الشمول المالي والعملات الرقمية
عبد الفتاح الجبالي
القبض على مستريح جديد.. أصبحت هذه العبارة من العبارات المتكررة أسبوعيا، فى وسائل الإعلام المصرية خلال الفترة الماضية. فلا يكاد يمر أسبوع إلا ويتم الحديث عن القبض على شخص فى محافظة من المحافظات المصرية، يقوم بتجميع الاموال بغرض توظيفها، وبمبالغ كبيرة للغاية. وكان آخرها فى كفر الشيخ بمبلغ نصف مليار جنيه.
ومن المفارقات ان تسارع وتيرة هذه العملية يتزامن مع الحديث عن الشمول المالي والذى يهدف الي تيسير الوصول إلي واستخدام وتقديم المنتجات والخدمات المالية الرسمية، مثل فتح الحسابات والادخار والاقتراض..الخ، لمختلف الشرائح في المجتمع. بأسعار معقولة وبسهولة ويسر وبعدالة وشفافية بدلا من الحصول عليها من خلال القنوات غير الرسمية ومما يزيد من المشكلة تعقيدا بدء تعامل البعض بالعملات المشفرة عقب ارتفاع اسعار العملة الرقمية المسماة بتكوين إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق بنسب قياسية صاروخية واستمرارها فى تحقيق أرقام قياسية الواحدة تلو الأخرى.
وهكذا بينما تسعى الدولة، ممثلة فى البنك المركزى ووزارة المالية، الى توسيع نطاق العمل المصرفي ليشمل كل الفئات والسكان مثل سكان الريف والفقراء والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر والقطاع غير الرسمي، تظهر أنماط مختلفة من مُقدِّمي الخدمات المالية تتيح إمكانات جديدة لغير المتعاملين مع البنوك. وفي كثير من الحالات، أصبحت الخدمات الجديدة اكثر حيوية وفاعلة بفضل الابتكارات التقنية، ومنها انتشار استخدام الهواتف المحمولة في أرجاء العالم.
ومما ساعد على ذلك السياسة المطبقة حاليا من جانب البنك المركزى. والقائمة أساسا على تخفيض أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض والائتمان والخصم،والتى انخفضت بنحو 10%، خلال الفترة من فبراير 2018 (بداية تطبيق سياسة التيسير النقدى) وحتى ديسمبر 2020، وأعقبها تخفيض العائد على الأوعية الادخارية الأخرى خاصة صندوق توفير البريد، والذى يمثل الوعاء الادخاري الأساسي للشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة. ومن المفارقات ان خفض الفائدة، يتزامن مع ارتفاع معدلات التضخم، وفقا للأرقام القياسية لأسعار المستهلكين، والمتحيزة لأدنى بطبيعتها وفقا للدراسات الأخيرة لصندوق النقد الدولى.
يضاف الى ذلك قيام البنوك برفع رسوم التعاملات والرسوم المطبقة على العمليات المصرفية، وهو ما أسهم فى ازدياد اللجوء لشركات توظيف الأموال، بدلا من أوعية الادخار الرئيسية وهنا يشير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فى نشرته السنوية عن مدخرات الأفراد، إلى تراجع صافى المدخرات بنحو 802 مليار جنيه وكان التراجع أساسا فى الأوعية الادخارية المصرفية. وعلى الجانب الآخر فان هذه السياسة ادت إلى عدم قيام الجهاز المصرفي بدوره الأساسي المتعلق بجذب المدخرات والودائع واستخدامها في تمويل الاستثمارات بل على العكس فقد توسع في الاستثمار فى الأوراق المالية الحكومية من أذون وسندات، على حساب تمويل التنمية واقتصرت مساهمته فى رؤوس أموال الشركات على مبالغ ضئيلة نحو 4% من المحفظة المالية للبنوك مقابل 48% للأذون و47% للسندات.
الأمر الذي أحدث خللا لدى الجهاز المصرفي اثر على نشاطه الاقراضي، فوصلت نسبة القروض للودائع الي 47%وهو ما أدي بالبعض إلي الحديث عن المزاحمة اذ أدت هذه السياسة الى تحفيز أصحاب الثروات على الاستثمار فى هذه الأصول العديمة المخاطر وذات الفائدة المرتفعة وبالتالي أثرت بالسلب على الاستثمار المحلى وظاهرة توظيف الأموال منتشرة بشدة في المجتمع المصري، خاصة في الريف والقرى.
وتأخذ أشكالا عديدة ومتنوعة، بل والأهم من ذلك انها تشمل كل شرائح المجتمع، ولا تقتصر فقط على الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى كما يتصور البعض، وليس أدل على ذلك من القضايا العديدة التي تثار بين الحين والآخر والمتعلقة بملايين الدولارات التي يتم تجميعها من الشرائح العليا في المجتمع.
فالبعض يدخل في هذه العملية بدافع استغلال مدخراته والمشاركة في التجارة في سلعة ما أو في تقديم خدمة معينة للجمهور وغيرها من الأمور الاستثمارية، مقابل الحصول على عائد مجز يمكنه من مواجهة سبل العيش والحياة.وللأسف الشديد فقد اقتصر التعامل معها على الأداة القانونية حيث صدر قانون تنظيم تلقى الأموال رقم 146 لسنة 1988 محاولا تنظيم هذه العملية، وجرم قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي قيام الأفراد بتلقي الأموال من الغير. الخ.
وكلها أمور لم تنجح حتى في الحد من الظاهرة، وذلك لأنها لم تحاول معالجة الأسباب الرئيسية وبالتالي وضع رؤية شاملة للعلاج من كل الزوايا. وكلها أمور تؤثر بالسلب على صنع السياسة النقدية، نظرا لما يترتب عليها من مشاكل تتعلق بفقدان القدرة والسيطرة النقدية من جانب البنك المركزي، خاصة إذا ما تعرضت الدولة لتدفقات رأسمالية كبيرة ومفاجئة مما يؤدى لزيادة مفرطة فى أسعار الصرف وما يستتبعه من ضعف فى الحساب الجاري (كما حدث خلال الأزمة الآسيوية 2008).
كما يمكن أن تعرض امن وسلامة الجهاز المصرفي ككل للخطر الشديد خاصة مع وجود منافسة غير عادلة، لأنها تضع المؤسسات المالية الضعيفة تحت وطأة المنافسة الشديدة الأمر الذي يدفعها للدخول فى أنشطة تتسم بالمجازفة الكبيرة.
وتؤدى لزيادة النمو فى الائتمان بشكل سريع وغير متوازن قبل أن تتاح للبنوك القدرة على تقييم القروض وتسعير المخاطر الائتمانية بشكل تفاضلي، وبالتالي اتجهت البنوك إلى الأنشطة التي كانت مقيدة من قبل اى تمويل الطلب الاستهلاكي المكبوت وتشجيع شراء السلع المعمرة والكمالية والدخول فى أنشطة المضاربة كسوق العقارات.رغم الإجراءات العديدة التي يقوم بها الجهاز المصرفي، فإن الطريق مازال طويلا وشاقا لتحويل المجتمع إلى التعاملات المصرفية، ويحتاج إلى تضافر الجهود بغية تغيير العادات السائدة وكذلك قيام البنوك بتوسيع دائرة الاهتمام لتشمل كل قرى ومدن مصر مع إزالة العقبات أمام تسهيل المعاملات.
وكذلك قيام الجهاز المصرفي بدوره في تعبئة المدخرات وتطويره بحيث يصبح أكثر قدرة على جذب هذه المدخرات، خاصة في الريف المصري، وتوظيفها التوظيف الأمثل. وتشجيع التعاملات المصرفية وزيادة رقعة الجهاز المالي والمصرفي المنظم في الاقتصاد القومي، وعلى البرلمان العمل على إصدار التشريعات التي تؤدى إلى تعزيز المعاملات المصرفية، مما يساعد على تعزيز الثقة في الجهاز المصرفي.
نقلا عن جريدة الأهرام