تقارب حذر: أي مسار تتخذه العلاقات السعودية التركية؟
تبدو هناك مستجدات بدأت تتشكل ملامحها النهائية ستؤثر في المسار الذي قد تتخذه العلاقات السعودية التركية خلال الفترة المقبلة. فعلى الرغم من أن العلاقات بين البلدين لن تعود لسابق عهدا خلال فترة قصيرة، فإن التغيرات الدولية التي حدثت وقد تحدث، ومن أهمها وصول الديمقراطيين سدة الحكم في الولايات المتحدة، قد تفتح الطريق أمام تسريع وتيرة العلاقات بين أنقرة والرياض، خاصة بعد تصريحات “بايدن” وإدارته في فبراير الماضي التي بدت تزعج الطرفين.
وما قد يشير إلى حرص البلدين على التقارب، هو إبقائهما القنوات مفتوحة للحوار رغم تصاعد الأزمة بينهما خلال العامين الأخرين، فخلال المحادثة الهاتفية بين الرئيس أردوغان، والملك سلمان، قبيل استضافة السعودية لقمة مجموعة العشرين عام 2020، اتفق الجانبان على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة، تلاها تصريحات إيجابية متبادلة من البلدين، لتكون بذلك أولى بوادر تحسن العلاقات.
وفي ظل إعلان الرئيس التركي “أردوغان” في منتصف مارس الماضي 2021 عن تقديم السعودية لطلب لشراء صفقة طائرات من دون طيار التركية، وهو ما يعتبره البعض بمثابة مؤشر على أن هناك تقارب بدأت تتضح معالمه بين الدولتين- يبقى السؤال: ما هي أسباب تغير لهجة الخطاب التركي تجاه السعودية، وما هي إمكانية تحسين العلاقات بينهما، وانعكاسات ذلك التقارب على العلاقات بين الطرفين؟
تراجع محسوب:
في هذا السياق يمكن الحديث عن جملة الأسباب- الداخلية والخارجية- التي دفعت أنقرة باتخاذ ما أعتبره البعض توجهات جديدة أو انقلاباً في سياستها الخارجية، ومن ثم إعادة النظر في سياستها الإقليمية، ويمكن تحديد هذه الأسباب على النحو التالي:
(*) السبب الأول، يتمثل في تصاعد أصوات المعارضة التركية ضد سياسات النظام التركي، وتحول سياسة صفر المشكلات إلي مشكلات من كل اتجاه. وفي هذا السياق يمكن استعراض دعوات أحزاب المعارضة التركية التي كانت ومستمرة في رفض السلوك العدائي ضد السعودية ومصر، حيث ترى أنه لا جدوى من الاستمرار في دعم جماعة الإخوان وغيرها من أنصارها.
(*) أما الثاني، فيتمثل في اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية 2023- وفي ظل حديث المعارضة المستمر عن انتخابات مبكرة- يخشى نظام “أردوغان” من خسارتها، بل يتخوف من تكرار سيناريو انتخابات 2018 وخسارة حزبه (العدالة والتنمية) لأهم معاقله” بلدية اسطنبول” والتي يدرك “أردوغان” جيدا أن من يسيطر عليها يسيطر على تركيا.
(*) السبب الثالث، متمثل في الضغوط الاقتصادية وغيرها، حيث يلاحظ تقلص الاقتصاد التركي إلى حد كبير، وفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية على تركيا، وكثرة الضغوط عليها من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة. فمن ناحية تعلم أنقرة أن الرئيس الأمريكي غير راض عن سياساتها الإقليمية خاصة في ملف غاز شرق المتوسط والصراع في ليبيا، ومواجهتها للأكراد حلفاء الولايات المتحدة، وعلاقاتها بالفصائل المسلحة الإرهابية، فضلاً عن علاقات تركيا بروسيا وشرائها منظومة s400، والإدانات الأمريكية لها في ملف حقوق الإنسان.
بالتالي، يمكن القول إن أنقرة لا تريد مزيداً من العقوبات الأمريكية التي تسببت بشكل كبير في تقليص الاقتصاد التركي، وانهيار الليرة التركية أمام الدولار، وهو ما دفعها بالتفكير قليلا والالتفاف لجيرانها العرب، خاصة كبار المستثمرين منهم، وأبرزهم السعودية ذات الاستثمارات الكبيرة، حيث بلغت الاستثمارات السعودية في تركيا حوالي 8 مليار دولار، وكانت الدولتان تخططنا لزيادتها إلى 20مليار دولار، إلا أن الظروف الإقليمية والدولية آنذاك قد أخرت من تلك التطورات حتى فقد وصل الأمر إلى زيادة الدعوات السعودية لمقاطعة المنتجات والبضائع التركية.
(*) أما الرابع، فيتمثل في فشل سياسات أنقرة الخارجية، خاصة تسوية الملف الليبي وفق الرؤية (المصرية-السعودية الإماراتية) وبدء عملية انسحاب المليشيات المسلحة التي أرسلتها أنقرة خلال الصراع بين الشرق والغرب حيث تحدثت تقارير عن سحب أنقرة 120 مرتزق من فصيل السلطان المراد المدعوم من تركياً ونقلهم لأماكن سيطرتها في الشمال السوري. هذا بالإضافة إلى تغيرات بدأت تتشكل في الموقف التركي من ملف غاز شرق المتوسط، وعودة أنقرة للجلوس والتفاوض مع أثينا.
تقارب حذر:
أهم ما يدلل على الخطوات التركية التي اتخذتها في سياق تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية، يتمثل في عدة تصريحات، قد يكون أهمها: ما صرح وزير الخارجية “مولود تشاويش أوغلو” بأن “أنقرة لا ترى أي مانع من تحسين العلاقات مع السعودية والإمارات، وأنه في حال أقدمت السعودية على خطوات ايجابية فسنقابلها بالمثل”. وعلى جانب أخر، فقد التزمت أنقرة الصمت حيال تقرير الاستخبارات الأمريكية تجاه “تقرير مقتل خاشقجي” حيث أعتبر ياسين أقطاي -مستشار الرئيس أردوغان بالحزب- “انه لم يكن هدفنا على الإطلاق وضع السعودية في موقف صعب” ولم يصدر أي تعليق من الرئيس ولا وزير الخارجية التركية، فضلاً عن التهدئة الإعلامية تجاه الجانب السعودي وكل ما يخص ولي العهد “محمد بن سلمان”. أضف إلى ذلك تواصل الملك سلمان مع الرئيس التركي في خضم الإعداد لقمة العشرين نوفمبر السابق، وفي نفس السياق التقى وزيرا خارجية البلدين خلال اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي في النيجر وبعدها صرح “تشاويش أوغلو” بأهمية السعودية وأهمية استرجاع العلاقات معها مرة أخرى.
وفي سياق متصل أعلن “أردوغان” عن الطلب السعودي لشراء صفقة من طائرات بدون طيار التركية في الوقت الذي أعلنت فيه السعودية عن قيامها بمناورات عسكرية مع اليونان، وهو ما دفع “أردوغان” للتعبير عن حزنه جراء تلك الأنباء، فبالتأكيد تأتي هذه الخطوة تدعيما للمحور المصري القبرصي اليوناني الفرنسي لمواجهة أطماع تركيا في شرق المتوسط وحماية المصالح الاقتصادية لذلك المحور.
ومن المرجح أن تُأتى الخطوات التركية الجديدة بثمارها، حيث التقى وزير الخارجية التركي مع نظيره الأمريكي في بروكسل، وقد أعرب الأخير عن تطلعه إلى استمرار التعاون مع تركيا بشأن مكافحة الإرهاب. كما أعلنت المملكة العربية السعودية عن نيتها تصنيع الطائرات بدون طيار على أراضيها بعقود مع شركات تركية وصينية أيضا. هذا بالإضافة إلى إعلان أنقرة واليونان عن استئناف الاجتماعات بين الجانبين لمناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك، فيما ردت القاهرة على محاولات التودد التركي بوضع شروط لإصلاح العلاقات بينهما، وتبعها تصريح وزير الخارجية التركي بأن البلدان يمكنهما ترسيم الحدود بينهما إن سنحت الفرصة.
وأخيرًا، يمكن القول إن معاناة تركيا اقتصاديا وسياسيا في الآونة الأخيرة بسبب تصرفات “أردوغان” وإصراره على تحقيق “العثمانية الجديدة ” وأوهام السيطرة والنفوذ على الشرق الأوسط حيث جاءت الرياح بما لا تشتهيه سفن “أردوغان” وتقلص الاقتصاد التركي وفقدت الليرة التركية 15%من قيمتها وزادت معدلات البطالة ومعدلات التضخم وتراجعت الاستثمارات الأجنبية فضلاً عن العزلة الإقليمية المفروضة عليها من جانب وخسارتها لأهم وأبرز حلفاؤها- تعد أسباب رئيسية أجبر النظام الحاكم على التراجع التكتيكي لحين استباب الأمور وسعية لإصلاح علاقاته المقطوعة مع مصر ودول الخليج وبخاصة السعودية.