تكتيكات منفصلة: المسارات الثنائية للمصالحة الخليجية
لا يزال مصير المصالحة الخليجية غامضاً ، رغم مرور أكثر من شهرين على اتفاق المصالحة الذي انعقد في قمة العلا في الخامس من يناير 2021، خاصة على مستوى المسارات الثنائية التي تم الاتفاق عليها ( لجان قانونية/ لجان متابعة لكل مسار)، كآلية لتسوية الخلافات القطرية مع كل دولة من دول الرباعي. ويتضح من متابعة المسارات الأربعة أن هناك تقدم في بعض المسارات، وهناك تعثر في مسارات أخرى، وهو ما يطرح علامات استفهام عديدة حول مستقبل المصالحة بشكل عام، والسيناريوهات المتوقعة لكل مسار من المسارات الأربعة، في ضوء الاستراتيجية والتكتيكات التي تدير بها دولة قطر هذه المفاوضات، وفق رؤيتها وقناعاتها لمجمل الأزمة، وفي ظل ما أحدثته سنوات الأزمة من تفاعلات على مستوى الداخل القطري، نفسياً وسياسياً واقتصادياً، علاوة على ما رتبته سنوات الأزمة من تغيرات في خريطة التحالفات على مستوى دول الخليج.
المسار الثنائي القطري السعودي:
يعد المسار الثنائي السعودي القطري من أفضل المسارات إيجابية حتى الآن، وأكثرها كثافة في التفاعلات الثنائية على كافة المستويات، حيث اتضح من قراءة بعض المؤشرات خلال الشهرين الماضيين أن هناك اتجاه لعودة الدفئ في العلاقات السعودية القطرية، خاصة على المستوى الأعلى بين القيادة السعودية والقطرية، حيث تكرر الاتصال بين الجانبين في أكثر من مناسبة ( منها اتصال من أمير قطر لتهنئة الأمير محمد بن سلمان بنجاح العملية الجراحية التي أجراها مؤخراً، واتصال أخر للتعزية في وفاة إحدى أميرات الأسرة السعودية) ، لكن الاتصال الأهم والذي يأتي ضمن السياقات السياسية لمرحلة ما بعد المصالحة كان الاتصال الهاتفي الذي تم بين الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وولي العهد السعودي الشيخ محمد بن سلمان في 28 فبراير الماضي، والذي أكدت فيه قطر على دعمها الكامل لكل ما من شأنه دعم استقرار وأمن الأراضي السعودية، واعتبار استقرار المملكة جزء رئيسي من استقرار دولة قطر، وهو ما يعتبر عودة للمقولات التقليدية الدبلوماسية في الخطاب السياسي بين البلدين، كما تشير كثافة اللقاءات الرسمية خلال فترة الشهرين الماضيين بين مسئولين قطريين وسعوديين، عن محاولات لعودة العلاقات لسابق عهدها ، كان أبرز تلك اللقاءات زيارة وزير الخارجية السعودي في الثامن من مارس الجاري للدوحة، ولقاء مندوب السعودية في الأمم المتحدة وليد المعلمي مع مندوبة قطر علياء آل ثاني، بنيويورك، هذا بالإضافة لرصد نشاط ملحوظ للقطاع الخاص القطري والسعودي، باتجاه البحث عن فرص التعاون المشتركة( ويبدو أن هناك توجيهات عليا من القيادة السعودية والقطرية) باتجاه السير في هذا المسار، إذ يجري حالياً تشكيل مجلس الأعمال المشترك لدورته الجديدة.
المسار الثنائي بين قطر والإمارات
من الواضح أن هذا المسار يواجه تحديات ربما تكون الأكبر من بين المسارات الأخرى، فرغم بعض الإشارات الإيجابية التي صدرت من الجانبين عقب قمة العلا، إلا أنه في نفس الوقت صدرت إشارات في الاتجاه المعاكس. وهو ما يرجح أن هذا المسار سيواجه احتمالات للتعثر خلال الفترة المقبلة. فتنفيذاً لاستحقاقات المصالحة، قامت دولة الإمارات في التاسع من يناير الماضي 2021 بإعادة فتح كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية أمام القطريين ، لتكون ثاني دولة بعد السعودية من بين الدول التي قاطعت قطر منذ أكثر من ثلاث سنوات تستأنف حركة النقل بين البلدين، كما قامت قطر في 11 يناير الماضي بتعليق شكواها التجارية مع الإمارات العربية المتحدة في منظمة التجارة العالمية، “في إطار تسهيل تسوية نهائية ودية للنزاع بين الطرفين، وعلى المستوى السياسي عقد البلدان أول لقاء دبلوماسي بينهما، للتباحث حول متابعة مخرجات بيان “العلا”، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الإماراتية “وام”.وبحث الجانبان “الآليات والإجراءت المشتركة”، بهدف الحفاظ على “اللحمة الخليجية، وتطوير آليات العمل الخليجي المشترك.
مع ذلك صدرت بعض التصريحات من الجانبين تحمل إشارات سلبية منها تصريح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية السابق ، أنور قرقاش، بعد مرور ثلاثة أيام فقط من إعلان قمة “العلا” إن “استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة سيستغرق وقتا، وتعتمد على تعاملات قطر المستقبلية مع إيران وتركيا، و”الجماعات الإسلامية المتطرفة”، “والمشاكل في إعادة بناء الثقة”، بينما جاءت التصريحات القطرية بنفس هذا المعنى إذ أعربت قطر، على لسان وزير خارجيتها، أن حل الخلافات مع الإمارات لا يزال “بحاجة إلى بعض الجهود الإضافية”، بينما أعرب مدير المكتب الإعلامي بوزارة الخارجية القطرية، أحمد بن سعيد الرميحي، عن أسفه لتصريحات وزير الدولة الإماراتي بشأن المصالحة مع قطر واعتبرها إشارة سلبية رغم مرور أيام قليلية على قمة المصالحة، مع ذلك ربما يكون التغير الذي حدث في موقع وزارة الدولة للشئون الخارجية بابعاد أنور قرقاش المعروف بموقفه القوى من قطر، يمكن فهمه في إطار رغبة إماراتية في تسهيل المصالحة، ومحاولة جذب قطر نحو تقديم تنازلات مرضية لأبو ظبي، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة يعلمها كثيرون من المراقبين للعلاقات القطرية الإماراتية وهي أن نقاط الخلاف بين الجانبين كثيرة ومعقدة، وهي أقرب للخلاف الايدلوجي.
المسار الثنائي البحريني القطري:
هو أضعف المسارات حتى الآن، وأقربها للفشل على المدى القريب، حيث لا تزال البحرين رافضةً لإعادة الرحلات الجوية بين المنامة و الدوحة، رغم موافقتها على فتح مجالها الجوي أمام الطيران القطري. كما أن معظم المؤشرات السياسية بين الجانبين تصب في الاتجاه السلبي، فخلال الشهرين الماضيين لم تتغير لغة التصريحات الرسميةبين الجانبين، كما لا تزال الأجواء السياسية والإعلامية مشحونة ، فعلى الرغم من ترحيب البحرين باتفاق “العلا”، وتأكيد حرصها على تنفيذ الاتفاق بما لا يتعارض مع سيادتها وأمنها، إلا أنها وعلى لسان مسئوليها قد وجهت انتقادات قوية لقطر بعدم التعاطي الإيجابي مع أي مبادرات لحل المشكلات القائمة بين البلدين، وتحدثت تلك المصادر عن عدم استجابة قطر لدعوة البحرين، لإرسال وفد رسمي إلى المنامة لبدء محادثات ثنائية حول الخلافات الثنائية وتفعيل بنود اتفاق “العلا”. فبتاريخ 11 يناير 2021 وجهت وزارة الخارجية البحرينية دعوة إلى نظيرتها في قطر لإرسال وفد رسمي إلى مملكة البحرين ، لبدء المباحثات الثنائية بين الجانبين حيال القضايا والموضوعات المعلقة بين البلدين، تفعيلًا لما نص عليه بيان العلا، وبتاريخ 12 فبراير 2021 هاجم الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، مستشار ملك البحرين للشؤون الدبلوماسية قطر بضراوة مؤكداً ” إن مجلس التعاون حقق الكثير من الخطوات لصالح العمل الخليجي المشترك، إلا أنه واجه عددا من المعوقات بسبب قط، وعدد في نقاط كثيرة للخلاف القطري مع دول مجلس التعاون وتدخلها في الشأن الداخلي الخليجي”. كما لا يزال ملف الصيادين البحرنيين المحتجزين في قطر مستمراً، حيث تتحدث المنامة عن استمرار الدوحة في احتجاز 50 صيادا ،واحتجاز قواربهم، إلى جانب الاستمرار في الحديث من جانب السلطات البحرينية عن محاولات قطرية لتجنيد مواطنين بحرينين، خاصة من العاملين بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية.
المسار الثنائي بين مصر وقطر
رغم هوة الخلافات السياسية بين القاهرة والدوحة، منذ سنوات، إلا أن المؤشرات الواردة حول المسار الثنائي بين مصر وقطر وفق استحقاقات المصالحة، تعتبر جيدة حتى الآن وإيجابية، حيث يعتبر هذا المسار هو الأفضل في الترتيب، بعد المسار الثنائي السعودي القطري، فالمؤشرات خلال الشهرين الماضيين ومنهاإعادة فتح الأجواء المصرية أمام الطيران القطري، واستئناف الرحلات المباشرة بين البلدين، واستئناف البلدين العلاقات الدبلوماسية بينهمافي 20 يناير الماضي، كما وافقت مصر على استئناف مشروع “سيتي جيت” القطري المتوقف منذ العام 2016، المملوك لشركة “بوابة الشرق القاهرة الجديدة للاستثمار العقاري” إحدى شركات “الديار القطرية”، التي تملك 4 مشاريع كبرى بمصر تم إنجاز واحدة منها وتوقفت المشروعات الثلاثة الأخرى، قبل نحو 4 سنوات، كما تم افتتاحفندقا تملكه شركة الديار، المملوكة لدولة قطربالقاهرة، بحضور ستيفن منوشين وزير الخزانة الأمريكي آنذاك، علاوة على ذلك صدرت تصريحات إيجابية من المسئولين القطريين باتجاه مصر، منها تصريح وزير المالية القطري علي العمادي، إن إجمالي استثمارات قطر في مصر يزيد عن 5 مليارات دولار، وإن بلاده تجدد التزامها بدعم القطاع السياحي في مصر لدوره الحيوي في التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل، كذلك التصريحات الايجابية التي أبداها وزير الخارجية القطري الشيخ “محمد بن عبدالرحمن آل ثاني تجاه مصر، حيث أكد أن بلاده تسعى لعودة العلاقات مع مصر إلى دفئها الطبيعي، وأن تكون “طيبة ومتينة”.وذلك أثناء مشاركته في الاجتماع الوزاري للجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، والذي كانت تمثل فيه قطر منذ 2017 بمندوبها الدائم لدى الجامعة سلطان المريخي.
وعلى مستوى اللقاءات الرسمية جرت مقابلة على هامش الاجتماع الوزاري للجامعة العربية بين سعادة وزير الخارجية المصري سامح شكري، ووزير خارجية قطر، كما أعقب هذه الزيارة وصول وفد قانوني من دولة قطر لمصر، لإستكمال النقاشات حول سبل استعادة العلاقات بين البلدين، وفق استحقاقات اتفاق العلا.
مع ذلك ورغم رغم المؤشرات السابقة، والتي تنطوى على قدر من الايجابية ، إلا أن قضايا التفاوض المحتملة بين مصر وقطر تؤكد أن المسار ليس مفروشاً بالورود ، خاصة فيما يتعلق بقضايا الخلاف المتراكمة، المرتبطة بالتدخل في الشأن الداخلي المصري و التحركات القطرية المضادة لمصر في الملفات التي تعتبرها مصر ضمن دوائر أمنها القومي ( غزة والملف الفلسطيني/ ليبيا/ السودان/ مياه النيل).
تكتيكات منفصلة: قطر وإدارة ملف المصالحة
يتضح من عرض المسارات الأربعة السابقة، أن هناك تباين بين كل المسارات من حيث مستوى تقدمها ومدى التوقعات الايجابية بخصوص مستقبلها ، ولا شك أن الآلية التي تمخضت عن اتفاق العلا قد ساعدت على تفكيك الجبهة المضادة لقطر( الرباعي) والانتقال بالخلافات والمعالجات للإطار الثنائي، الأمر الذي ساعد على الفصل بين المسارات ، وهو ما أعطى قطر حرية حركة أكبر في التعامل المنفرد مع كل مسار وفق مصالحها، ووفق استراتيجيتها الخاصة بإدارة هذا الملف، ونشير بهذا الخصوص لبعض الملاحظات التي يمكن استنباطها من المنهج القطري في التعامل مع المسارات الأربعة، وذلك كما يلي:
- اعتبار السعودية هي مركز الثقل في التكتل المضاد لقطر، وبالتالي فإن تطوير الحوار الثنائي مع السعودية وتقديم تنازلات “محسوبة” لها، سيقود لإنفراجة في المسارات الثنائية الأخرى مع باقي دول الرباعي، أو على أقل تقدير سيقلل من احتمالات عودة الأزمة مرة أخرى بنفس صورة 2017.
- النظر للبحرين على أنها الحلقة الأضعف من بين دول الرباعي، وبالتالي فإن مسار تسوية الأزمة معها ينبغي أن يأتي في مرتبة متأخرة، إدراكاً لحقيقة أن الخلاف القطري مع البحرين ذو أبعاد تاريخية معقدة، ويصعب تسويته ضمن استحقاقات المصالحة.
- إدراك أن المسار الثنائي ضمن المصالحة مع أبو ظبي لن يكون من السهل الاتفاق حول مخرجاته، لأن تنازل طرف يصب مباشرة في صالح الطرف الأخر، خاصة وأن جزء كبير من الخلافات يدور حول التنافس على الدور الإقليمي وكسب المكانة لدى القوى الكبرى في المنطقة، وبالتالي فإن هذا المسار مرشح للتعثر وربما الفشل لاحقاً.
- لا عودة لمربع ما قبل الأزمة على المستوى الاقتصادي، لأن الرجوع لوضع ما قبل الأزمة سيعني يالنسبة للقطريين التضحية بالكثير من المكتسبات التي تحققت خلال سنوات الأزمة ومنها تحرير الاقتصاد القطري من بعض القيود التي كبلت حركته في بعض القطاعات مثل قطاع الحديد، والنفط والغاز، كما أنها ستؤدي لتعطيل مشاريع الاكتفاء الذاتي من بعض السلع الاستراتيجية سواء على مستوى الزراعة أو الثروة الحيوانية وقطاعات الألبان وغيرها.
- فصل السياسة الخارجية عن مسارات التفاوض، خاصة علاقة قطر مع تركيا وإيران.
نخلص مما سبق إلى أن إتمام عملية المصالحة بشكل متكامل على كافة المسارات لا يزال معلقاً وقابلا لسيناريوهات ارتدادية محتملة، فالتوتر القطري البحريني لا يزال موجود وفي مستويات مرتفعة، والتوتر الإماراتى القطرى لا يزال موجود في مستويات متوسطة، بينما لا تزال التوجهات الإعلامية القطرية تجاه مصر دون المستوى المطلوب والمأمول.وهو ما يستدعي من صناع القرار وضع كل الاحتمالات قيد البحث، والمعالجة المتأنية لملف المصالحة، وفق الأهداف الكبرى لكل دولة، منعاً لتكرار الأزمة مستقبلاً ، ولو بصورة مختلفة عن أزمتي 2014 و2017.