطر الدخول في مواجهة مع خصمين رئيسيين في وقت واحد. وهذا ما أعطى موسكو وبكين دافعًا لتعميق تقاربهما.
التحركات الروسية لمواجهة التصعيد الأمريكي:
شهدت العلاقات الروسية ــ الصينية الكثير من التعقيدات والتقلبات بين تحالف وتنافس وصولا إلى نزاعات محدودة، حيث أن مؤشرات العلاقة الاقتصادية بين الجانبين تطور بشكل كبير ، كما تمكنا الجانبان من تجاوز خلافات أساسية ومهمة وأبرزها نزاعهما الحدودي. كما جمعتهما دبلوماسية التضامن على الساحة الدولية في مواجهة سياسة العقوبات الغربية، والرغبة الثنائية في الحد من تأثير التفرد الأمريكي في قيادة العالم. بالتالي تعمل كل من روسيا والصين بشكل منسق لمحاولة إضعاف الولايات المتحدة وتقويض نفوذها، خاصة أن بكين تتحدى واشنطن باحتمالية إنشاء قوى بحرية ضخمة في المحيط الهادئ وعملها على تعزيز العلاقات مع شركاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط. وجرى التعبير عن ذلك بزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغى لافروف لبكين مؤخرا في أعقاب الاجتماع الذي جمع بين الولايات المتحدة الامريكية والصين في ألاسكا وبعد النعت الذى أطلقه بايدن على بوتين. وفي سياق متصل قد حذرت صحيفة “اندبندنت” البريطانية، من أن موقف بايدن الصدامي، سيدفع روسيا والصين للعودة إلى أحضان بعضهم البعض، مشيرة إلى أن ذلك قد يضع أمريكا واليابان وأوروبا والحلفاء الغربيين تحت ضغط.
نخلص مما سبق، أن التوازنات الدولية في مرحلة إعادة تشكل مرة اخرى، خاصة على مستوى ما يمكن تسميته سياسة ترميم التحالفات، واستعادة الثوابت، وهذا ما يمكن ان نشاهده على مستوى العلاقات الأمريكية الأوروبية، والعلاقات الروسية مع أوروبا والصين، كذلك شكل التحالفات في منطقة آسيا والباسفيك.