الثورة والمصالحة في الذاكرة التاريخية للجزائر

د. على الدين هلال

يتسم تاريخ الجزائر بعدة سمات يجعله فريداً بين كل الدول العربية. ففضلاً عن الاحتلال الفرنسى المبكِّر لها عام 1830، فإنه تم ضمها قانونيًا لتصبح إحدى مقاطعات الدولة الفرنسية، وقدم إليها آلاف الفرنسيين والأوروبيين للاستيطان فيها. ترتبت على هذا علاقة معقدة وشائكة بين الجزائر وفرنسا، فقد عاش الجزائريون لفترة كمواطنين فرنسيين، وكان لهم ممثلوهم فى البرلمان، وسعت فرنسا إلى فرنسة المجتمع الجزائرى لغوياً وثقافياً تحت شعار الجزائر فرنسية. لم يكن الأمر إذن مجرد احتلال عسكرى وهيمنة سياسية، بل تجاوز ذلك ليكون استلاباً للهوية واللغة، ومسخاً للشخصية الوطنية، واستعماراً استيطانياً.

فى ضوء ذلك، يمكن فهم الجانب الثقافى من الحركة الوطنية الجزائرية الذى بلوره الشيخ عبدالحميد بن باديس «1889 -1940» فقام بتأسيس جمعية علماء المسلمين عام 1931، ورفعت شعارالإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا، وألهمت هذه الأفكار الشباب الذى فجَّر الثورة الجزائرية فى نوفمبر 1954. وفى ضوء ذلك أيضاً، يمكن فهم التجاذبات السياسية والرمزية بين الجزائر وفرنسا فى السنوات الأخيرة والتى كان من أهم مظاهرها المشكلة العالقة بشأن الأقدام السوداء، وهم المستوطنون الفرنسيون والأوروبيون الذين قدموا إلى الجزائر أو ولدوا وعاشوا فيها حتى مُغادرتهم إياها عقب استقلالها عام 1962. وقد أُطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى لون أحذية الجنود الفرنسيين، وبلغ عددهم نحو المليون حسب إحصاء عام 1960، وظهرت منهم شخصيات فكرية واجتماعية بارزة مثل المفكر ألبير كامو، والمغنى أنريكو ماسيوس، ومصمم الأزياء إيف سان لوران.

وفى السنوات التالية، قام أبناء وأحفاد هؤلاء المستوطنين برفع مئات القضايا أمام المحاكم الجزائرية للمطالبة بممتلكات ذويهم من مبان ومزارع اضطروا لتركها، حسب دعاويهم، بسبب فرارهم من الجزائر خوفاً من عنف الثوار وانتقامهم. وظل هذا الموضوع مصدراً لتعكير صفو العلاقات بين البلدين، فلم يكن مجرد خلاف سياسى بين الحكومات ولكن صراع بين ذاكرتين تاريخيتين، وبين فهمين للماضي.

فمن وجهة نظر الأقدام السوداء، فإنهم يعتبرون الجزائر وطنهم الأصلى الذى عاش فيه آباؤهم وأجدادهم، وانخرطوا فى أنشطته، واشتغلوا بكل المهن فيه، ثم أجبرتهم الظروف على مغادرته تاركين وراءهم بيوتهم وممتلكاتهم. أما وجهة النظر الجزائرية، فتتمثل فى أن هذه المطالب لا أساس قانونيا لها، فهؤلاء لم يطردهم أحد من الجزائر بل غادروا طواعية، ومن ثَم فقد أصبحت أملاكهم بنص القانون الجزائرى شاغرة بعد ترك أصحابها لها، وأن الجزائر قدَّمت بالفعل التعويضات المناسبة. ويُضيف المؤرخون الجزائريون أن كثيراً من هؤلاء حصلوا على ممتلكاتهم بالاغتصاب، وأنهم كانوا جزءاً من مشروع استعمارى استيطانى تدعمه القوة الغاشمة التى مارست شتى أساليب القهر والقتل ضد الجزائريين.. تداخل موضوع الأقدام السوداء مع قضايا أخرى منها الآثار الصحية والبيئية لقيام فرنسا بتجارب نووية فى الصحراء الجزائرية، وقضية ملايين الألغام الأرضية التى زرعتها القوات الفرنسية لوقف خطوط الإمداد للثوار الجزائريين، وقضية حصول الجزائريين الذين حاربوا فى صفوف الجيش الفرنسى على الجنسية الفرنسية، وقضية استفادة الجزائريين من قرار المجلس الدستورى الفرنسى فى 2018 بأحقية المدنيين الجزائريين الذين أضيروا فى سنوات الحرب فى الحصول على تعويضات بعد ان كانت مقصورة على الفرنسيين فقط. وتحولت هذه القضايا لتصبح جزءاً من الجدل السياسى الداخلى فى البلدين.

ورغم تعدد قضايا الخلاف، فقد ظلت العقدة الرئيسية هى ما تختزنه الذاكرة التاريخية للجزائريين من شعور بالظلم لما قامت به السلطات الاستعمارية الفرنسية ضد بلادهم. وكانت هناك محاولات فرنسية للتقارب، فقام الرئيس فرانسوا أولاند بالسفر إلى الجزائر فى ديسمبر 2012، وألقى خطاباً ورد فيه أن مجازر عام 1945 تظل راسخة فى ذاكرة الجزائريين والفرنسيين، وأنها كانت شاهدة على عدم احترام فرنسا لقيمها العالمية، وأدان الممارسات الفرنسية ووصفها بالظلم. ولكن هذه الإشارات لم تكن كافية للجزائريين الذين تطلعوا إلى اعتذار مباشر. وتكرر الأمر مع الرئيس ماكرون الذى وصف السياسة الفرنسية فى الجزائر بأنها كانت أمراً بشعاً، وقام بزيارتها فى 2017.. وعقب اتصالات بين الرئيسين الفرنسى والجزائرى عام 2020، سلَّمت فرنسا للجزائر فى يوليو 24 جمجمة لقادة المقاومة الجزائرية خلال السنوات الأولى من الاحتلال، وتم استقبالها رسمياً ودفنها فى احتفال مهيب. وكلَّف ماكرون المؤرخ الفرنسى بنجامين ستورا بإعداد دراسة عن الاستعمار الفرنسى فى الجزائر والروابط التى تجمع بين البلدين. وفى يناير 2021، رفع ستورا تقريره الذى انتقده المؤرخون والإعلام الجزائري. واستمر ماكرون على موقفه الرافض لتقديم الاعتذار الذى يتطلع إليه الجزائريون.

تبقى ذكريات الحقبة الاستعمارية حية فى الذاكرة التاريخية للجزائريين، ورغم تقادم العهد فما زال المجاهدون الجزائريون ينتظرون كلمة الاعتذار، وتبقى حية أيضاً لدى الأقدام السوداء وذويهم، والفرنسيين من أصول جزائرية والذين يبلغ عددهم 3 ملايين. وصراع الذكريات من أصعب الأمور على الحل أو التفاوض ففيها تختلط الحقائق بالأساطير، والعقل بالعاطفة، ثم أنها تتعلق بالهوية وإدراك البشر لذواتهم وللآخرين.

لذلك، تبقى القضية عالقة بين طرفٍ يشعر بالظلم ويطلب الاعتذار، ويرى أن المصالحة بين الجانى والضحية غير ممكنة، وطرف آخر يرى أن ما حدث من قرابة قرنين تم فى بيئة مختلفة تماماً وأن الزمن كفيل بالنسيان وطى صفحة الماضي، وبدء فصل جديد من العلاقات بين البلدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى