دوافع مشبوهة: لماذا يهاجم الحراك الجزائري في نسخته الثانية الجيش والمخابرات؟
بعد انقطاع دام عام فرضته إجراءات الحجر الصحي لمواجهة جائحة “كوفيد-19″،عاد الحراك في عامه الثاني، وعادت معه مسيرات يوم الجمعة. وقد حلت ذكراه الثانية في ظروف سياسية تختلف عن تلك التي ظهر فيها في 22 فبراير 2019. فالجزائر اليوم لديها رئيس منتخب، والمؤسسات الدستورية قائمة، ومن ثم فإن هناك تساؤلات عديدة تطرح حول دوافع وأهداف من يطالبون بالعودة إلى الشارع.
حراك بملامح مغايرة:
لقد نجح الحراك الأصيل الذي بدأ في 22 فبراير 2019 في تحقيق أهدافه؛ فقد أسقط العهدة الرئاسية الخامسة، وأفشل مشروع تمديد العهدة الرابعة. وبضغط من الجيش اضطر الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى تقديم استقالته في 2 أبريل 2019 إلى رئيس المجلس الدستوري بعد عقدين من حكم البلاد. كما استجابت قيادة الجيش لمطلب أخر من مطالب الحراك ألا وهو محاسبة العصابة، فاعتقل كبار المسئولين في نظام حكم بوتفليقة من رؤساء وزراء ووزراء وحلفائهم من رجال أعمال، ولا زالت المحاكمات مستمرة. وتعهد قائد الجيش السابق الفريق الصدر أحمد قايد صالح رحمه الله بحقن دماء الجزائريين، وهو ما حصل بالفعل، حيث لم تسل قطرة دم واحدة طيلة تسعة أشهر (فبراير 2019 – ديسمبر 2019)، من المرحلة الانتقالية الدستورية. وقد توج هذا المسار بتنظيم الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر 2019 فاز بها الرئيس عبد المجيد تبون. وفور تنصيبه تعهد الرئيس الجديد بوضع دستور جديد لتصحيح بعض الاختلالات في نظام حكم بوتفليقة. كما قرّر دسترة الحراك بجعل تاريخ 22 فبراير يوماً وطنياً للتلاحم بين الشعب وجيشه. وتأتي هذه الخطوة رداً على حملات التحريض ضد الجيش وقياداته قصد كسر الرابطة “جيش – أمة”.
شعارات مشبوهة:
يصف الخطاب الرسمي في الجزائر الحراك “بالأصيل والمبارك”، والمقصود منه أن هناك حراكين على النقيض تماماً من بعضهما البعض؛ الأول أصيل ومبارك لأنه استطاع تخليص المجتمع من حكم العصابة. أما الثاني فهو حراك مختطف من قبل التيار الفرنكو- بربري. الحراك الأصيل يُشيد بجهود الجيش في حقن دماء الجزائريين، وبالحس الوطني لقيادته. أما الحراك المختطف فيرفع شعارات معادية للجيش وقيادته ويتهمها بالعمالة. ويطالب بالخروج عن الدستور والدخول في مرحلة انتقالية تسند إدارتها إلى رموزه.
ومن بين الشعارات التي رفعها المتظاهرون في الجمعة 106 الموافق لـ(26 فبراير 2021)؛ نذكر شعار “مدنية مش عسكرية”، و”يسقط حكم العسكر”، و”مخابرات إرهابية”، كما وصفوا الشرطة بـ”شرطة الاحتلال”. وفي العاصمة رفع المتظاهرون صور نائب رئيس جبهة الإنقاذ علي بن حاج إلى جانب صور الرئيس المعزول محمد مرسي، عضو جماعة الإخوان الإرهابية. وردّد البعض الأخر شعارات جبهة الإنقاذ المحظورة مثل “عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد”.
ويمكن تفسير هذا العداء تجاه المؤسسة العسكرية بإصرار القيادة العليا للجيش على الحفاظ على قدسية الرابطة “جيش- أمة”، الأمر الذي لم يرق إلى فرنسا التي يبدو أنها لم تستفق بعد من صدمة فقدانها السيطرة على قيادتي الجيش والمخابرات في الجزائر منذ 2015، تاريخ إحالة مدير المخابرات السابق الفريق محمد مدين على التقاعد.
لقد شهدت الجزائر في 2019 صراعاً بين طرفين؛ الأول يتمثل في الجيش والأغلبية الشعبية (الحراك الأصيل)، والطرف الثاني هو الدولة العميقة ومن وراءها فرنسا وسفيرها في الجزائر الذي كان يدير خيوط اللعبة من وراء الستار. وقد كان لهذا الصراع مظاهر عديدة (عسكري، استخباراتي، سياسي، وإعلامي). على الصعيد العسكري أجرى الجيش الجزائري عديد المناورات والتمارين بالذخيرة الحية في كامل النواحي العسكرية منذ استقالة الرئيس السابق. وهي تدريبات أرادت قيادة الجيش من خلالها توجيه رسائل إلى فرنسا وحلفاءها في المنطقة مؤداها أن الجزائر جاهزة لأسوأ السيناريوهات.
على المستوى الاستخباراتي نجحت المخابرات الجزائرية ومختلف الأجهزة الأمنية (الدرك ومخابرات الشرطة وقوات مكافحة الشغب) في تأمين الحراك من أي اعتداءات إرهابية سواء من قبل بقايا الجماعات الإرهابية، أو من قبل عملاء المخابرات الفرنسية، قصد تفجيره من الداخل والدفع بالأمور نحو الفوضى، وإرغام الجيش على إعلان حالة الطوارئ وتعطيل العمل بالدستور، والنزول إلى الشارع، الأمر الذي قد ينجم عنه حدوث صدامات عنيفة مع المتظاهرين. لقد بدت قيادة الجيش متقدمة من حيث الوعي السياسي على بقية الفاعلين السياسيين، ومدركاً لحجم المخاطر الناجمة عن المراحل الانتقالية.
وهذا ما جعل المؤسسة العسكرية الجزائرية هدفاً لحرب إعلامية شرسة شنتها قناة “فرانس-24” الذراع الإعلامية للمخابرات الخارجية الفرنسية (DGSE)، على الجزائر ومؤسساتها السيادية، حيث أتاحت الفرصة لنشطاء التيار الفرنكو-بربري للتهجم على الجيش وقيادته، بالتنسيق مع قناتي “المغاربية” والشرق الممولتين من قبل جماعة الإخوان الإرهابية. كما شهد الفضاء الأزرق جزء من هذا الصراع حيث تم فتح عشرات الحسابات الوهمية مهمتها نشر الإشاعات وتخرب الوعي الجماعي للجزائريين. في مقابل ذلك أسست قيادة الجيش المركز الوطني لأنظمة الاتصالات والحروب الالكترونية في 27 أكتوبر 2019. وفي خطاب ألقاه في هذه المناسبة أكد رئيس الأركان السابق أن حروب المستقبل هي حروباً إلكترونية، وهو ما يؤكد مستوى إدراك قيادة لطبيعة الصراع ورهاناته.
دور مشبوه:
لقد كشفت أحداث 2019 حقيقة الدور المشبوه للسفير الفرنسي في الجزائر، قصد إفشال مشروع الانتخابات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أغلب سفراء فرنسا في الجزائر ينتمون إلى جهاز المخابرات، ومن ثم فإن الخلفية الأمنية والاستخباراتية هي التي تهيمن على إدراكهم العملية السياسية في الجزائر. والسفير الحالي فرانسوا غويات لم يشذ عن القاعدة، إذ تم قبول أوراقه بتاريخ 29 يوليو 2020، ليجد نفسه في أكتوبر الماضي في قلب ضجة إعلامية بعد دخوله في اتصالات مع دعاة المرحلة الانتقالية في الجزائر، مستغلاً وجود الرئيس “تبون” في ألمانيا لتلقي العلاج. بالموازاة مع تصريح الرئيس الفرنسي لمجلة “جون أفريك” بأنه على استعداد لمرافقة الرئيس “تبون” لإنجاح المرحلة الانتقالية. قد طالب بعض نواب البرلمان من الخارجية الجزائرية استدعاء السفير الفرنسي، وطالبوا من السلطات فتح تحقيق حول تحركاته المشبوهة. لكن السلطات الجزائرية ردت بأسلوبها على هذه القضية، حيث صرّح وزير الإعلام والناطق باسم الحكومة الجزائر لموقع “الميادين. نت” بتاريخ 16 ديسمبر 2020،؛ بالقول بأن هناك قوانين تحكم العمل الدبلوماسي، مؤكداً ضمنياً رفض الحكومة لتصريحات الرئيس الفرنسي.
حرب الكترونية ضد الدولة:
يأتي الحراك في نسخته الثانية في ضوء تحذيرات وزارة الدفاع الوطني الرأي العام المحلي من خطورة الانسياق وراء الإشاعات المغرضة التي تغزو منصات التواصل الاجتماعي. وأكدت قيادة الجيش بأن الجزائر تتعرض حالياً إلى حرب الكترونية انطلاقاً من الخارج، قصد تفجيرها من الداخل عبر تمويل المظاهرات المعادية للمؤسسات السيادية، ضمن مخطط لزعزعة استقرار البلاد، والضغط على النظام ودفعه إلى تقديم تنازلات سياسية في ملفات إقليمية عديدة. ولا يمكن فصل ما يجري في الجزائر حالياً بما يجري في إقليمها المضطرب، دون أن ننسى تصريح رئيس الوفد الإسرائيلي للصحافة، عقب لقاءه المسئولين المغاربة، بأن بلاده ستعمل على تغيير المنطقة بما فيه مصلحة الشعبين. والتغيير قد يكون بالقوة الناعمة بالعصف الذهني لوعي شعوب المنطقة.
كما لا يمكن فصل ما يجري في الجزائر حالياً عن الوضع في شمال مالي، حيث تعمل فرنسا على نشر الفوضى في هذا البلد وزعزعة استقراره، للضغط على الجزائر وتعطيل تجسيد مشروع طريق الحرير الذي انضمت إليه الجزائر مؤخرا.
ختاماً، يمكن القول إن الحراك في الجزائر قد انتهى فعلياً وأن مبرراته قد انتفت، وأن ما نشهده حالياً لا يعدو أن يكون محاولات من فرنسا وعملاءها في الداخل للضغط على النظام لإعادة التموقع داخل النسق السياسي، والحصول على تنازلات في ملفات إقليمية عديدة. ويبدو أن الحراك في نسخته الثانية لم يستفد من أخطاء الحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية. فمن بين الأسباب الرئيسية لانطفاء جذوته هو استعداء المؤسسات الأمنية، لأن حسم معركة فرض المعايير بين الدولة والتنظيمات الاجتماعية، دائما ما يكون من قبل الطرف الذي يملك القوة الصلبة ( الجيش).