حدود ونطاقات المسئولية: الآليات الدولية في مواجهة الرفض الإثيوبي لمقترح الوساطة الرباعية
لا تزال قضية سد النهضة الإثيوبي تلقي بظلالها على التفاعلات الدولية والإقليمية، فالملف لا يزال عالقاً بين تعنت اثيوبي واضح، ومحاولات مصرية سودانية لطرح حلول مقبولة، وفق القانون الدولي، ومنها الطرح الأخير لإدخال أطراف دولية على خط الوساطة، في محاولة جادة لوضع نهاية لهذا الملف، القابل للتصاعد لمستويات قد تهدد الأمن الإقليمي في منطقة شرق افريقيا ،خاصة مع إصرار إثيوبيا على نهجها الأحادي وإعلان تصميمها على تنفيذ الملء الثاني للسد في يونيو القادم 2021. فما هي حدود التغيير المتوقعة في ملف سد النهضة، حال تم تمرير مقترح الوساطة الرباعية الدولية، الذي أعلنت إثيوبيا رفضها له مؤخراً، معلنة تمسكها بمسار الاتحاد الأفريقي، فإلى أين سيسير هذا الملف، وما هي حدود دور الامم المتحدة ومجلس الأمن، الذين سبق لهما التعرض لهذا الملف في 2019 و2020، في ضوء اتجاهات المواقف الدولية خاصة للقوى دائمة العضوية في مجلس الأمن.
محطات التفاوض:
على الرغم من انخراط -مصر، والسودان، وإثيوبيا- في عملية تفاوضية مارثونية، بصيغ مختلفة، منذ عام 2011 وإلى الآن، شهدت الكثير من المد والجزر، ومرت بمحطات كثيرة، ربما كان أهمها توقيع إعلان المبادىء بين الدول الثلاث في 2015، ثم دخول الولايات المتحدة على خط الوساطة من خلال وزارة الخزانة الأمريكية التي رعت المفاوضات بالعاصمة واشنطن، وتمكنت فعلياً من الوصول لإتفاق، وقعت عليه مصر بالأحرف الأولى، بينما تهربت منه إثيوبيا، ولم توقع عليه السودان أيضاً، التي كانت في ذلك الوقت تنظر للملف بمنظور مختلف، إلى أن قامت إثيوبيا بالملء الأول للسد في يونيو 2020م، وما ترتب على ذلك من أضرار جسيمة للسدود السوداني، مما حدا بالموقف السوداني لإعادة النظر في كثير من أبعاد هذا الملف، والاقتراب بصورة مباشرة من الموقف المصري. كما كانت المفاوضات التي رعاها الاتحاد الأفريقي بواسطة دولة جنوب أفريقيا ( رئيسة الاتحاد الأفريقي) محطة مهمة أيضاً من محطات هذا الملف، لكنها لم تفضي لنتيجة إيجابية، بسبب عدم قدرة الاتحاد الأفريقي على فرض ضغوط على إثيوبيا للإنصياع لنهج التفاوض وآلياته ومترحات الحلول الفنية والسياسية المُقدمة من كل من مصر والسودان.
الآن ومع تعثر هذا الملف، انتقلنا لمربع جديد ، وهو مربع الوساطة الدولية، على أمل أن تتمكن الجماعة الدولية ، سواء من خلال مجلس الأمن، أو من خلال الرباعية المقترحة للدخول على خط الوساطة في فك وتفكيك تعقيدات هذا الملف، وصولاً لحلول مرضية للجميع، وفق القانون الدولي، الذي ينظم مسألة إدارة الأنهار المشتركة، وعملية إقامة السدود ، وحدود العلاقة بين دول المنابع ودول المصب … الخ وفق قواعد عدم الضرر ووفق قاعدة حسن النية والانتفاع المشترك.
مرحلة تدويل الملف ( الجمعية العامة/ مجلس الأمن).
مع صدور التقرير المبدئي حول السد في مايو 2017 وما اظهره من خلاف بين الدول الثلاث، وتعثر واضح في مسار المفاوضات، قامت مصر بطرح القضية في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019، وكان ذلك إيذاناً بنقل الملف لمربع أخر، وخلال هذه الفترة لم يتضح موقف السودان مع احتدام الموقف المصري الإثيوبي عقب الجلستين التفاوضتين اللتين عقدتا في مصر والخرطوم في سبتمبر وأكتوبر 2019، واللتين أسهمتا في اتجاه مصر نحو عرض الموقف دوليًا في الأمم المتحدة.
استشعر مجلس الأمن الخطر من ملف سد النهضة كملف نزاع إقليمي محتمل في أفريقيا، مما دفع مجلس الأمن للتعرض لهذا الملف، بناء على طلب من جمهورية مصر العربية، حيث قدمت الطلب نيابة عن مصر السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة المتحدة كيلي كرافت. حيث انعقدت جلسة علنية للمجلس في يونيو 2020م، استمع فيها المجلس لأراء كل طرف، ومداخلات من الدول دائمة العضوية وغير دائمة العضوية، وانتهى لصدور اول قرار دولي بخصوص السد ، حيث أعلن مجلس الأمن الدولي، في اول يوليو 2020م، أنه “سيراقب تطورات أزمة سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا خلال شهر يوليو/ تموز تحت رئاسة ألمانيا”، حيث انتقلت رئاسة المجلس من فرنسا إلى ألمانيا، لتشرف على تطورات أزمة سد النهضة بناء على ما جاء في جلسة النقاش الأولى في 29 يونيو 2020م ، وتنص الأجندة على أن يراقب مجلس الأمن تطورات أزمة سد النهضة، وأن يعقد اجتماعا في حال دعت إليه الحاجة”، وفضل المجلس أن يستعين بالاتحاد الأفريقي، باعتباره المنظمة الإقليمية التي ينتمي إليها الدول محل النزاع كأعضاء، لإفساح المجال للجهود الإقليمية للوصول لحلول مقبولة. وفي حال عدم قدرة الاتحاد الأفريقي على تسوية النزاع، يمكن ان يعود الملف مرة أخرى لمجلس الأمن.
وفق لميثاق الأمم المتحدة فإن مجلس الأمن ملزم بفحص الطرق التي لجأت إليها أطراف النزاع قبل لجوء أي منهم للمجلس، ومن ثم، فإن مجلس الأمن قد أحيط علما بكافة التطورات السابقة الخاصة بملف السد، خاصة بعد الاجتماع الاستثنائي رفيع المستوى الذي دعا إليه رئيس جنوب إفريقيا قادة الدول الثلاث، ولدى المجلس السلطة في أن يحدد إن كانت الأزمة الحاصلة بين إثيوبيا ومصر “نزاعا دوليا” أو “موقفا دوليا” (لا يوجد في ميثاق الأمم المتحدة ما يفرق بين النزاع والموقف، حيث يرجع ذلك للسلطة التقديرية لمجلس الأمن وفق كل حالة على حدة)، وتدليلا على ذلك، حين اندلعت الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980، تحدث المجلس في قراراته الأولية عن “موقف” ولم يتحدث عن “نزاع”. وطالما أن الاحتكاك الحاصل بين مصر وإثيوبيا هو محل الدراسة والتسوية لدى منظمة الاتحاد الإفريقي، فمن غير المتوقع أن يصدر مجلس الأمن قرارات ملزمة لأطراف النزاع في هذه الآونة.
اتجاهات المواقف الدولية في مجلس الأمن.
من المهم استعراض مواقف القوى دائمة العضوية في مجلس الأمنً من موضوع سد النهضة، وهي باختصار تدعو كل الأطراف للتفاوض والوصول لاتفاق يأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الثلاث مصر والسودان واثيوبيا. الولايات المتحدة على سبيل المثال تتحدث عن إمكانية الوصول لاتفاق بشأن أزمة سد النهضة وأن هناك فرص لإتمام اتفاق بشأن السد، وحثت الأطراف على التعاون لحل الأزمة، ودعت الولايات المتحدة على لسان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن إلى تشجيع مصر والسودان وإثيوبيا، على الاستفادة من التقدم الذي حصل في المفاوضات وتقديم تنازلات بشأن سد النهضة. أما روسيا فقد اعربت عن أملها في أن تتمكن مصر وإثيوبيا والسودان من تسوية الخلافات بشأن سد النهضة بما يخدم الاستقرار الإقليمي، مشيرة إلى عدم وجود بديل لحل تفاوضي للقضية، مؤكدة على أن تحديد قواعد استخدام الموارد المائية لنهر النيل “يجب أن يتم على أساس التكافؤ آخذا بعين الاعتبار مهام التنمية الاجتماعية الاقتصادية وعلى أساس القانون الدولي”. يمثل هذا الموقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لنفس الاعتبارات السابقة ( بريطانيا/ فرنسا)، كما تتفق مع هذه الرؤى دول الاتحاد الأوروبي. وإن كان واضحاً ان الصين على سبيل المثال قد تقف ضد تمرير أي قرارات مضادة لإثيوبيا، من شأنها التأثير على عملية بناء السد، بسبب قيام شركات صينية بتنفيذ عمليات البناء في السد، علاوة على موقف مبدئ من الصين من مسألة المياه( فالصين دولة منابع أيضاً وتعاني من نزاعات مماثلة مع دول الجوار). بينما روسيا مهتمة بوجود علاقات استراتيجية وعسكرية قوية مع اثيوبيا ، كذلك مع مصر، لذلك نجد موقفها يميل للدعوة للتفاوض وتشجيع الأطراف على التفاوض ومنع الصراع والتدهور لحالة الحرب.
وساطة الرباعية وحدود التحول المرتقب وفق السيناريوهات:
نتيجة تعثر كل المسارات السابقة، سواء الثنائية أو الثلاثية أو حتى التي تمت برعاية طرف ثالث( الولايات المتحدة/ الاتحاد الأفريقي) ، لم يعد هناك بديل عن الوساطة الدولية ، حيث طرحت دولة السودان في شهر فبراير من هذا العام، مقترح لتطوير آلية تفاوضية، تقودها رباعية دولية، مثلة في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى الاتحاد الإفريقي، في سبيل معالجة أزمة سد النهضة الإثيوبي، وهو ما دعمته القاهرة، وأيده الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، الذي أعلن عن جاهزية المنظمة الأممية لتقديم الدعم والمشاركة في تلك العملية التفاوضية.
السيناريو الأول. الضغط على اثيوبيا للقبول بالوساطة. تمثل الاستجابة الأممية للوساطة في هذا الملف، تطورا لافتا، وخطوة إيجابية مهمة في طريق الحل، خاصة وأن الأمم المتحدة مطلعة على كافة تفاصيل الأزمة منذ بدايتها، وتراقب تطوراتها بشكل مستمر، كما تأتي الوساطة الأممية في إطار إضطلاع المنظمة بمسؤولياتها المنصوص عليها في ميثاق التأسيس، وضمن مساعيها الحميدة في مواجهة النزاعات الناشئة بين الدول، والحيلولة دون تفاقم الأزمات ونشوب الصراعات. رغم أهمية كل أدوار أطراف الوساطة السابقة، والتي كشفت عن عدم جدية إثيوبية في الوصول إلى حلول مرضية، يمكن أن تشكل الوساطة الرباعية الدولية فرصة حقيقية باتجاه حل أزمة سد النهضة، فالوساطة الأممية يمكنها أن تعطي المفاوضات نوعا من الجدية والثقل، للوصول إلى تسوية حقيقية لمعالجة أزمة سد النهضة، ويفترض أن تقوم الجماعة الدولية ببمارسة ضغوط حقيقة على إثيوبيا للقبول للوساطة، منعاً لتصعيد الموقف، وربما انزلاقه لمسارات عنيفة، وهذا الضغط يمكن ممارسته بشكل جماعي من خلال بيانات صادرة من مجلس الأمن تدعو اثيوبيا للقبول بنهج الوساطة، باعتباره من ضمن الآليات المنصوص عليها لتسوية المنازعات في ميثاق الامم المتحدة.
السيناريو الثاني: استمرار الرفض الاثيوبيا للوساطة . تتخذ اثيوبيا موقف واضح من البداية ممثلاً في رفض دخول وساطة دولية لمسار الأزمة، فأديس أبابا تفضل المسارات الثنائية أو الثلاثية او برعاية طرف ثالث، دون أن يكون ذلك وفق وساطة دولية، تعرضها لضغوط، وتكشف موقفها أمام المجتمع الدولي، وهو ما تجلى بالفعل في رفض إثيوبيا لمقترح الوساطة الرباعية ، الأمر الذي قد تلجأ معه الأمم المتحدة في حال طلبت مصر والسودان ذلك إحالة ملف القضية مرة أخرى إلى مجلس الأمن، الذي سيكون أمامه إما أن يشكل لجنة دولية لبحث الأضرار والأخطار الفعلية الناتجة عن السد، ولهذه اللجنة أن توصي بإتخاذ قرار في هذا الشأن، أو أن يطلب رأياً استشارياً غير ملزم من محكمة العدل الدولية، والتي ستقوم بدورها في الفصل في هذه القضية، وتودع رأيها لمجلس الأمن، الذي سيتولى يمكنه وفق التوازنات الدولية في حينه اتخاذ قرار، استنادا إلى الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة.
السيناريو الثالث. التعامل بالأمر الواقع والتصعيد . إن فشل الأمم المتحدة – حال رعايتها لمفاوضات جديدة لأزمة سد النهضة- وعدم قدرتها على الوصول إلى حل يمكنه تحقيق مصالح الأطراف الثلاثة، وكذلك احتمالية عدم تمكن مجلس الأمن الدولي من إتخاذ قرار ملزم لإثيوبيا بالتوقف عن التصرفات الأحادية الإثيوبية في ملف سد النهضة، أو استخدام أي من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لحق النقض “الفيتو”، ضد أي قرار يمكن أن يصدر عن مجلس الأمن لفرض الإذعان وامتثال إثيوبيا لهذا القرار، سوف يجبر مصر والسودان علي اتخاذ كل ما يلزم للمحافظة علي حقوقهما المائية، مما ينذر بدخول الأزمة إلى منعطف خطير، قد يؤثر سلبا علي الأمن والسلم الدوليين.
ختاما. تنظر مصر بإيجابية إلى الوساطة الأممية، وإلى ما سبقها من وساطات إقليمية ودولية، ودائما ما أبدت دوما حسن النية تجاه هذا الملف، والذي عبر عنه الرئيس “عبدالفتاح السيسي” في غير مرة، منذ التوقيع على إعلان المبادئ المبرم بين الدول الثلاث بالخرطوم في 23 مارس/آذار 2015، في ظل المساعي الحثيثة المصرية والسودانية -المدعومة إقليميا ودوليا- للوصول إلى تسوية سلمية لأزمة سد النهضة، وتعول مصر ولا تزال على إمكانية نجاح المساعي الأممية في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، يُحقق مصالح كل الأطراف، ويحفظ الحقوق المائية لمصر والسودان، ويصبح على إثيوبيا إثبات جديتها الفعلية في البحث عن مخرج حقيقي للتعثر المتتابع للمفاوضات، بدلا من ترك الخيارات مفتوحة، تحمل المزيد من التكهنات حول ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع إن ظلت تلك الأزمة دون حل، ومن الأهمية أن تظل مصر متحسبة لكل الاحتمالات، وتكون قادرة على تجهيز بدائل وخيارات أخرى، للضغط على إثيوبيا، حال استمرار الخلاف وفشل المفاوضات.