فرنسا نموذجاً: ملف اللاجئين بين الاعتبارات الوطنية وتداعيات جائحة كورونا

أضافت جائحة كورونا مزيداً من التعقيد لملف اللاجئيين حول العالم، بجانب تعقيدات سابقة، فرضتها المواقف الخاصة ببعض الدول، وفق رؤيتها الخاصة لأمنها الوطني، ورؤيتها للتعامل مع هذا الملف الحساس، من منظور داخلي وإقليمي ودولي. وغني عن الذكر أن مشكلة اللاجئيين قد أكتسب زخماً جديداً عقب الثورات التي وقعت في المنطقة العربية في 2011 ، خاصة في سوريا وليبيا وتونس واليمن، وما ترتب عليها من موجات متتالية من التهجير القسري والاختياري للسكان من مناطق النزاعات، هرباً من الموت والقتل ، في بيئة أمنية مضطربة، تتلاشى معها أطر المسئولية الدولية، مع تعدد الأطراف المتقاتلة( جيوش نظامية/ جماعات مسلحة/ جماعات متطرفة/ شركات أمنية خاصة….) مما دفع السكان إلى الهرب نحو وجهات آمنة، ونظراً للقرب الجغرافي لأوروبا بشكل عام من مناطق النزاعات في المنطقة العربية، وقرب الشواطىء الفرنسية واليونانية والإيطالية خاصة من مناطق شمال أفريقيا المتوترة بفعل الحرب في ليبيا، والتي مثلت منحت الفرصة لقدوم موجات هجرة من دول أفريقيا جنوب الصحراء عبر الأراضي الليبية ، وعبر ما سمي بمراكب الموت إلى البحر المتوسط، انتظاراً للوصول للشواطىء الأوروبية.نشير إلى أن أزمة اللاجئين هي مشكلة مزمنة في النظام الدولي الحديث، ظهرت بشكل كبير عقب الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في 1948، وما تبعها من حروب وسياسات إسرائيلية طاردة للفلسطينيين، مما دفع المجتمع الدولى لإنشاء هيئة دولية لمساعدة اللاجئين الفلسطينين وهي ” الأونروا”، والتي لا تزال تعمل حتى الآن ، في ظروف وتعقيدات صعبة، وضغوط أحياناً من بعض القوى الكبرى، كما شاهدنا خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
تطورات واضحة:
انضمت فرنسا إلى دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وبريطانيا باتخاذ موقف أكثر تشدداً من اللاجئين، منذ أن أثار اندلاع الحرب بسوريا في 2011 أزمة لجوء في الدولالأوروبية، وقد أشار اتجاه من الدراسات إلى معاناة اللاجئين في فرنسا إزاء الممارسات التي يتعرضون لها من جانب الشرطة الفرنسية وحالة التمييز العرقي وتدهور ظروفهم المعيشية بالنسبة لمئات اللاجئين الذين يعيشون في مخيمات مؤقتة، آملين بأن تنجح محاولات عبورهم إلى المملكة المتحدة. فمنذ تفكيك مخيم “الغابة” الضخم في عام 2016 حيث عاش هناك حوالي 9000 لاجئ، بات اللاجئون مشتتين في مخيمات عشوائية صغيرة على أطراف المدينة، ويقع اليوم المخيم الأكبر الذي يطلق عليه اسم “الغابة الكبرى” في منطقة صناعية قرب ميناء كاليه، يؤوي مئات الأشخاص، معظمهم من أصول سودانية وإريترية وأفغانية وإيرانية، ويوجد في تجمع آخر حوالي 200 أفغاني وإيراني، بالقرب من مستشفى المدينة، فيما نصبت مجموعة من الإريتريين خيما بالقرب من ملعب مجاور.
نتيجة لموجات الهجرة الجديدة ، خاصة التي ساهمت فيها تركيا بصورة أساسية من خلال تشجيع اللاجئين المتواجديدن على أراضيها من سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها إلى الذهاب إلى الحدود اليونانية، للضغط على اليونان والضغط على أوروبا، من أجل تقديم مساعدات لتركيا، أو التغاضي عن بعض مواقفها في منطقة الشرق الأوسط ، كان الموقف الفرنسي أكثر حزماً وتشدداً في التعاطي مع ملف اللاجئين، حيث أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال خطاب قد ألقاه في مدينة كاليه الساحلية بالشمال الفرنسي في يناير 2018، على عدم السماح في أي لحظة بإعادة تشكيل “الغابة” – وهو مخيم اللاجئين الذي تشكل تدريجياً وضم أكثر من 1000 مهاجر قبل تفكيكه في آواخر عام 2016- ووجه في كلمته انتقادات للسياسة الأوروبية حول ملف الهجرة، ودعا كذلك إلى استبدال نظام دبلن الأوروبي لاستقبال اللاجئين بنظام جديد، فيما أعلنت وزيرة المواطنة الفرنسية ووزارة الداخلية، عن خطة وطنية جديدة لإيواء طالبي اللجوء، تهدف إلى تخفيف الازدحام عن منطقة باريس ومنع إنشاء مخيمات للمهاجرين، وتوزيع طالبي اللجوء على مختلف المناطق الفرنسية.
آليات التعامل:
تعتبر فرنسا من بين أكبر الدول المستقبلة لطلبات اللجوء في أوروبا، وفي هذا الإطار أسست الحكومة الفرنسية المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية (OFPRA)، كما يوجد في فرنسا عدة جمعيات خيرية وإنسانية تهتم بشؤون المهاجرين واللاجئين، بدءا من توزيع الطعام والألبسة، مرورا بالمساعدة في الإجراءات الإدارية والقانونية، والمساعدة على إيجاد السكن والعمل وغيرها من المساعدات، إلا أن التحديات التي تواجه الحكومة الفرنسية وتعوق من توفيرها لأماكن الإقامة والدعم لطالبي اللجوء، فضلاً عن أوقات الانتظار الطويلة للبت في طلبات اللجوء جعلها خياراً أقل جاذبية بالنسبة للعديد من اللاجئين.
كما ظهر عدد كبير من المبادرات لمساعدة اللاجئين سواء من جانب المؤسسات الفرنسية الرسمية أو غير الرسمية ممثلة في منظمات المجتمع المدني، فيما قام المواطنون الفرنسيون بتقديم الدعم للمساهمة واتخاذ إجراءات ذات مغزى للترحيب باللاجئين، وشملت هذه المبادرات الجديدة كل شيء من مساعدة اللاجئين على تعلم اللغة الفرنسية، والحصول على التعليم العالي والتدريب المهني، وتعزيز مواهبهم، وتسهيل حصولهم على عمل، وكذلك استيعابهم في المنازل الخاصة، وخلق الروابط، فضلاً عن ذلك، قام الرئيس الفرنسي السابق/ فرانسوا أولاند بتقديم مساعدات بقيمة 100 مليون يورو لمساعدة “اللاجئين على العيش بكرامة في فرنسا”، وجاء ذلك بعد قمة بروكسل عام 2015، وموافقة الاتحاد الأوروبي على تقديم مساعدات بقيمة مليار يورو إلى وكالات إغاثة اللاجئين لمساعدة مخيمات اللاجئين من سوريا والعراق “حتى يتمكن الرجال والنساء والأطفال من العيش بكرامة”.وقد منحت فرنسا أيضًا في عام 2017 إجمالي 262 إجازة إقامة، في زيادة بنسبة 13,7% عن عام 2016، فيما ارتفعت نسبة ترحيل الأجانب المخالفين للقانون بنسبة 14,6% وبلغ العدد الإجمالي لحالات الإعادة القسرية 14859 حالة.
فرنسا وآثار كورونا على اللاجئين:
أحدث انتشار فيروس كورونا عالمياً العديد من التداعيات السلبية التي لا تزال تعاني منها الدول وخاصة بملف اللاجئين، ففي فرنسا تم نقل اللاجئين ومعظمهم من إفريقيا ما وراء الصحراء، من “باسين لافيليت” إلى مراكز استقبال وفنادق خاصة بالمهاجرين في باريس، وفي سياق متصلعادة ما تتعاون جمعية “يوتوبيا 56” مع شركاء آخرين لجمع التبرعات والاحتياجات اللازمة للاجئين في الشارع، وفي مدينة كاليه المقابلة للسواحل البريطانية بات يوجد 1200 لاجئ وهو ضعف عدد اللاجئين في المدينة مقارنة بالعام الماضي، كما قامت الحكومة الفرنسية بصرف تبرع بقيمة 6 مليون يورو لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى “الأونروا”، الأمر الذي يرفع من إجمالي تبرعاتها لعام 2020 إلى 20 مليون يورو، ومن أصل الملايين الستة، سيتم تخصيص 5 مليون يورو كتبرع لخدمات الوكالة الرئيسة في مجالات التعليم والصحة ومواجهة الفقر في كافة أقاليم عمليات الأونروا، فيما سيتم تخصيص مليون يورو لدعم استجابة الوكالة لجائحة فيروس كورونا المستجد.وفي نوفمبر 2020، قامت المنظمة الدولية للهجرة بتسهيل إعادة توطين 120 لاجئاً من السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى في فرنسا لإعادة توطينهم واستئناف حياتهم، وأفادت المفوضية في بيان نشر في ديسمبر 2020م أن من بين اللاجئين 65 امرأة و55 رجلا غادروا نجامينا (تشاد) الى فرنسا، حيث أشارت آن شيفر، رئيسة بعثة المنظمة الدولية للهجرة في تشاد: “تتيح إعادة التوطين للاجئين فرصة فريدة لإعادة بناء حياتهم بكرامة.
مما سبق،تعتبر ظاهرة اللجوء واحدة من أكبر التحديات السياسية الآن وفي المستقبل القريب، لأنها لن تتوقف، حيث تخلق أزمة أخلاقية وسياسية لأوروبا، وهذه الأزمة ترجع أولاً وقبل كل شيء إلى السياق الأمني غير الملائم في المناطق المحيطة جيواستراتيجياً بأوروبا، مما يؤثر بالسلب على الامن القومي للدول، ففي الحالة الخاصة بفرنسا، نخلص إلى أنه ورغم كافة الدعم والجهود المبذولة من المؤسسات الفرنسية تجاه اللاجئين وخاصة في أفريقيا إلا ان هناك العديد من المعوقات التي تقف حائلا أمام إنجاح تلك الجهود والتي منها ما يرتبط بظاهرة الإرهاب وتداعياته السلبية التي لا تزال تؤثر على أمن الدول واستقرارها، فضلا عن انتشار الجريمة المنظمة والتي تعد تحدي آخر يؤثر على الدعم الموجه إلى اللاجئين من جانب فرنسا الأمر الذي يستدعي تضافر الجهود للتصدي لتلك المعوقات والعمل على مواجهتها.