من هو إنسان الميديوكر؟
د. حسن حماد
ليس إنسان الميديوكر جنسًا بشريًا جديدًا، أو كائنًا ينتمى إلى أحد الكواكب الأخرى. إنه بطل هذا العصر، إنه النموذج العولمى الجديد الذى اجتاح معظم الثقافات سواء أكانت متخلفة أو متقدمة. تجده فى الجامعة، وفى المراكز البحثية، وفى المؤسسات السياسية وهيئات صنع القرار، تجده يعتلى منصات التنمية البشرية، ويُطبق تعاليم وأخلاقيات ومعايير الجودة والضمان بشكل هوسى، وتجده يتحدث بحماسة تشبه حماسة كهان المرجعيات الدينية عن الحوكمة والعولمة والعصرنة والرقمنة والميكنة، والتنمية المستدامة، وأسواق العمل، والتعليم عن بُعد، وتبسيط المناهج المعقدة، وفلسفة البيئة والأخلاقيات التطبيقية، وتجد لديه عداوة لا مثيل لها تجاه كل ما هو نظرى أو تأملى أو خيالى!
باختصار فإن إنسان الميديوكر هو البطل التكنوقراطى لهذا العصر، إنه الإنسان الوسطى بامتياز، والوسطى هنا مقولة لا علاقة لها بالوسط الذهبى الذى قال به أرسطو: الفضيلة وسط بين طرفين كلاهما رذيلة، لكن الوسطى هنا وفقًا لسياق هذا المقال يعنى العادى، أو النمطى، أو الضحل، أو التافه. وقد وقع بين يدىَّ كتاب لمفكر كندى اسمه «آلان دونو» بعنوان «نظام التفاهة»، والاسم الأصلى للكتاب La médiocratie بالفرنسية (بالإنجليزية Mediocrity) ويعنى التوسط. ولكن مترجمة الكتاب «مشاعل عبدالعزيز الهاجرى» أستاذة القانون أحسنت عندما جعلت عنوان الكتاب «نظام التفاهة»، وقد صدر الكتاب عام 2017 وقامت د. مشاعل بتقديمه إلى العربية عام 2020 والكثير من أفكار الكتاب تلتقى وتتقاطع مع فكرتى عن ثقافة الانحطاط التى قدمتها عام 2016 فى كتابى «دوائر التحريم».
والفكرة الرئيسية لهذا الكتاب كما تقدمها المترجمة فى مقدمتها العميقة تدور حول فكرة أننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام عولمى جديد أدى إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الدولة الحديثة. وجوهر كفاءة الشخص التافه – كما يذكر المؤلف – أن لديه المقدرة على التعرف على شخص تافه آخر، بحيث يدعم التافهون بعضهم بعضًا، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة فى النهاية فى يد جماعة تكبر باستمرار. وبذلك، وعبر هذا العالم الزائف، يلحظ المرء صعودًا غريبًا لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين، فيغيب الأداء الرفيع، وتنحط منظومة القيم الإنسانية، وتبرز الأذواق المنحطة ويخلو الفضاء العام من الإبداع والشخصيات الاستثنائية أو المتفردة، وتمتلئ الساحة بالتافهين والجاهلين وأنصاف المثقفين والبرجماتيين، كل ذلك من أجل خدمة آليات السوق، ولترسيخ دعائم النظام العالمى الجديد الذى تُسير مقاديره الرأسمالية العالمية.
إن الإنسان الميديويكر قد يكون ناجحًا جدًا فى أداء عمله الوظيفى، وغالبًا ما يكون غنيًا وميسورًا بالمقياس المادى، لكنه فى الحقيقة فقير جدًا من الناحية الإنسانية والروحية، لماذا؟
لأنه إنسان لا موقف له، ولا يملك حريته، ولا يكترث لتميزه وتفرده، ولا يتوقف كثيرًا عند الأسئلة الوجودية الكبرى: أسئلة الحياة، الحرية، السعادة، المصير، العدالة.. إلخ.
إنه يشبه إنسان الجموع أو القطيع عند نيتشه، وهو الممتثل المغترب عن ذاته عند إريك فروم، وهو الزائف الساقط بلغة هيدجر، وهو المنتمى المحصن ضد العبث وفقًا لألبير كامى، وهو الذى يشبه فى سلوكه، وفى سكناته وحركاته الآلة أو الروبوت بحسب أنذال سارتر، وهو الإنسان ذو البُعد الواحد عند ماركيوز غير القادر على الاحتجاج أو الرفض أو النفى، الذى لا يمكن أن يقول لا، إنه إنسان الــ«نعم»، الذى لا يعرف التمرد إلى نفسه سبيلًا، إنه الإنسان المتشيئ الذى فقد حتى إحساسه بالاغتراب، فالاغتراب نفسه يصبح أمرًا مشكوكًا فيه عندما يتوحد الأفراد أنفسهم مع الوجود المفروض عليهم، والذى فيه يجدون تطورهم وذواتهم وإشباعهم. هذا التوحد ليس وهمًا بل واقع. غير أن هذا النوع من القمع الناعم يُمثل مرحلة أكثر تقدمًا فى الاغتراب، فالاغتراب هنا يصبح موضوعيًا تمامًا، إذ يتم ابتلاع الذات المغتربة بوجودها المغترب، ولذلك فإن الميديوكر هو إنسان النصف نصف: نصف أبله، نصف واع، نصف مفكر، نصف مثقف، نصف متخيل، نصف عاشق أو محب. إنه حسن التغذية، نهم فى استهلاك السلع والأشياء، طموح بلا حدود، يتعامل مع الآخر كأداة أو وسيلة، ولذلك فهو مؤمن جدًا بالبرجماتية، يكره الشك، ويفتنه اليقين والمسلمات، ورغم أنه يحافظ على صورته المصطنعة لدى الآخرين، إلا أنه فقير فى علاقاته الإنسانية ضحل فى مشاعره. إنه بامتياز دمية سوقية وسياسية يُسيطر عليها الزيف من المهد إلى اللحد.
تُرى ما علاقة إنسان الميديوكر بثقافة الانحطاط التى أشرنا إليها فى سلسلة مقالاتنا السابقة؟
هذا هو موضوع مقالنا القادم إن شاء الله.
نقلا عن جريدة الوفد المصرية