هبوط أم تذبذب: إلى أين تتجه أسعار الذهب العالمية؟

تواصل أسعار الذهب العالمية انخفاضها، بعد الارتفاع القياسي الذى شهدته خلال الموجة الأولى من جائحة كورونا، والتي سجلت حينها أعلى ارتفاع، ليتجاوز سعر أوقية الذهب في الرابع من أغسطس 2020 ما قيمته ألفى دولار أمريكي.

تأسيسا على ما سبق، وبناءاً على اتجاه أسعار الذهب لانخفاض متواصل منذ السادس من يناير 2021، حتى وصل سعر الأوقية إلى 1696.25 دولار في الخامس من مارس 2021- يمكن قراءة ورصد تطورات أسعار الذهب العالمية منذ ظهور جائحة كورونا، وأسباب صعود أسعاره خلال الفترة الأخير- أي منذ بداية العام الجاري 2021، واتجاهاتها المستقبلية.

تطور أسعار الذهب العالمية منذ كورونا: 

الارتفاع التاريخي أثناء الموجة الأولى من الجائحة عام 2020:

أثبتت اتجاهات أسعار الذهب العالمية على مدار التاريخ تحركها وتأثرها السريع بالأحداث والأزمات العالمية لا سيما فى ظل علاقتها العكسية مع تحركات الدولار الأمريكي، انطلاقًا من اعتبار أفراد المجتمع أن المعدن الأصفر، هو الملاذ الأمن لحماية الثروات واستثمارها فى أوقات الأزمات الاقتصادية والتوترات السياسية والتجارية.

فمع مرور الاقتصاد العالمي بأسوأ حالة من الركود منذ أزمة الكساد الكبير 1929-1939، جراء انتشار جائحة كورونا، منذ ديسمبر 2019 وتفشيها السريع بغالبية دول العالم، تلاحظ تجاوز سعر أوقية الذهب ما قيمته 2000 دولار للأوقية لأول مرة فى التاريخ، وبالتحديد في 4 أغسطس من العام السابق 2020.

وعلى الرغم من وجود ارتفاعات قياسية فى أسعار الذهب العالمية لم تحدث من قبل- أي منذ انهيار نظام بريتون وودز عام 1970 وفصل قيمة الذهب عن الدولار الأمريكي، وذلك فى أعوام 1980 و2009 و2011، فإن صعوده في الموجة الأولى من الجائحة، كان أعلى ارتفاع قياسي فى أسعاره بعد الأزمة المالية العالمية 2008-2009 والتوترات السياسية عام 1979.

 فمن خلال تتبع أسعار أوقية الذهب الشهرية خلال الفترة (يناير-10 أغسطس) للعام 2020، نجد انها اخذت اتجاهًا تصاعديًا، بمعدل نمو بلغ 35% وارتفعت بنحو 529.8 دولار للأوقية، حتى بلغ سعر الأوقية 2044.5 دولار فى 10 اغسطس 2020.

وفى المقابل كان الارتفاع في أسعار الذهب عام 1979، جراء الحرب الباردة وبداية الغزو السوفيتي لأفغانستان فى ديسمبر والحرب الفينتامية الصينية تزامنا مع أزمة رهائن إيران في السفارة الأمريكية بطهران، حوالى 126.4% بمقدار 286 دولار للأوقية، ليصل سعر اوقية الذهب إلى 512 دولار مقارنة بـ 266 دولار للعام 1978.

 ومع حدوث الازمة المالية العالمية 2008-2009، صعدت أسعار الذهب بنسبة 25% فى العام 2009 وبنسبة 29% للعام 2010، حتى بلغت 1405.5 دولار، وتزامناً مع الثورات العربية منذ عام 2011، بالإضافة إلى تصاعد مخاوف المستثمرين بسبب ازمة الديون في الولايات المتحدة واوروبا، ارتفع الاوقية بنسبة 5.7% فقط وبمقدار 125.5 دولار، ليبلغ سعر الاوقية 1531 دولار.

 التراجع الكبير منذ بداية العام الحالي 2021:

في اتجاه معتاد عليه من أسعار الذهب العالمية، أن تشهد هبوط كبير بعد أي صعود تاريخي تمر به. فقد تراجعت أسعار الذهب بشكل مستمر منذ 5 يناير 2021، حتى بلغ سعر الأوقية 1696.25 دولار في 5 مارس 2021، مقارنة بـ 1943 دولار للأوقية في 4 يناير من نفس العام، وذلك بانخفاض قدره 12.7%، خلال هذه الفترة، وبانخفاض قدره 17.2% عن ذروة الارتفاع في الموجة الأولى من الجائحة.

أسباب الهبوط الأخير فى أسعار الذهب العالمية:

دفعت العديد من العوامل إلى حدوث الانخفاض الأخير في أسعار الذهب العالمية منذ بداية العام الحالى 2021، وتتمثل هذه العوامل، والتي ترتبط جميعها بعامل الطلب، فيما يلى:

الارتفاع في عوائد السندات الأمريكية:

شكل ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأمريكية بآجالها المختلفة منذ 5 يناير 2021، العامل الأكثر تأثيرا على أسعار الذهب العالمية، مما دفع إلى تحويل المستثمرين والمدخرين أموالهم من المعدن الأصفر إلى سندات الخزانة الأمريكية ذى العائد الأعلى، حيث ارتفع عائد السندات الأمريكية لأجل 10 أعوام ليسجل 1.597% في 8 مارس 2021 مقارنة بـ 0.917% في 4 يناير 2021، وهو أعلى ارتفاع منذ يناير 2020، وارتفع عائد السندات لأجل 30 عامًا إلى 2.31%.

الارتفاع فى قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات الرئيسية الأخرى، في ظل وجود آمال اقتصادية جديدة:

لقد ساهم الارتفاع في قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات الرئيسية الأخرى في الفترة الأخيرة في انخفاض أسعار الذهب العالمية، فى ظل العلاقة العكسية التى تجمع بين الدولار والمعدن الأصفر المقوم بالدولار. فإذا نظرنا إلى مؤشر الدولار الأمريكى، نجد أن قيمة الدولار الأمريكى قد أخذت في التذبذب منذ بداية العام الحالى 2021، ولكنها غلب عليها الاتجاه نحو الارتفاع.

لقد بلغ مؤشر الدولار الأمريكى، وهو المؤشر الذى يعتبر مقياسا لقيمة الدولار أمام سلة من العملات (اليورو والين الياباني والجنيه البريطاني والدولار الكندى والكرونة السويدية والفرنك السويسرى) يمثل اليورو الوزن الأكبر بها، وذلك قبل ارتفاعه الأخير ليصل إلى 93.63 فى 11 أغسطس 2020، نحو 92.33 مقابل العملات الأخرى فى 8 مارس 2021، مقارنة بـ 89.87 في 4 يناير من نفس العام.

وقد تأثر الارتفاع الأخير للدولار في مواجة الذهب بعدة عوامل: من أهمها: تولى “جو بايدن” رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية فى 20 يناير 2021. والتوقعات بتغيير السياسات الصارمة التي اتبعها الرئيس السابق ” دونالد ترامب” وخلافاته مع بعض الدول كالصين ودول أوروبية. وارتفاع عوائد السندات الأمريكيى، وخطة التحفيز التي وضعتها إدارة الرئيس “بايدن” لتحفيز الاقتصاد الأمريكى في مواجهة لتداعيات جائحة كورونا، والتى أقرها مجلس الشيوخ الأمريكي في 7 مارس 2021. هذا بالإضافة إلى تراجع أعداد إصابات كورونا حول العالم مع انتشار حملة التطعيم باللقاحات بالعديد من الدول، وكان كل هذا بمثابة رسالة طمأنينة للمستثمرين للتوجه إلى شراء الدولار الأمريكي والتخلي عن الملاذ الآمن للاستثمار “الذهب”.

 ويعتبر ذلك الانخفاض الذى شهدته هذه القيمة منذ 3 نوفمبر 2020 وحتى 5 يناير 2021، تأثرا بالارتفاع الكبير في أعداد الإصابات بحالات كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية، والاضطرابات في الداخل الأمريكى.

تراجع حيازة الذهب في صناديق المؤشرات المتداولة في البورصات العالمية:

مع عزوف المستثمرين عن الأصول الاكثر أمانًا (الذهب)، خسرت صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب نحو 84.7 طن في فبراير 2021 ، مسجلة بذلك تدفقات خارجة للمرة الثالثة في أربعة أشهر، وسابع أسوأ خسارة تاريخية للممتلكات الشهرية.

المصدر: اعداد الباحثة، بالاعتماد على احصائيات مجلس الذهب العالمى

ارتفاع قيمة العملات الرقمية:

تسبب الارتفاع الأخير في العملات الرقمية (الافتراضية)، في توجه الكثيرين للاستحواذ على هذه العملات لتحقيق أرباح عند البيع، والتى تعتبر أعلى بكثير من تلك التي يمكن جنيها من الذهب. فبأخذ عملة البيتكوين كمثال، والتى تعتبر من أشهر العملات الرقمية، ارتفع سعر البيتكوين مقابل الدولار الأمريكى بنحو 194% خلال الفترة 5 ديسمبر 2020 إلى 26 فبراير 2021، حيث سجل أعلى قيمة له في 26 فبراير مسجلا 57.13 دولار للبيتكوين الواحد مقارنة بـ 19382.36 دولار في 5 ديسمبر 2020، وعلى الرغم من تراجعه الطفيف بعد هذه الفترة، إلا أن السعر مازال أعلى من 54 ألف دولار حتى 10 مارس 2021.

الاتجاهات المستقبلية لأسعار الذهب العالمية:

بعد الانخفاض الأخير الذى شهدته أسعار الذهب العالمية منذ بداية العام الحالى، وتجدد الآمال بتعافى الاقتصاد العالمى من تداعيات جائحة كورونا بعد إنتاج اللقاحات، وزيادة حملات التطعيم حول العالم ضد الجائحة، أصبح هناك ثلاث سيناريوهات مستقبلية لأسعار الذهب العالمية فى الأجل القصير، وذلك كما يلى:

السيناريو الأول: مواصلة الانخفاض فى أسعار الذهب: فمن المتوقع أن تواصل أسعار الذهب العالمية التراجع فى الأجل القصير، ويستمر هذا خلال عام 2021، حتى يسجل الذهب الهبوط التاريخى، ويدعم هذا السيناريو عدد من الاتجاهات، وهى:

اكتشاف لقاحات ضد فيروس كورونا المستجد، وتوسع حملات التطيعمات ضد الجائحة حول العالم، وإعلان بعض الشركات المنتجة للقاحات عن خطتها للتوسع في الإنتاج خلال العام القادم 2022.

انخفاض حدة الموجة الثانية من جائحة كورونا مقارنة بالموجة الأولى.

ارتفاع عائد السندات الأمريكية، وارتفاع سعر العملات الافتراضية مقابل الدولار الأمريكى.

السيناريو الثانى: ارتفاع أسعار الذهب العالمية: ويتحقق هذا السيناريو في حال عودة الارتفاع الكبير في إصابات جائحة كورونا حول العالم، لاسيما بالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وظهور سلالات أخرى جديدة من الجائحة تكون أشد من الأولى، أو فشل خطة الرئيس الأمريكى “بايدن” في انعاش الاقتصاد الأمريكى. وبالتالي تعمق حالة الركود التي يمر بها الاقتصاد الأمريكى، ومن ثم التأثير على الاقتصاد العالمى ككل، وعزوف المستثمرين عن شراء السندات الأمريكية وتراجع قيمة الدولار أمام العملات الأخرى.

وعلى الجانب الأخر من الممكن أن يتحقق هذا السيناريو في حالة اتباع “بايدن” نفس سياسات “ترامب” مع الصين، وبالتالي صعود الحرب التجارية بين أكبر اقتصاديين فى العالم من جديد، أو اشتداد التوترات فى منطقة شرق المتوسط.

 السيناريو الثالث: استمرار تذبذب أسعار الذهب العالمية بين الصعود والانخفاض: ويرتبط ذلك بالأحداث الاقتصادية المتغيرة، وعدم استمرار أياً من العوامل المؤيدة لكل من الاحتمالين السابقين، وكذلك عدم حدوث تغييرات جديدة فى الاقتصاد العالمى، من شأنها التأثير على أسعار الذهب العالمية بشكل كبير، لاسيما اتجاهات الدولار الأمريكى، واستمرار حالة عدم اليقين بشأن جائحة كورونا.

 وفى ظل الوقت الحالى، والظروف الراهنة التي يمر بهذا الاقتصاد العالمي، فمن المتوقع تحقق السيناريو الأول والثالث فى الأجل القصير، حيث تدفع جميع الاحداث الراهنة والمحتملة إلى اتجاه المدخرين والمستثمرين لأوعية ادخارية تحقق عائدا أعلى من الذهب، أو تنويع الأوعية الادخارية بين الحين والأخر مع صعود المخاوف أو هبوطها بشأن التغيرات الاقتصادية المستقبلية.

قمر ابو العلا

باحثة مشاركة بوحدة دراسات مصر، وباحثة دكتوراة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، شاركت في العديد من التقارير والدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الشئون المصرية والخارجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى