منطلقات فكرية: كيف نظرت الجماعات المتطرفة إلى الحفل الملكى لنقل المومياوات؟

على الرغم من الإعجاب الذي غمر العالم أثناء احتفال نقل المومياوات الملكية بالقاهرة في الثالث من أبريل الجاري، حيث وقفت معظم دوله وقفة إجلال لهذا المشهد، وفي الداخل عاش المصريين حالة من الفخر عقب الحفل المبهر لنقل 22 من مومياوات ملوك وملكات مصر القديمة من المتحف المصري بالتحرير لتصل لمقرها الجديد بالمتحف القومى للحضارة المصرية بالفسطاط، استعادوا بها الهوية المصرية التي مسخت على مدار عقود بفعل الخطاب الراديكالي المتطرف- إلا أن الجماعات المتطرفة نظرت إلى هذا الحدث بمنطق آخر نابعاً من منطلقات فكرية خاطئة ومتجذرة عن الفن والأغاني والمرأة والآثار، ويمكن التطرق إلى هذا الموقف المتطرف على النحو التالي:

المتطرفين والوطن:

وفقاً لأدبيات الجماعات المتطرفة، فإن فكرة الوطن لا قيمة لها عندهم ويظل الانتماء الوحيد لديهم لمفهوم الأمة الواسع. وقد يكون هذا المنطلق الفكري لديهم نابع من مقولة مرشد الجماعة الأول “حسن البنا”، وهي:” يجب أن نصل إلى أستاذية العالم، والوطن وسيلة وليس غاية”، وقد تكرر هذا المصلح كثيراً عند تلك الجماعات منذ أحداث يناير 2011 حتى هذا التوقيت، حيث مازالت ألسنة قادة تلك الجماعات المتطرفة تردد في مناسبات مختلفة وعبر وسائل مختلفة سواء كانت بيانات مكتوبة أو فيديوهات مسجلة على صفحات التواصل الاجتماعي أولوية مفهوم الأمة عن الوطن.

 لذا؛ كان من الطبيعي أن ينتفضوا من مشهد نقل المومياوات الملكية، الذي كان بمثابة إعلان للهوية المصرية بامتياز، مما أحدث تصدع كبير في جدار المتطرفين الذى طوقوا به المصريين على مدى عقود، محاوليين طمث كل معالم الهوية المصرية، بداية من المظهر مرورا بطبيعة الأفكار والانتماء وصولاً إلى الجوهر حتى استيقظوا على كابوس إعلان الهوية المصرية، ليس فقط على مستوى الدولة، ولكن أيضا على مستوى الشعب الذي عبر خلال هذا الاحتفال عن وطنيته بكل فخر سواء عبر شاشات التليفزيون أو من خلال صفحات التواصل الاجتماعي.

المتطرفين والفن:

تحرم أغلب الجماعات المتطرفة الفن بالكلية (غناء وتمثيل ونحت وغيره)، والبعض منهم يبيح بعض الأصناف من الفنون لتوظيفها لخدمة إيديولوجيته، لذا أحدث الحفل الرائع المهيب لنقل المومياوات فزع في أوساط المتطرفين، لما حمله من إشارات ورموز تعكس دلالات تضرب الأفكار الرديكالية في مقتل، فامتزجت السيمفونية الرائعة التي وصلت أصدائها إلى كل بيت داخل مصر وخارجها، بترانيم وصلوات كنسية ممزوجة بموسيقى ذكر صوفى بديع، لمست وجدان المصريين وأظهرت تأثير القوة الناعمة على وجدان الشعوب، فضلا على قبول الشعب على كل طبقاته الاجتماعية والثقافية والعمرية. وعلى ما سبق، يمكن القول إن  لهذا النوع الأوبرالى من الفنون الذي تم استخدامه في حفل المومياوات كان بمثابة الضربة القاضية التي أصابت المتطرفين في مقتل، خاصة بعد رد الفعل الايجابي من كافة طبقات الشعب المصري وفي كل محافظاته عن هذا الاحتفال.

المتطرفين والمرأة:

ينظر أصحاب الأفكار الرديكالية إلى المرأة باعتبارها مواطن درجة رابعة أو خامسة، فالمرأة في تصورهم هي عورة وفتنة، تقبل في صورة شيطان، وتقطع الصلاة كالحمار، ومبعث للشئوم كالدابة والدار، فوظيفة المرأة الوحيدة في الفكر الأصولى هي الجنس ووعاء للإنجاب، ومكانها الطبيعي والوحيد عندهم هو المنزل حتى لا تكون مصدر الفتنة. وقد يظهر هذا المنطلق الفكري عندهم عن المرأة في دفاعهم المستميت عن قضايا ترسخ لانتهاك حقوق النساء كزواج القاصرات، والختان ومنع المرأة من تولى مناصب عليا خاصة القضاء وغيره، مما يعكس النظرة الدونية التي يتبناها هؤلاء المتطرفين تجاهها، حتى أن الإرهابي وجدي غنيم أشتعل غضباً من نقل مومياء مكشوفة الشعر، وهو ما يعكس مدى التدني الفكري، خاصة وأنه اعتبر أن شعر المومياء المحنطة منذ ألاف السنين مصدر للفتنة.

بالتالي، يمكن القول، إن موكب نقل المومياوات الذي عكس احترام الدولة والمواطنين للمرأة المصرية- قد أشعل غضب كل المنتمين إلى الجماعات المتطرفة، بداية من قمة الاعتناء في نقل مومياوات الملكات المصرية، إضافة إلى تعالى الأصوات عن مجد المرأة المصرية في الحضارة المصرية القديمة، مروراً باختيار سيمفونية تتحدث عن الملكة ايزيس الأسطورية، وصولاً إلى الإشادة الكبيرة بعازفات مصريات، تصدرن المشهد بكل فخر وثقة وتعبير مشرف عن المرأة المصرية كما يجب أن تكون. وعلى ما سبق، وجد المتطرفين أنفسهم وسط سيل من إعلاء القيم والأفكار التي حاربوا لمحوها على مدى عقود، وضيعوا في سبيل ذلك الأموال والوقت والمجهود الضخم الذى ضاع هباء وسط هذا المشهد.

المتطرفين والآثار:

ينظر المنتمين إلى الأفكار الراديكالية إلى الآثار باعتبارها أصنام، وظهر ذلك جليا إبان حكم جماعة الإخوان الإرهابية لمصر، حيث تعالت الأصوات حينها بحرمة التربح من السياحة الأثرية، ووجوب هدم أبو الهول والأهرامات، ونبذ الحضارة الفرعونية بالكلية، باعتبارها حضارة كافرة وفق تصوراتهم، ويعكس تعامل تنظيم داعش مع الآثار – باعتباره المثل الحي على تلك الأفكار- في العراق وسوريا، نموذج حى على نظرة المتطرفين إليها، حيث قاموا بتدمير عدة مواقع ومنحوتات أثرية في العراق وسوريا تعود لعصور قديمة، ومنها ما كان مدرج ضمن لائحة التراث العالمى التابعة لمنظمة اليونسكو، بالإضافة إلى تدمير مساجد وكنائس ومعابد أثرية، حيث قام التنظيم الإرهابى بتصوير تدمير كل هذا التراث الحضاري، متباهياً بالقضاء على الأصنام في صورة مقيتة تدل على عقلية ظلامية.

وعليه؛ فإن موكب نقل المومياوات الملكية بهذه الصورة المبهرة والمشرفة قد أصابت أصحاب الأفكار المتطرفة في مقتل ووضعتهم في عزلة مجتمعية، خاصة بعد إعلان كل مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية عن الاهتمام بالآثار، وتفكيك حالة الاحتفاء وعدم القبول التي حاولت أن تزرعها الجماعة أثناء توليها السلطة في البلاد.

أخيرا يمكن القول، إن الموكب الملكي لنقل المومياوات قد أعاد إلى الأذهان قيمة وأهمية ثورة الثلاثين من يونيو 2013، التي لولاها ما كان لنا أن نعيش هذا المشهد العظيم، الذى وقف له العالم بكل إجلال وتقدير، وما كان للشعب المصري أن يسترجع هويته المصرية، بكل ما تحمله من معانى الحضارة والعراقة، فهذه الجماعات الظلامية كانت أخذة الدولة المصرية الى هاوية الظلام والجهل والتخلف.

.

أسماء دياب

د. أسماء دياب، المدير التنفيذي للمركز، ورئيس برنامج دراسات التطرف والإرهاب، دكتوراه في القانون الدولي- كلية الحقوق جامعة عين شمس، حاصلة على ماجستير القانون الدولي جامعة القاهرة، وحاصلة على دبلوم القانون الدولى جامعة القاهرة. وحاصلة على دبلوم القانون العام جامعة القاهرة، خبيرة في شئون الحركات الإسلامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى