أيديولوجية مستمرة: ما هو مستقبل “الترامبية” في الولايات المتحدة الأمريكية؟
وفقاً لبعض المراقبين لا تزال الأصوات الـ 74 مليون، التي حصل عليها حصول “ترامب”، تمثل مشكلة للرئيس ” بايدن”. وبالتالي، يمكن القول، إنه على الرغم من انتهاء رئاسة دونالد ترامب، فإنه الترامبية لا تزال موجودة، وتمثل مشكلة، خاصة وأنها أصبحت تشير إلى أيديولوجية سياسية وأسلوب حكم، بل وحركة سياسية ذات قاعدة، تتمسك بمجموعة من الآليات لاكتساب السلطة، والاحتفاظ بها.
وقد أطلق علي” الترامبية” اسم البديل السياسي الأمريكي لليمين المتطرف والمشاعر القومية الشعبوية والقومية الجديدة التي شوهدت في عدة دول في جميع أنحاء العالم من أواخر عام 2010 إلى أوائل عام2020، بينما بدأ المصطلح الأمريكي-الترامبية- بالظهور عام 2016 بصعود دونالد ترامب وبدء حملته الانتخابية وفوزه بترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016، حيث تشير هذه الحركة إلى أسلوب سياسي شعبوي يقترح إجابات قومية على المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنعكس هذه الميول في تفضيلات السياسة العامة مثل تقييد الهجرة والحمائية التجارية والانعزالية عن الدخول في العلاقات الخارجية.
تأسيسا على ما سبق، وفي ظل مرور أربعة سنوات على الخطاب العام الذي هيمنت عليه الإهانات والادعاءات ونظريات المؤامرة- يمكن طرح عدة أسئلة، أهمها: هل تستمر ظاهرة “الترامبية” كظاهرة مستقلة بعد ترامب، أم أنها سوف تتراجع بعد رحيله من السلطة؟، وما هي السمات الأساسية لظاهرة الترامبية، وما ومستقبل الحزب الجمهوري في حقبة ما بعد ترامب؟، وما هو الدور المحتمل الذي يمكن أن تلعبه الترامبية في السياسة الأمريكية؟.
ملامح الظاهرة الترامبية:
يمكن توضيح عدد من السمات الأساسية لظاهرة الترامبية، والتي جعلتها ظاهرة سياسية فريدة لها جاذبية مدهشة عبر مختلف الطيف السياسي، في النقاط التالية:
(*) السمة الأولى، الشعبويةPopulism : حيث تجذب الترامبية مجموعة كبيرة من الساخطين المناهضين للفكر ونظريات المؤامرة والمغتربين. فهي تجسد نوعًا معينًا من الشعبوية الأمريكية يجمع بين الوطنية الصريحة والقومية الاقتصادية، جنبًا إلى جنب مع التزام غامض تجاه الطبقة الوسطى وسياسة خارجية عدوانية ولكن غير محددة، وذلك من خلال الاعتماد على خطاب الاستياء إزاء عدد من القضايا التي تستميل محدودي التعليم، والذين يؤمنون بنظريات المؤامرة. وعليه، يمكن القول إن أكثر مؤيدي ترامب من شريحة الرجال البيض الساخطون على الواقع، بعد أن أصبحوا أقلية ضمن أقليات متعددة، بعضهم خسر وظائفهم وبعضهم متعثر اقتصاديًا.
(*) السمة الثانية، القوميةNationalism أو نزعة العداء للمهاجرينNativism : فقد ظهرت الترامبية لأول مرة كجزء من حركة بيرثر أو حركة بلد الولادة التي كانت تشكك في ديانة وجنسية الرئيس السابق براك أوباما. وكان دونالد ترامب من أبرز الشخصيات التي عملت على ترويج هذه الإدعاءات مما أبقاه في دائرة الضوء الإعلامية لأكثر من عام، وساعده بشكل كبير على تطوير قاعدة دعم أولية. لكن خلال الأربع سنوات الماضية أضافت الترامبية تمييزا ضد الأقليات غير البيضاء خاصة السود واللاتينيين المهاجرين من أمريكا الجنوبية، وضد الأقليات الدينية مثل المسلمين وأحيانا اليهود، وتجلى ذلك في سياسات ترامب وبناء جدار على طول الحدود المكسيكية وترحيل جميع المهاجرين غير الشرعيين بالإضافة إلى حظر جميع هجرة المسلمين.
(*) السمة الثالثة، الشهرة :Celebrity فقد مكنت الشهرة دونالد ترامب من الاستحواذ على المشهد السياسي بطريقتين فريدتين، فعلى عكس السياسيين الآخرين الذين يسعون إلى تأطير أو إعادة صياغة صورتهم من خلال التغطية الإعلامية الإيجابية خلال الحملة، فإن شخصية ترامب الشهيرة كرئيس تنفيذي وصانع قرار صارم قد تم ترسيخها بالفعل. وبالتالي مع هذه الميزة الهائلة على منافسيه، وعلى الرغم من أخطاءه العديدة في الحملة الانتخابية، فقد صمدت هذه الصورة حتى في ظل انتقادات لاذعة من شأنها أن تدمر أي مرشح آخر، كذلك شعر العديد من الناخبين المنفصلين عن السياسة بالاطمئنان نحو اختيارهم لترامب الشخصية المشهورة التي ستتمكن من تحقيق أحلامهم. وعلى ما سبق، تشير القدرة على ترجمة رأس المال الثقافي للشخصيات المشهورة إلى رأس مال سياسي، إلى أن المشاهدين يمكن أن يتحولوا بالمثل إلى ناخبين متحمسين.
(*) السمة الرابعة، الترامبية الماليةFinancial Trumpism : وهي، تمثلت في اهتمام ترامب بأسواق المال، والبورصة أكثر من اهتمامه بالاقتصاد الحقيقي، مع تصور أن مؤشرات الأسواق هي معيار الانجاز، وأن ارتفاع السوق كفيل بحل مشكلات الاقتصاد، مما نتج عنه انتشار شركات السمسرة وتداول الأسهم على الإنترنت، دون حاجة لطرق التداول التقليدية.
(*) السمة الخامسة، الدخيل The Outsider: حيث تجد الترامبية القوة من الموقف غير المعتاد للدخيل، غالبًا ما تفاخر ترامب بأنه رفض ملايين الدولارات من جماعات الضغط، ووصف خصومه بأنهم “دمى” لكبار المانحين. وعلى الرغم من أنه لم يسبق له الترشح لمنصب، إلا أنه ثري للغاية ويعرف المؤسسة جيدًا لدرجة أنه لا يضطر إلى كسب ود النخب بما في ذلك قادة الحزب الجمهوري، ولذلك وجد البعض فيه المرشح الصادق الذي سوف يساعد الناخبين لأنه لا يحتاج للشهرة أو المال أو المنصب، فهو يملكها جميعًا.
الحزب الجمهوري في مرحلة ما بعد ترامب:
طرح خروج ترامب من المشهد السياسي الأمريكي تساؤلات كثيرة داخل الحزب الجمهوري حول المستقبل السياسي للحزب، على النحو التالي:
(&) تناولت أكثر المناقشات آليات التخلص من ترامب دون التأثير على تماسك الحزب، والحفاظ على القواعد الانتخابية المؤيدة له، لاسيما وأن ترشيح ترامب لانتخابات 2024 من المرجح أن يؤدي إلى تحول الحزب الجمهوري من اليمين المحافظ إلى اليمين القومي، والتحول إلى الترامبية الشاملة.
(&) بدأ زعماء الحزب الجمهوري في مناقشة أسماء المرشحين لانتخابات الرئاسة نوفمبر 2024 على ضوء أهمية البدء في طرح تلك الأسماء على الرأي العام الأمريكي بداية من صيف 2022. وفي سياق ما سبق، نأى عدد من الجمهوريين بأنفسهم عن الرئيس السابق بينما يستعدون لاختبار فرصهم في الوصول إلى البيت الأبيض، في المقابل يتخوف عدد من أعضاء الحزب الجمهوري من معاداة ترامب، خشية أن يذهب الحزب الجمهوري إلى مرحلة اضمحلال ثانية، أو يقرر ترامب الاستقلال بالجناح القومي داخل الحزب وإنشاء حزب سياسي مستقل، على ضوء حقيقة أن ترامب تنقل بين الحزبين الكبيرين بالإضافة إلى حزب ثالث والعمل مستقلاً من قبل.
(&) إذا أعلن ترامب في يناير 2021 ترشحه للرئاسة، فإن هذا الإعلان سوف يكون محرجًا لأعضاء في إدارته عزموا الترشح للرئاسة، حيث أجمع عدد من المراقبين على أن قائمة المرشحين المحتملين لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة تشمل نائب الرئيس السابق مايك بنس، والسفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، بالإضافة إلى عدد من أعضاء مجلس الشيوخ هم ماركو روبيو، وتيد كروز، وتوم كوتون، وتيم سكوت، وميت رومني وجوش هاولي وريك سكوت.
مسارات الترامبية في الولايات المتحدة:
يمكن استشراف أربعة سيناريوهات لمستقبل الترامبية في الولايات المتحدة والتي من المحتمل أن تتشكل خلال المرحلة القادمة، على النحو التالي:
السيناريو الأول، يتمثل في انتخاب ترامب مرة أخرى كمرشح رئاسي للحزب الجمهوري: حيث لا يزال دونالد ترامب ينجح في تحديد أجندة الحزب الجمهوري، كما لا تزال روايات ترامب تروق لقطاعات كبيرة من الناخبين الجمهوريين. ونتيجة لما يبق ذكره، قد ينجح ترامب في عقد أحداثًا جماهيرية منتظمة على المستوى الشعبي لإضفاء الشرعية على دوره المهيمن في الحزب، هذا إلى جانب احتمالات النجاح في ممارسة تأثير حاسم من الخارج على السلوك الانتخابي في الكونجرس، خاصة وأن أعضاء الكونجرس الجمهوريون عادة يصوتون وفقًا لتوجهاته إزاء عدد من القضايا المشحونة رمزياً وعاطفياً مثل الهجرة أو تغير المناخ، التي تنكر وجودها غالبية القاعدة الجمهورية. ويتسم هذا السيناريو بصعوبة التعاون بين الأحزاب، وانعدام تبادل النقاشات، إلى جانب تعرض الصحفيون والمحللين الذين يتخذون مواقف معاكسة لاتهامات وتهديدات شديدة. وبالتالي يرجح هذا السيناريو أن تكون الحملة الانتخابية 2023/2024 ستكون شرسة لدرجة أنها تمثل مساراً جديدًا في الثقافة السياسية الأمريكية.
السيناريو الثاني، يتمثل في تأسيس حركة الترامبية”، وابتعاد العديد من أعضاء الحزب الجمهوري عن دونالد ترامب: لكن رغم من مضمون هذا السينارية، فإن ترامب لا يزال يحظى بدعم قوي على المستوى الشعبي، حيث يقوم بتوظيف هذا الدعم المستمر لنفسه سياسياً وتجارياً، وتدشين بنيته التحتية الإعلامية الخاصة به، بل ويؤسس لـ “حركة ترامبية” يمينية شعبوية مستقلة من أجل الترشح في انتخابات عام 2024. وفقا لما سبق، فإن هذا السيناريو يتسم بازدهار نظريات المؤامرة، وحدوث اشتباكات عديدة في المدن الأمريكية وأعمال إرهابية يمينية، وتزايد حدة الاستقطاب، بالإضافة إلى محاولات ترامب التأثير على الكونجرس والإدارة من خلال حشد قاعدة قوية من المعارضين .
السيناريو الثالث، يتمثل في الحفاظ على إرث ترامب”، وانسحابه من المشهد السياسي، بالتزامن مع انهيار الحزب الجمهوري، وذلك في ظل عدم قدرته على التكيف مع التطورات: فمن المرجح أن يستمر العديد من أعضاء الحزب المحبطين في الإشارة إلى حقبة ترامب، دون التمكن من كسب أغلبية واسعة من الناخبين في المستقبل القريب، وقد يحاولون تأسيس حزب جديد، بينما في غضون ذلك ستصبح الترامبية حركة شعبوية متعددة الأوجه قادرة على دمج مجموعة متنوعة من الأهداف والمعتقدات السياسية الجديدة، وقد تشهد الترامبية ولادة جديدة لها في أي وقت. وبالتالي، يمكن التأكيد على أن هذا السيناريو، يتسم باستمرار إهانة الصحفيين، واعتبار النمو الاقتصادي المعيار الوحيد الملائم للسياسة الجيدة، والتقليل من شأن المعارضين السياسيين، كما سيشهد هذا السيناريو ترشح أحد أبناء ترامب للرئاسة حفاظاً على إرث الترامبية.
السيناريو الرابع، تعاون حزبي”: فقد يُنظر إلى الترامبية على أنها علامة تحذير مستقبلية للسياسة الأمريكية، وذلك في ظل رغبة أعضاء الحزب الجمهوري الذين يواجهون انتخابات الكونجرس عام 2022 في إبعاد أنفسهم عن ترامب في أقرب وقت ممكن. وعلى ما سبق، ونتيجة له، قد تظهر أشكال جديدة من التعاون بين الجمهوريين والديمقراطيين من أجل إقرار إصلاحات بعيدة المدى، مثل إدخال إصلاحات دستورية لمنع إساءة استخدام سلطة الرؤساء القادمين، وتقييد التلاعب في الدوائر الانتخابية، كما قد يتم تبسيط عملية تسجيل الناخبين ، مما يسهل على العديد من الفئات ممارسة حقوقها في التصويت، إلى جانب تزويد خدمة البريد الأمريكية بموارد جديدة لتمكينها من إجراء التصويت البريدي بفعالية، و في هذا المناخ الجديد من التعاون ، يحاول الكونجرس الأمريكي العمل بشكل أقرب إلى الشعب واستعادة الثقة المفقودة في عمله وتعزيز الثقة في السلطة القضائية.
في النهاية، يمكن القول أن التاريخ الفكري للظاهرة الترامبية يُظهر أن دونالد ترامب، هو زعيم أيديولوجية شبه متماسكة، ولذلك الترامبية سوف تبقى لسنوات بما تخلقه من انقسام سياسي واحتقان اجتماعي في قلب الحزب الجمهوري سواء بقيت قبضة ترامب مسيطرة على الحزب أم لا. ولكن ما سبق ذكره، سيتوقف على مدى قوة الانجذاب العام للترامبية بعد مغادرة ترامب البيت الأبيض على استمرار ترامب في النجاح في وضع جداول أعمال تتسم بتأثير واسع خارج المؤسسات السياسية وجذب انتباه وسائل الإعلام وحشد أتباعه، كما يتوقف أيضاً على قدرة الحزب الجمهوري في التحرر والانفصال عن ترامب من أجل الحفاظ على استقرار وتماسك الحزب الجمهوري.