حياة كريمة للقرية المصرية (2)
د. أحمد زايد
رغم تشابه القرى المصرية «التى يقدر عددها بنحو 4741 بخلاف التوابع» فى كثير من الخصائص، فإنها تتمايز أيضاً وتكشف عن خصوصيات ترتبط بطبيعة الموارد التى تعتمد عليها، وخلفيتها التاريخية، وطبيعة التغيرات الداخلية الخاصة بها. وإزاء ذلك يكون من الضرورى أن نتبنى مدخلاً تنموياً يتخذ من العمومية والخصوصية مبدأ فى إدارة التنمية وفى تحديد أولوياتها.
فعلى مستوى إدارة التنمية، فإن مبدأ العمومية والخصوصية يفرض إمكانية أن تتعدد مستويات الإدارة بين المركزية والمحلية. فالإدارة المركزية للمشروع تكون قادرة على وضع الرؤية والرسالة، وتحديد خريطة مرنة للأولويات العامة، وإعداد أطر للتنفيذ والمراقبة والتقويم وقياس الأثر، وضبط عمليات الإنفاق وترشيدها، ومنع تسرب الأموال فى مسارب جانبية أو أمور شكلية لا طائل من ورائها. ولكن وجود هذه العين المركزية لا يغنى عن وجود كيان محلى يمكن أن يتشكل على مستوى كل قرية أو الوحدة المحلية، يضم أفراداً ذوى دراية بالموارد المحلية، ولديهم من القدرة والكفاءة والاستعداد الشخصى للمساعدة وبذل الجهد والوقت فى سبيل المصلحة العامة وعدم انتظار أى إثابات مادية. ومن نافلة القول تأكيد أن تكوين هذا الكيان لابد أن يتم وفقاً لمبدأ الجدارة والاطمئنان، والابتعاد عن أى شكل من أشكال المحاصصة العائلية.
وإذا كان مبدأ العمومية والخصوصية ضروريا فى الإدارة، فهو أشد أهمية فى ترتيب الأولويات. فمن المعروف أن للريف مشاكل عامة واضحة للعيان. ولكن المشاكل العامة يجب ألا تجعلنا نغض الطرف عن الخصوصيات، التى يمكن أن تدلنا على تدفقات محلية كثيرة يمكن أن تكون نويات لمزيد من تنمية القوى الإنتاجية فى الريف. وإذا ما بدأنا بالعموميات فسوف نجد أن القرى المصرية تعانى مشكلات مشتركة يمكن حصرها فى ثلاث مشكلات، الأولى تتعلق بالإطار البيئى العام؛ هنا نستطيع أن نرصد أولويات كثيرة مثل نظافة القنوات المائية والعناية بالطرق المؤدية إلى القرية، والخارجة منها، وحل مشكلات التخلص من المخلفات الصلبة، وتنظيف شوارع القرية وتسويتها ورصفها بطريقة ملائمة، ومنع سوء استخدامها، وتنظيم عملية التخلص من المخلفات الزراعية بدلاً من قذفها فى مجرى النهر. أما المشكلة الثانية فتتعلق بالمرافق كالمياه والكهرباء والصرف الصحي، ويجب أن تحظى مشكلة الصرف الصحى بعناية خاصة لأنها تؤثر على الصحة العامة، فحلها سوف يخلص القرى من مشكلة تلوث مياه الشرب وما يرتبط بها من أمراض. أما المشكلة الثالثة؛ فتتصل بالخدمات والتى يأتى على رأسها الخدمة الصحية؛ نظراً لأن جل الوحدات الصحية الريفية مغلقة وتعانى نقصا شديدا فى الأطباء، وبعضها يكاد يتهدم من فرط الإهمال. ثم تأتى بعد ذلك المدارس التى يحتاج الكثير منها الى إعادة بناء أو إعادة صيانة وتأهيل، والوحدات الخدمية المرتبطة بالتعامل مع الجمهور والتى تغط بالفساد، وتنقصها كل أساليب الحوكمة والشفافية.
ويجب ألا تقتصر هذه التدخلات العامة على داخل القرية، بل يجب العمل على خلق نويات تنموية أكبر فى محيط القرى وفى ظهيرها الصحراوي. وهذه النويات التنموية سوف تعمل على المدى الطويل على جذب أعداد كبيرة من القوى العاملة العاطلة، كما أنها سوف تسهم فى خلق مجتمعات حولها تساعد فى تخفيف الكثافة السكانية فى القرى. وقد أعطى هنا مثالاً لمثل هذه النويات التنموية الكبرى، فعلى جوانب طريق الصعيد الصحراوى الغربى الذى يمتد لمسافات طويلة بمحاذاة قرى الصعيد، على جوانب هذا الطريق يمكن بناء ثلاث جامعات جديدة، وثلاثة مصانع جديدة للأثاث أو الصناعات الغذائية أو الأدوات الكهربائية، كما يمكن إقامة محطات لتوليد الطاقة الكهربائية الشمسية لدعم الشبكة الكهربائية الرئيسية. ولدينا محافظات عديدة فى الدلتا لها ظهير صحراوى يمكن أن يستوعب مشروعات مماثلة، وهو أمر ينسحب بطبيعة الحال على سيناء وكل المحافظات الحدودية.
ولكن كل هذا لا يمنع أبدا من أن نعول على مبدأ الخصوصية، بأن ننظر فى داخل القرى، لكى نكتشف، ما أحب أن أطلق عليه، التدفقات التنموية من أسفل. فالقرى المصرية لا تخلو من أنشطة اقتصادية غير زراعية، ولقد قام أهل قرى عديدة بالشروع فى مشروعات فى مجالات مختلفة قدمت نماذج ناجحة لريادة الأعمال المستقلة التى تعمل فى صمت. فالإنسان المصرى يتفاعل دوماً مع بيئة، ويحاول أن يشتق لنفسه أساليب للعيش، وهو يقدم دائماً على مبادرات فردية، رأيناها تظهر فى بعض القرى التى اشتهرت بصناعة الأثاث، أو صناعة السجاد، أو صناعة الملابس، ولقد توسعت هذه المبادرات الاستثمارية فى فترة السبعينيات وما بعدها بفضل ما توافر لدى البعض من أموال جلبت من العمل فى الخارج، فرأينا أن هذه المبادرات الاستثمارية تدخل إلى مجالات جديدة مثل تربية الدواجن والماشية واستصلاح الأراضي، والمزارع السمكية، بل وتدخل فى مجال التكنولوجيا؛ حيث رأينا بعض القرى تتخصص فى صناعة أدوات الحرث وإعداد الأرض للزراعة وتنقية الحبوب، وأخرى تتجه نحو صناعة أعمال الحديد المزخرف، أو الصناعات الخشبية بما فى ذلك صناعة الأثاث . بل إن هذه المبادرات امتدت إلى الخدمات فظهرت بواكير لمدارس ومستشفيات خاصة فى بعض القرى. وكل هذه المبادرات الاستثمارية ترتبط بخصوصية المكان، والأسواق المتاحة للبيع، وهى تشكل كما ذكرت تدفقات تنموية قادمة من أسفل. ونحن بحاجة إلى النظر إليها، والتعرف عليها، ومساعدة أهلها على تنميتها والتوسع فيها. وقد أَتَجَرَّأُ بأن افترض هنا بأن التوسع فى هذه النويات التنموية المحلية، وربطها بسلاسل من الصناعات الصغيرة المجاورة يمكن أن يشكل بداية لتصنيع الريف، وتنويع مصادر الدخل فيه. وإذا كانت جل هذه الاستثمارات قد جاءت من مستثمرين صغار من الطبقة الوسطى، فإن دعمها وتقويتها لا يعمل فقط على تحقيق الأهداف التى أشرنا إليها، ولكنه يعمل أيضاً على تقوية الطبقة الوسطى، وتوسيع قاعدتها، وتأسيس عمليات التحضر التى يخبرها الريف على أسس إنتاجية تقف جنباً إلى جنب مع الزراعة. ولاشك أن كل ذلك لا يكتمل إلا ببناء الإنسان الذى يتطلب منا وقفة خاصة.
نقلا عن الأهرام