هواجس متعددة: لماذا تدعم الجزائر العملية السياسية في مالي؟
منذ توليه رئاسة الجمهورية أبان الرئيس عبد المجيد تبون عن إدراك عميق بضرورة عودة الجزائر إلى أفريقيا، وأن أمنها القومي جزء لا يتجزأ من أمن المنطقة (المغرب العربي، أفريقيا جنوب الصحراء والساحل).
ولا شك أن زيارة رئيس دولة مالي المؤقت باه نداو إلى الجزائر يومي 13و 14 مارس الجاري، تندرج في هذا السياق، وتؤكد حرص الجزائر على ضمان أمن هذا البلد واستقراره، من خلال مساعدته على تحقيق العبور الآمن، ومرافقته في عبور المرحلة الانتقالية بأقل التكاليف إلى غاية تنظيم انتخابات رئاسية. وتعد هذه الزيارة الأولى من نوعها لرئيس المرحلة الانتقالية منذ توليه رئاسة الدولة في 25 سبتمبر 2020، عقب الإطاحة بالرئيس السابق إبراهيم أبو بكر كايطا في أغسطس 2020.
وجدير بالذكر، أن الجزائر عارضت عملية التغيير التي شهدتها مالي في 8 أغسطس 2020، وأكدت الخارجية الجزائرية في بيانها رفضها المطلق كل تغيير غير دستوري، يتعارض مع النصوص التأسيسية للاتحاد الأفريقي. وطالبت جميع الأطراف في باماكو باحترام النظام الدستوري. لكنها اضطرت في الأخير إلى تبني خيار الواقعية السياسية في التعامل مع الوضع الجديد في البلاد؛ بعد أن رأت في الانقلاب على الرئيس كايطا محاولة للالتفاف على اتفاق الجزائر لإنهاء الأزمة في مالي، واستبداله بمقاربة الحرب على الإرهاب في شمال البلاد على طول الحدود المشتركة بين البلدين. وهو ما يعني تحويل الفناء الخلفي للجزائر إلى ساحة حرب بين الجيش المالي مدعوما بقوى أجنبية وبين الجماعات الإرهابية. الأمر الذي رأت فيه السلطات الجزائرية محاولة لاستدراج قواتها المسلحة إلى حرب استنزاف باسم مكافحة الإرهاب لتحقيق غايات استراتيجية على المدى البعيد وفي مقدمتها إضعاف الجيش وإنهاكه. وبالرجوع إلى سنوات الحرب على الإرهاب في الجزائر نجد أن قيادات التنظيمات الإرهابية كانوا يتخذون من منطقة شمال مالي قاعدة خلفية لهم.
ولعّل الهجوم الانتحاري الذي استهدف ثكنة للجيش الجزائري في منطقة تيمياوين بالقرب من الحدود مع مالي بتاريخ 9 فبراير 2020، يعزّز صحة مخاوف السلطات الجزائرية، فقد نفذه إرهابي قدم من شمال مالي.
أصل المشكلة في مالي:
تقوم الرؤية الجزائرية لحل الأزمة في مالي على مقاربة الحل السياسي والحوار الشامل بين جميع أطراف الأزمة، واستبعاد سياسة “الكل – أمني”. وترى الجزائر أن الاضطراب الأمني في مالي هو نتيجة وليس سبباً، فجوهر المشكلة في مالي هو غياب التنمية، وأزمة تغلغل لنظام حكم عاجز عن بسط سيطرته على كامل الإقليم الذي أنهكته نزاعات إثنية موروثة منذ استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي. وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ فقد استغل الإرهابيون هذا الوضع وانتشروا في شمال مالي ويتخذونها قاعدة خلفية لشن عملياتهم الإرهابية ضد دول الجوار بدعم إقليمي.
ومن هذا المنطلق، ترى الجزائر أن تردي الأوضاع الأمنية في شمال مالي مردّه التدخلات الأجنبية، وانتشار القواعد العسكرية الأجنبية على الحدود المشتركة مع مالي، وتنامي العمليات العسكرية. فالجزائر غير مرتاحة للتحركات الفرنسية، وبعض القوى الإقليمية غير العربية في المنطقة، التي تحاول الاستفادة من الاضطرابات الأمنية هناك خدمة لمأموريتها التوسعية في الإقليم.
هذا الوضع جعل القضايا العسكرية والأمنية في صلب محادثات وزير دفاع مالي العقيد ساديو كامارا مع رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة، حيث اتفق الطرفان على أهمية التمسك باتفاق الجزائر لإنهاء الأزمة المتعددة الأبعاد في مالي، باعتباره الخيار الوحيد لتحقيق الاستقرار ومن ثم التنمية. بالإضافة إلى التنسيق العسكري والأمني بين البلدين في شمال البلاد.
دور فرنسي واضح:
كشفت التطورات الأخيرة في المنطقة أن باريس تعمل على تأجيج الأوضاع والإبقاء على التوتر قائماً قصد تحقيق أهداف عديدة منها الضغط على الجزائر من الخارج ودفعها لتقديم تنازلات في ملفات عديدة. ومساومة حكومة باماكو وابتزازها.
وتخشى الجزائر من أن تنتقل المطالب الانفصالية للطوارق في مالي والنيجر إلى الطوارق في جنوب الجزائر، وهذا أحد أسباب رفض الجزائر الشديد لأي تواجد فرنسي في المنطقة. فالجزائر ترى أن فرنسا هي أحد العوامل الرئيسة لحالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة، وهو ما يعني أن باريس لا يمكنها أن تكون جزءً من الحل في مالي، بل إنها المشكلة في حد ذاتها حسب أغلبية الشعب المالي.
ولا شك أن استمرار الاضطراب في مالي باعتباره عمقاً استراتيجياً للجزائر يُشكل تهديداً صريحاً لأمنها الوطني، وهذا ما جعل الرئيس الجزائري يُعلن في المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره المالي أن بلاده تضع كل إمكانياتها تحت تصرف دولة مالي للخروج من المرحلة الانتقالية بأقل التكاليف، والتوجه نحو بناء الدولة والمؤسسات في هذا البلد الذي تمزقه التدخلات الخارجية. ويبدو أن الجزائر تريد أن تكون الفاعل الرئيس في حل هذه الأزمة، حيث صرح الذي أكد بأن حل الأزمة سيكون بنسبة 90 في المائة جزائرياً بعيداً عن التدخلات الفرنسية.
وتقوم السياسة الفرنسية في تلك المنطقة على تأجيج النعرات الإثنية والعرقية، وهو ربما بهدف الإبقاء على الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا جنوب الصحراء تحت عناوين مختلفة.
كما تسعى فرنسا من وراء تلك السياسة إلى عرقلة تجسيد مشروع طريق الحرير الاستراتيجي، الذي سيتيح للجزائر العودة إلى القارة الأفريقية من بوابة الاستثمارات الاقتصادية الصينية الضخمة. كما سيعزز هذا المشروع من حضور الصين في أفريقيا وتحديداً في مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا.
الموقف من الوجود العسكري الفرنسي:
شهدت مالي مؤخراً تنامي الحركات الاحتجاجية الرافضة للوجود العسكري الفرنسي في البلاد؛ حيث طالب المحتجون برحيل القوات الأجنبية من الأراضي المالية. كما أحرقوا العلم الفرنسي، وطالبوا بوقف عملية بركان، والقوات الدولية من البلاد. وعبّروا عن رفضهم الشديد للسياسة الفرنسية في بلادهم، بدعوى أنها أخفقت في محاربة الإرهاب، بل إنها تتفاوض معهم وتدفع لهم الفدية لتحرير رهائنها.
وترى الجزائر في ذلك فرصة يمكن استغلالها لحرمان باريس من أوراق الضغط في المركز (الجزائر العاصمة) بفتح جبهات توتر في فناءها الخلفي، بهدف تشتيت جهود الجيش الجزائري ومختلف الأجهزة الأمنية في تأمين الحدود، وإضعاف الجبهة الداخلية تمكيناً لعناصرها في الداخل لمواصلة الضغط عن طريق الحراك في نسخته الثانية. فالإبقاء على الاضطراب في شمال مالي هو جزء من الحرب المستترة التي تقودها فرنسا ضد الجزائر بقصد دفع النظام الحالي للتخلي عن بعض الخيارات الإستراتيجية في السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية كالتراجع عن التقارب مع بعض الدول الأوروبية والآسيوية (ألمانيا والصين) التي ترى فيها فرنسا تهديداً لنفوذها في الإقليم.
ختاماً، يمكن القول إن دعم الجزائر للعملية السياسية في مالي أملته اعتبارات إستراتيجية لها صلة مباشرة بالأمن القومي الجزائري، باعتبار أن أمن الجزائر جزءً لا يتجزأ من أمن دولة مالي. ولن يتأتى ذلك إلا بتبني إصلاحات سياسية ودستورية تتوج بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تنهي مشكلة المشروعية في هذا البلد. وتحقيق التنمية الوطنية وتجفيف منابع الإرهاب في شمال البلاد.
بيد أن بلوغ هذه الأهداف يبقى أمراً بعيد المنال ودونه عقبات في مقدمتها التدخل الأجنبي الذي يعمل على بلقنة المنطقة. إذ أن تحقيق الاستقرار في مالي لا يخدم المصالح الفرنسية في المنطقة، وسيحرم باريس من استخدام ورقة ضغط فعالة ضد النظام الجزائري.