دوائر التقاطع: إلى أي مدى سيتمكن “بايدن” من تغيير السياسة الأمريكية نحو أوروبا
لا تزال ملامح السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس بايدن غير واضحة حتى الآن، رغم مرور أكثر من شهرين على وجوده في البيت الأبيض، وذلك بالنظر للتوقعات العريضة بحدوث تغيرات أساسية وجوهرية في بعض السياسات الأمريكية خلال الفترة القادمة، وضمن عملية التصحيح أو ما يمكن أن نسمية إعادة التأكيد على بعض الثوابت في موقف الولايات المتحدة من بعض القضايا الدولية، وعلى رأسها الموقف من الحلفاء التقليديين ، خاصة التحالف التاريخي عبر الأطلسي، والتحالف مع اليابان وكوريا الجنوبية، والشراكة الاستراتيجية مع بعض الدول ومنها دول الخليج العربي، بالإضافة لمسألة إعادة رسم خريطة المهددات للأمن القومي الأمريكي، على مستوى التنافس على زعامة العالم مع قوى مثل روسيا و الصين.
يتطلع فريق بايدن الجديد لإعادة أمريكا إلى مكانتها المعهودة، وتحكمها في عديد من الملفات المصيرية في السياسة الدولية ، بعد أن تخلت الولايات المتحدة خلال عهد ترامب عن مسئولياتها تجاه قضايا عالمية مثل المناخ والصحة وغيرها، لذلك فور توليه السلطة في يناير الماضي، وفي نفس اليوم اتخاذ 14 قرار ، مثلت في مضمونها تراجعاً عن مواقف سلفه إزاء ملف المناخ وكذا منظمة الصحة العالمية في اشارة واضحة الى عودة الولايات المتحدة الأمريكية الى المؤسسات متعددة الأطراف بعد أربع سنوات من الأحادية المسعورة كما وصفها الإعلام الأمريكي.
بايدن والتعامل مع إرث ترامب في أوروبا:
اعترف الكثير من قادة دول الاتحاد الأوروبي أن العلاقات الأمريكية الأوروبية أثناء فترة ترامب قد تراجعت لمستويات غير مسبوقة، على مستوى التنسيق المشترك إزاء التعامل مع القضايا الدولية وكان التباعد في المواقف الأمريكية والأوروبية واضحاً بصورة كبيرة في القضية الإيرانية، بسبب إصرار ترامب على اتخاذ سياسة احادية لا تراعي مصالح الحلفاء الأوروبيين، مع قراره المنفرد بالخروج من الاتفاق النووي في مايو 2018، رغم المناشدات الأوروبية المستمرة بعدم الخروج من الإتفاق والتحذير من تبعات هذه الخطوة، مما دفع أوروبا لإتخاذ سياسات أكثر استقلالية في التعامل مع إيران، وصلت لمستوى تأسيس آلية أوروبية للإلتفاف على العقوبات الأمريكية وتسهيل التعامل التجاري لإيران مع أوروبا عبر هذه الآلية المعروفة بآلية ( انستكس). كما امتدت نطاقات التباعد الأمريكي الأوروبي خلال فترة ترامب لقضايا الدفاع من خلال اتخاذ ترامب لمواقف تتعلق بمساهمة أوروبا في حلف الناتو، وحثه للدول الأوروبية على زيادة مستويات الإنفاق العسكري ، خاصة ألمانيا، علاوة على اتخاذه مواقف صراعية مع الصين في قضايا التبادل التجاري وتكنولوجيا الجيل الخامس وغيرها، لم تراعي أيضاً المصالح الأوروبية مع الصين، كذلك فيما يتعلق بروسيا، أبدا الرئيس السابق دونالد ترامب مواقف أكثر تقارباً وأكثر مهادنةً مع روسيا، خاصة على مستوى العلاقة مع القيادة الروسية ممثلة في الرئيس بوتين. إذن ووفق المحللين الأوروبيين فإن الرئيس السابق ترامب قد أنهك أوروبا سياسياً واستراتيجياً، كما انهكها اقتصادياً من خلال فرض بعض الرسوم على الواردات الأوروبية في بعض السلع. لذلك تأمل القادة الأوروبيين بفوز جو بايدن إمكانية استعادة مربع العلاقات بينهم وبين أمريكا لسابق عهدها ، وتنصيب أولويات السياسة بين الطرفين إزاء الملفات ذات الاهتمام المشترك كإيران والصين وروسيا وأوكرانيا وتعزيز العلاقات الثنائية مع دول الناتو وتوحيد المواقف تجاه مسألة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث اعتبر الكثير من المحللين أنّ ترامب هو من حثّ بريطانيا على ترتيب خروجها من الاتحاد الأوروبي، الذي سعى الأوروبيون الى بنائه لأكثر من أربعة قرون كاملة من الزمن .
ملامح السياسة الأوروبية لـ “بايدن”:
ينتظر الأوروبيون من جو بايدن تصحيح مسار العلاقات بين الحلفاء التاريخيين، وبالقطع هناك تفاؤل في الأوساط الأوروبية بأن الولايات المتحدة تتجه لإعادة تقييم موقفها السياسي والاستراتيجي من أوروبا في عهد الإدارة الجديدة ،حيث دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الرئيس بايدن الى زيارة ألمانيا فور إعلان فوزه . كما اقترح رئيس المجلس الأوروبي ميشيل تشارلز على بايدن ميثاق تأسيس لعالم أفضل ، كما توالت الاعرابات عن التفاؤل في إعادة إنعاش العلاقات بين الطرفين وتطبيعها من جديد ، على الجهة الأخرى من الأطلسي تؤكد كل التصريحات الأمريكية حتى الآن مدى الانسجام مع المواقف الأوروبية (الخطابات والتصريحات الرسمية للرئيس الأمريكي وأركان إدارته) ، كذلك بدا هذا التوجه واضحاً في الخطاب الذي ألقاه بايدن في مؤتمر ميوونيخ الأخير للأمن الشهر الماضي تزال هناك عدداً من القضايا العالقة ، والتي ستحدد مدى التغيير الحقيقي في السياسة الأمريكية تجاه اوروبا، ومنها ما يلي:
- الملف الإيراني، فرغم تأكيد الولايات المتحدة على أنها ستراعي مصالح شركائها الأوروبيين ومن دول المنطقة كذلك، إلا أن الموقف الأمريكي من إيران حتى الآن لا يزال غير واضح، خاصة مع تمسك إيران بموقف تفاوضي متشدد، وإصرارها على أن تعود الولايات المتحدة للإتفاق أولا وترفع العقوبات ، حتى تعود بعدها إيران عن كافة الخطوات التي اتخذتها ( الكل مقابل الكل) . حيث تحاول بعض القوى الأوروبية مثل فرنسا طرح مبادرات للحل، إلا أنها حتى الآن لم تلقى القبول من الطرفين الأمريكي والإيراني.
- الملف التجاري بين أمريكا واوروبا، ويبدو أنه سيظل من الملفات الشائكة ، التي لن تشهد حلول سريعة وبقرارات جرئية كما هو الحال بالنسبة للملفات السياسية ، بسبب مصالح بعض الشركات الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، لذلك أعلن بايدن إبقاء الرسوم الاضافية على بعض السلع التي دخلت حيز التنفيذ في 12 كانون الثاني المنصرم على خلفية النزاع بين بوينغ وارباص، وقد ألمح الممثل التجاري الأمريكي أنه ليس من الضروري في هذه المرحلة مراجعة تلك العقوبة التجارية التي استهدفت الرسوم الجمركية على السلع الألمانية والفرنسية بنسبة 25 %على بعض أنواع النبيذ والكونياك و 15 % على أجزاء تصنيع الطائرات، وهو ما ترك رد فعل من جانب أوروبا عبر عنه وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية كليمان بون أنه ينبغي على أوروبا تحمل المزيد من المسؤولية ومشروع الاستقلالية الاستراتيجية لا يفقد معناه حتى مع إدارة بايدن ، كما أضاف أنه على أوروبا تحديد قيمها ومصالحها بنفسها ، وبالطبع ليس ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية ، اذ يجب علينا التعاون وذهب برأيه بعيدا اذ يأمل أن يضمّ التعاون حماية البيئة والسياسة الأمنية والتجارة ، وهو ما عبر عنه بقوله أن الشراكة تحتاج الى انطلاقة جديدة.
- استمرار النهج الأحادي في العقوبات الدولية. خاصة عندما تطول العقوبات دول من دول الاتحاد، وهو ما برز مع أزمة خط غاز الشمال 2 نورث ستريم بين روسيا وألمانيا، حيث أكد السفير الفرنسي الأسبق في الولايات المتحدة، بيير فيمون، الذي شغل سابقا منصب مبعوث رئيس فرنسا للتعاون مع روسيا أن أوروبا تشعر باستياء متزايد من التهديدات الأمريكية بفرض العقوبات، وقال فيمون، “يستمر تشديد العقوبات العابرة للحدود، التي أصبحت سلاحا مفضلا للدبلوماسية الأمريكية الساعية إلى محاسبة كل من لا يتبع نهجها السياسي تجاه روسيا وإيران”.وأضاف: “يتزايد عدد الأوروبيين الذين يعتبرون مثل هذه التصرفات غير مقبولة. برلين أدركت هذا الأمر أفضل من الآخرين بعد مواجهاتها الضغوط (الأمريكية) بسبب خط أنابيب الغاز السيل الشمالي 2. وهذا الموضوع يخص كذلك المؤسسات الأوروبية”.واعتبر الدبلوماسي الفرنسي أن مشروع “السيل الشمالي 2” اقتصادي، معربا عن أسفه بسبب الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تعارضه مجموعة دول لدوافع سياسية وتعتقد أنه “مفيد لدرجة مفرطة للمصالح الاقتصادية الروسية”.وأشار إلى أن الأوضاع لم تتغير حتى بعد انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، لأن الكونغرس يمارس ضغطا على السلطة التنفيذية الجديدة بقيادة جو بايدن لتكثيف العقوبات ضد المشروع.
- الموقف من روسيا. تمكنت السياسة الأمريكية في عهد ترامب من خلق مسافة نسبية بين الموقف الأمريكي من روسيا في مقابل المواقف الأوروبية الجماعية، حيث اتجه ترامب خلال فترات رئاسته لمد جسور من التعاون مع روسيا، والحديث عن ضرورة استعادة روسيا لموقعها ضمن منظمة السبع الكبار G7 ، بعد أن تم استبعادها من المجموعة عقب ضمها بالقوة لشبه جزيرة القرم، وهو الأمر الذي عارضته بريطانيا وكندا بقوة، وتسبب في أزمة في حينه، وعلى ما يبدو إن إصلاح هذه الفجوة في عهد بايدن ليست بالسهلة ، فالأوربيون بشكل عام مختلفون إزاء النظر لروسيا كتهديد مطلق، بعكس الولايات المتحدة التي تضع روسيا والصين ضمن أول مصادر التهديد للأمن القومي الأمريكي، لإعتبارات التنافس على قمة النظام الدولي، بينما أوروبا ترى أن وضع روسيا مع الصين في سلة واحدة ليس من صالح أوروبا، خاصة في ظل الروابط الاقتصادية والتاريخية التي تجمع روسيا بأوروبا، فروسيا في الجغرافيا السياسية دولة أوروبية، لذلك يرى بعض القادة الأوروبيين مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن روسيا أوروبية ، وأنه يمكن التعاون معها في كثير من الملفات الأمنية والمناخ والطاقة وغيرها، وهناك دول مثل ألمانيا تربطها بروسيا مصالح استراتيجية ، وستتضرر من اي عقوبات أحادية على روسيا يمكنها ان تطول مناطق ومشاريع التعاون الاقتصادية بين روسيا وأوروبا، مثل مشروع «نورد ستريم 2» الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا أسفل بحر البلطيق. ويتفق مع هذه الرؤية كثير من الدول الأوروبية، ربما باستثناء بريطانيا.
نخلص مما سبق أن السياسة الأمريكية تجاه أوروبا لم تتغير بشكل كبير حتى الآن، رغم التصريحات الإيجابية من جانب إدارة بايدن بضرورة استعادة الشراكة والتحالف الاستراتيجي عبر الأطلسي لسابق عهدها، فالملف التجاري سيظل عقبة في هذا المسار، كذلك ملف العلاقة مع روسيا ، بالإضافة لمسار المفاوضات القادمة مع إيران، وإلى أي مدى ستقبل الولايات المتحدة بالمصالح الأوروبية في الاتفاق الجاري الترتيب له، كذلك الكيفية التي ستتعامل بها إدارة بايدن مع الرؤية الأوروبية لبعض قضايا الشرق الأوسط الحيوية مثل الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، ومسألة حل الدولتين، والموقف من بعض القضايا الدولية خاصة فيما يتعلق بالتعاون في الحصول على اللقاحات الخاصة بمواجهة فيروس كورونا. كل هذه الملفات ستجعل ملف العلاقات الأمريكية الأوروبية عالقاً بظروف مختلفة، لا ترجح بالضرورة حدوث تحول كبير في الموقف الأمريكي من أوروبا.