استعادة القوة الناعمة المصرية: دور المؤسسات الدينية في مكافحة التطرف والإرهاب بأفريقيا
مع تنامي نشاط الجماعات الإرهابية في القارة الأفريقية، لا سيما جماعة بوكوحرام في غرب أفريقيا، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي والساحل والصحراء، فضلاً عن تنظيم داعش المتمدد في مناطق عدة بأنحاء القارة، وهي جماعات وتنظيمات في الغالب تؤدي دورا وظيفيا لصالح استمرار نفوذ ومصالح قوى إقليمية ودولية متصارعة على موارد القارة.
وفي ظل غياب بعض الخصائص البنيوية والهيكلية اللازمة لبناء شخصية الفرد والجماعة في بعض المجتمعات الأفريقية، ووجود البيئات الحاضنة لانتشار الفكر المتطرف، الذي يهدد الأمن والاستقرار في القارة، والذي يؤثر بدوره على الأمن القومي المصري- اتجهت مصر إلى توظيف المقاربة الفكرية ونشر منهج الوسطية في معالجة قضايا الإرهاب والتطرف بالقارة الأفريقية، وهو ما نتناوله على النحو التالي.
الوسطية منهج مصري:
والوسطية التي تأتي بمعني الشيء بين الجيد والرديء، هي منهج في فهم الدين، ومنهج في العمل السياسي، ومنهج في التعامل مع الآخرين، ومنهج تتبعه مصر في علاقاتها الخارحية، ولعل الأزهر الشريف الذي تبنى عبر تاريخه المتخطي للألف عام، حافظ خلالها على نشر منهج الوسطية وعمل على نشر الفكر الوسطي الميسر، الذي يحترم الإنسانية والشريعة، ويعالج الأفكار المتطرفة، ويقف بالمرصاد ضد الإرهاب الذي نراه يتمدد في أفريقيا والعالم.
وفي السنوات الأخيرة شهدت السياسة الخارجية المصرية، انبعاثا قويا لحركة المؤسسات الدينية في توجهاته مصر الأفريقية، بعد أن أولى الرئيس السيسي اهتماما كبيرا بنشر الإسلام الوسطي وتجديد الخطاب الديني، ليس فقط في الداخل ولكن في العالم إيمانا بمصر الأزهر ومؤسساتها الدينية الوسطية.
أدوات المواجهة:
دخلت مصر عبر مؤسساتها في مواجهة فكرية مع تلك الجماعات، وضعت مصر قضية مُكافحة الإرهاب والفكر المُتطرف إحدى أولويات توجهاتها الأفريقية، إذ انخرطت مصر مؤخراً في برامج موسعة لتصدير الوسطية الدينية عبر أدوات متعددة، باعتبار محاربة الفكر المتطرف والإرهاب مسؤولية مصرية أصيلة نحو الإنسانية بعد أن نجحت القاهرة في أن تكون نموذجا يحتذى به في محاربة الإرهاب بكافة الوسائل وخصوصا بالفكر الوسطي بحسب ما أعلن الدكتور “محمد مختار جمعة” خلال المؤتمر العام الحادي والثلاثين لحوار الأديان والثقافات الذي نظمته وزارة الأوقاف، مارس 2021.
واتساقًا مع ما تقدم، وفي إطار الرؤية المصر ومُقاربتها الشاملة لمواجهة التطرف والإرهاب، يمكن تتبع أهم الآليات التي وظفتها مصر في مساعي تصدير الوسطية إلى القارة الأفريقية.
(*) إرسال البعثات والقوافل الدعوية، وهي من أهم وأقدم الآليات التي يعتمدها الأزهر في التواصل مع أفريقيا، وتكون مهمتها الأساسية؛ هي الدعوة إلى الإسلام، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، ونشر الفكر الوسطي المستنير، وبيان يسر وسماحة الإسلام، ونشر مكارم الأخلاق والقيم الإسلامية، كما تقوم هذه القوافل بعقد لقاءات مع القيادات الدينية والتنفيذية الإسلامية في البلاد المتواجدة بها؛ للوقوف على أوضاع المسلمين هناك.
وتستأثر أفريقيا بالنصيب الأوفر من عدد المبعوثين على نفقة الأزهر؛ يصل إلى نحو (75) بالمئة من إجمالي عدد المبعوثين في العالم؛ فخلال الفترة من (2001: 2018) بلغ عدد المبعوثين(8262) مبعوثاً بمختلف دول القارة، وذلك تلبية لاحتياجات القارة من حيث تخصصات العلوم الشرعية واللغة العربية وبعض التخصصات الثقافية.
(*) التوسع في برامج المنح الدراسية لطلاب الدول الأفريقية، والتي وصلت عام 2019 إلى سبعة آلاف منحة بجامعة الأزهر والجامعات المصرية، إضافة إلى تنامي البعثات التعليمية المصرية الموفدة إلى الدول الأفريقية، والتي ساهمت في نقل العديد من عناصر الثقافة العربية والإسلامية إلى تلك الدول.
(*) إنشاء “الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية” عام 2014، والتي تقدم الدعم الفني للدول الإفريقية لبناء قدراتها في المجالات المُتعلقة بمُكافحة الإرهاب وغيرها من المجالات، كما تتولى تنظيم دورات علمية متخصصة بالتعاون مع الجامعات المصرية؛ يخضع خلالها المتدربون لبرامج تدريبية، تؤهلهم لتفكيك الفكر المتطرف.
(*) أسست مشيخة الأزهر الشريف “مرصد الأزهر لمكافحة التطرف” في الثالث من يونيو 2015م لرصد ومتابعة ومجابهة الأفكار والأيديولوجيات المتطرفة التي تتبناها الجماعات الإرهابية بشتى أنواعها وكذلك الوقوف على أحوال المسلمين في جميع أرجاء العالم، ويعد المرصد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يقوم بترجمة وتحليل ما يصدر عن الجماعات الإرهابية بأثني عشر لغة حية يعمل باللغات (الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الأردية، الفارسية، اللغات الإفريقية، الصينية، الإيطالية والعبرية) بالإضافة إلى اللغة العربية، وقد أصدر عددًا من الكتب تُعتبر مرجعًا للباحثين في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، حول جماعات القتل باسم الدين في إفريقيا مثل كتاب”لماذا تتصدّر بوكو حرام الجماعات الأكثر دموية في العالم؟”.
(*) قيام مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية بإطلاق عدد من الحملات التوعوية عبر صفحاته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها حملة باللغة السواحيلية بعنوان: “فلنتعرف على حقيقة الإسلام” بهدف توعية الشباب الناطق بالسواحيلية بحقيقة الدين ومبادئه السمحة ونفي ما يردده المتطرفون من حركة الشباب الصومالية وغيرها من مزاعم وادعاءات.
(*) قوافل السلام، انطلقت لأول مرة في 22 يونيو 2015، بالتعاون بين الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، للقيام بحملات ثقافية ومعرفية إنسانية، في البلدان التي تشهد بعض التجاذبات أو النزاعات والاحتراب الثقافي على كل المستويات الدينية والعرقية أو الإثنية، وتعمل من خلالها على تخفيف الاحتقان الديني وتعزيز السلم المجتمعي، ومنذ ذلك الحين تم إرسال 18 قافلة، منها خمس قوافل للدول الأفريقية تشمل: نيجيريا، تشاد، جنوب إفريقيا، إفريقيا الوسطى، وكينيا في أبريل 2018م، شملت كلاً من: جنوب إفريقيا، وتشاد، وأفريقيا الوسطى، ونيجيريا، وكينيا، بهدف ترسيخ الخطاب الدينى الوسطى، وتحقيق التواصل الفعال بين أبناء القارة.
(*) إنشاء أكاديمية الأزهر لتدريب الأئمة والوعاظ في يناير عام2019، كمؤسسة رائدة في إعداد وتدريب علماء ومفتين ودعاة مستَوعِبين لمضامين الشرع ومُقتضيات العصر، وفقًا للمنهج الأزهريّ الوسطي، لتكوين عقول قادرة على مسايرة تطورات الأحداث والمجتمعات، إضافة إلى إنشاء أكاديمية الأوقاف الدولية في يناير2019، لتأهيل وتدريب الأئمة والدعاة، وجميع القائمين على الحقل الدعوى، بالداخل والخارج، وتستهدف الأكايمية إمام متميز ومعاصر، يتمتع بكل المؤهلات التعليمية والتدريبية.
(*) ترجمة الكتب الدينية إلى اللغات الأفريقية، كما يتم ترجمة خطبة الجمعة إلى أربع لغات أفريقية هي: السواحيلية، والأمهرية، الهوسا، الصومالية، إضافة ترجمة الخطبة إلى اللغات: الانجليزية والفرنسية والبرتغالية للمتحدثين بها من أبناء القارة الأفريقية، إضافة إلى ترجمة الخطبة إلى لغة الإشارة.
(*) اشتراك المؤسسات الدينية المصرية في المؤتمرات التي تنظّمها الدول الأفريقية، كما تستقبل في المقابل العلماء والباحثين من مختلف الدول الإفريقية المشاركين في المؤتمرات العلمية التي تنظم وتعقد في مصر، والتي كان آخرها المؤتمر العام الحادي والثلاثين لحوار الأديان والثقافات الذي نظمته وزارة الأوقاف مارس 2021، وشهد حضور مسئولين من وزارات الأوقاف من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتنزانيا وعدد من الدول الأخرى.
ودائما ما حافظت مصر عبر مؤسسساتها الدينية – الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء- على حيوية دورها وحضورها في القارة الأفريقية، وذلك من خلال العمل المتناغم، الذي يستهدف تصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار المتطرفة التي شابت الخطاب الديني خلال الفترات الماضية، والعمل على إحياء ثقافة المواطنة والتعايش السلمي.
في النهاية، يمكن القول أن مصر لا تدخر جهدا في سبيل محاربة الفكر المتطرف والجماعات الإرهابية، بنشر الدين الإسلامي الوسطي في أفريقيا والعالم، والذي يأتي تجسيدا لقناعتها، بأن من واجب مصر التصدي للإرهاب على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وهو ما يدفعها دائما لإبداء استعداها للتعاون مع الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، الرافضة للإرهاب والتطرف، والراغبة في تكريس الأمن والسلم والاستقرار العالمي، الذي يواجه تهديدًا متناميا من التنظيمات الإرهابية والدول الداعمة لها، سواء في أفريقيا أو غيرها.